لم تكن الثورات العلمية والتكنولوجية التي صنعت مجد الغرب، منذ ستة قرون، ولازالت، حدثا دون مقدمات ولا سياقات. فقد سبقتها ثورات ثقافية وفكرية وفلسفية مهدت لها وهيأت لها العقول وقطعت مع ضروب التفكير الخرافي والتمثلات الاجتماعية والسياسية البدائية.. كل قراءة عميقة وموضوعية للتاريخ تنبئ بأن لا حضارة ولا تقدم ولا رياضيات ولا فيزياء ولا طب ولا تكنولوجيا دون فلسفة وفنون وآداب..
المزيد من الملفات الخاصةليبيا المستقبل (خليفة علي حداد): لم تكن الثورات العلمية والتكنولوجية التي صنعت مجد الغرب، منذ ستة قرون، ولازالت، حدثا دون مقدمات ولا سياقات. فقد سبقتها ثورات ثقافية وفكرية وفلسفية مهدت لها وهيأت لها العقول وقطعت مع ضروب التفكير الخرافي والتمثلات الاجتماعية والسياسية البدائية.. كل قراءة عميقة وموضوعية للتاريخ تنبئ بأن لا حضارة ولا تقدم ولا رياضيات ولا فيزياء ولا طب ولا تكنولوجيا دون فلسفة وفنون وآداب..
قد يتساءل البعض: ها قد أنجز الغرب ثورته الثقافية والفلسفية والعقلية ثم بنى عليها تقدمه المادي والتكنولوجي والرقمي والطبي، فلم لا ننقله جاهزا؟ ولمَ علينا أن نعيد اكتشاف العجلة من جديد بتدشين ثورة ثقافية نبني عليها نهضتنا المنشودة؟
يبدو السؤال منطقيا ولكنه من أسئلة المنطق المغالطي.. فالمنطق يقول باختصار المدى الزمني واجتناب هدر الجهود والسنوات في سبيل هدف حققه غيرنا منذ مئات السنين وأضحى مكسبا جاهزا، غير أن المغالطة تكمن في أن النهضة مسار متكامل ومترابط ومنظومي يتطلب سياقات اجتماعية وسياسية تتطلب بدورها تفاعلا اجتماعيا وليست إجراء إداريا يقرر ثم ينفذ..
ألم تجنِ ليبيا مليارات لا عدّ لها من النفط والثروة الريعية مكنتها من استيراد الطائرة والسيارة والكمبيوتر والتلفزيون والأجهزة الرقمية الذكية والملابس الفاخرة واللحوم المجمدة والعطور الباريسية والشيكولاتة اللبلجيكية والقهوة البرازيلية وتشييد الطرق والجسور والجامعات والمطارات والفنادق والعمارات والأبراج.. ليبيا ليست سوى مثال قابل للتعميم على العرب من مغربهم إلى خليجهم.. فجميعهم قد اكتسبوا الأسباب المادية بمقادير متفاوتة، غير أن السؤال الذي يظل قائما: هل أدى ذلك إلى تحقيق نهوض وتنمية حقيقية.. التنمية بمعانيها الواسعة: الحكم الرشيد، والاعتراف بالاختلاف والتعدد الاجتماعي والثقافي والسياسي، وإعلاء قيمة المواطنة، والعيش المشترك، والقطع مع حواضن القبيلة والعشيرة وتمثلاتها المتخلفة، وطي التفكير الخرافي البدائي، واحترام الخصوصيات، والرفاه المعيشي، والتعليم الجيد، والصحة الراقية، والسكن اللائق، والبيئة المرفهة، والبنية التحتية القوية...
لاشك أن أي طفل ليبي أو عربي سيجيب، واثقا، بأن شيئا من ذلك لم يتحقق، وأننا نقود السيارة الفاخرة وعقولنا مازالت في طور الارتحال على الجمال والنوق، ونقف عند محطات البنزين كما تقف القوافل عند معاطن المياه في الصحراء، ونسكن العمارات الشاهقة والقصور الفارهة بعقلية الخيمة، ونلقي القمامة في الطريق والفضاءات العامة، ونتبول على الجدران، ونعتدي على البيئة وأشجارها وحيواناتها، ونتدافع عند المحلات التجارية، وندفع الرشوة ونقبضها لنحصل على حقوقنا وحقوق غيرنا ونسميها "بقشيشا" و"حلاوة"، ونصنف المرأة كائنا من درجة ثانية وثالثة، ونحتقر المختلف لونا ولغة ودينا، ونصادر كتب الفلسفة والرواية والشعر، ونحطم آلات الموسيقى، وننعت بعضنا بأقذع ما جادت به أسفار اللغة الهابطة..
الحل ليس في استيراد أحدث ما جادت به مصانع الغرب، فذلك أمر سهل، ودولارات النفط والغاز كفيلة بتحقيقه.. الحل في إعادة بناء ثقافة الإنسان الليبي والعربي على أسس جديدة تقطع مع كل أسباب التخلف متعدد الأوجه..
حين نمنح القيمة المستحقة للفكر وأهله وحين نوفّر الشروط ليتحوّل المثقف والمبدع من "شغّال" ساع لتأمين قوت يومه وتكلفة علاجه إلى مفكر يستشرف ويبني من أجل مشروع مجتمعي ينقل البلاد والعباد إلى مرحلة جديدة من التاريخ، حينها يمكن أن نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في الطريق الطويل..
وحين يدرك المسؤولون أن الثقافة تغيير للعقول ونحت في الصخر، وليست مكاتب فارهة وسياحة بين المؤتمرات الدولية ولا مرتبات ومزايا ومنحا تصرف بمناسبة وبدونها، ولا ألقابا تطلق على الوزير ووكيله وعلى المدير العام ومن دونه، حينها يمكن أن تكون الثقافة مدخلا من مداخل التنمية والنهضة والتغيير..
وحين تتحول الجامعات من معامل لتخريج آلاف الشباب النمطي الملقح ضد الفهم والتفكير والفاقد لكل مهارة في التعايش والتغيير إلى مؤسسات لبناء مواطن يفكر وينقد ويقطع مع التمثلات الاجتماعية المتخلفة ويقترح الحلول، حينها يمكن أن نطمئن، ولو قليلا، على المستقبل..
وحين تكون الإصدارات والكتب والمكتبات ودور النشر والمسارح في كل حي، وحين نمنح المبدعين حقوقهم المادية والمعنوية ونتعاطى من إنتاجهم بما يستحق من تثمين بعيدا عن عقلية السماسرة ومصاصي الدماء، حينها يمكن أن تكون الثقافة حاجة طبيعية من حقوق المواطن كالغذاء والماء والهواء.
الثقافة أولا والثقافة ثانيا والثقافة ثالثا، يرحمنا ويرحمكم الله..