في مثل هذه اللحظات من اثني عشر سنة مضت، تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى فضاء للتحدي، وعجّت بدعوات الانتفاض ضد نظام كتم الأنفاس لأزيد من أربعة عقود.. ولأول مرة يسود شعور جماعي بأن زمن الخوف قد ولى وانتهي..
المزيد من الملفات الخاصةليبيا المستقبل (خليفة علي حداد): في مثل هذه اللحظات من اثني عشر سنة مضت، تحولت شبكات التواصل الاجتماعي إلى فضاء للتحدي، وعجّت بدعوات الانتفاض ضد نظام كتم الأنفاس لأزيد من أربعة عقود.. ولأول مرة يسود شعور جماعي بأن زمن الخوف قد ولى وانتهي..
على مدار العقود الأربعة التي تربع فيها القذافي ومنظومته الأمنية الأخطبوطية على كرسي الحكم لم تخل أي مرحلة من المراحل من شجاعة الشجعان الذين سعوا إلى مواجهة آلة الجبروت القاسية بإمكانياتهم المحدودة، غير أن كل تلك المحاولات ظلت مقتصرة على الطلائع الفدائية من المثقفين والطلاب والسياسيين والحقوقيين والضباط، فيما كان السواد الأعظم من المجتمع يراقب الأجساد المتدلية من المشانق في الساحات العامة، منقسما بين فئة تهتف بحياة الصقر وتمثل بالجثث في هستيريا غوغائية غرائزية، وفئة تتألم في صمت ورعب بلا حول له ولا قوة، وأخرى انصرفت إلى شؤونها الشخصية الضيقة لا تبالي بما يجري بين ظهرانيها..
في خضم هذا الخراب السياسي والاجتماعي والقيمي، ووسط جماهيرية الرعب بأجهزتها الاستخبارية والأمنية وأذرعها الميليشياوية التي لا ترحم، مثلت لحظة فبراير مناسبة أشبه بالمعجزة، إذ لم يكن من اليسير الخروج بوجوه مكشوفة والدعوة إلى إنهاء منظومة مدت جذورها المتشابكة والمعقدة لأربعة عقود ومواجهة حكم دموي سادي ورث عن المستعمر الإيطالي تقليد حفلات الشنق والتنكيل والتمثيل بالجثث في الساحات العامة..
وبين المعجزة التي تحققت بزوال الخوف المعمّم ومعطيات الواقع الموضوعية، لاشك أن أي متابع موضوعي يدرك أن عوامل عدة اجتمعت لتتحقق هذه اللحظة، وأن منظومة الحكم القمعية في ليبيا، كما في تونس ومصر وغيرها، كانت تعمل ضد مسار التاريخ، وأن كتم الأنفاس وسَوْق الشعوب كقطعان الأغنام لم يعد أمرا يسيرا في عصر الفضائيات وشبكات التواصل الاجتماعي والمعلومة المتنقلة والسماوات المفتوحة، وأن عجز هذه الأنظمة المتربعة على عروشها منذ عقود عن تحقيق أي إنجاز اقتصادي أو اجتماعي رغم مليارات الريع النفطي بات مكشوفا بما ينزع عنها أي شرعية..
لاشك أن لحظات الثورات الشعبية، في كل العالم وفي كل العصور، كانت لحظات نقاء وتضحية وإيثار ترقى إلى حدود المثالية التي تتعالى على القراءات الموضوعية لمآلاتها ولما بعدها.. ولم تكن فبراير استثناء في هذا الباب..
ولاشك، أيضا، أن الليبيين، كما الشعوب العربية الأخرى التي انتفضت قبلهم وبعدهم، كانوا ينظرون إلى الثورة باعتبارها عصا موسى التي ستقلب الاستبداد إلى حرية والفقر إلى بحبوحة ورغد عيش والعداوات إلى إخاء ووفاق، ولم يكن في حسبانهم القوى الإقليمية والدولية المستنفرة للتدخل ولا لوبيات المصالح المحلية التي تتقن، جيدا، التلوّن والقفز بين المراكب وحسابات الربح والخسارة ولا البنى الاجتماعية والتمثلات الثقافية الموغلة في المحافظة والقبلية والجهوية ولا غياب المؤسسات السياسية والرقابية والأمنية والعسكرية المهنية ولا صعوبة جمع السلاح بعد انتشاره ولا غياب أي تقاليد في مجالات التحديث والمواطنة والمساواة أمام القانون..
كل هذه الحسابات التي كانت غائبة عن الاستشراف في لحظة فبراير كانت محددة للمآلات التي انتهى إليها الوضع في ليبيا، ولذلك لم يكن حساب البيدر متناسبا مع حساب الحقل.. غير أن ذلك لا ينفي أن ساعة فبراير كانت آتية لا ريب فيها وأن ما سبقها لم يكن ليستمر انسجاما مع سنن التاريخ والاجتماع..
لم يتحقق الكثير من مطالب فبراير.. هذا أكيد.. غير أن فبراير حركت مياها راكدة لن تعود كما كانت..
المصاعب التي رافقت مسار الاثني عشر سنة في ليبيا لم تكن أمرا هينا وقد يتطلب تجاوزها ردحا طويلا من الزمن، غير أن الأمل في مستقبل أفضل يظل قائما ما ظل في ليبيا من يفكر ويعمل ويبدع ويجمّع ويدعو إلى الحكمة والعقل والإخاء وتأخذه الغيرة على كل ذرة من تراب الوطن وعلى تضحيات الأجيال منذ المختار إلى اليوم..