أسئلة "المشروع الثقافي الليبي".. سبعة عقود من التيه والإرتجال

ولنكون موضوعيين، يمكن أن نجزم بأن "المشروع الثقافي" لم يكن في حسابات النخب أصلا، خاصة مع تغيير بنية السلطة بعد 1969 إلى بنية عسكرية أمنية إيديولوجية خشنة.. وأن كل ما كان هو مجرد بروباغندا لخدمة الفرد والترويج لخياراته، وأن الثقافة؛ بكل وجوهها، كانت محامل وظيفية للتأليه والتجهيل وإنتاج التفاهة وغلق أي باب مفترض للتغيير..

المزيد من الملفات الخاصة

تقرير ليبيا المستقبل

ليبيا المستقبل (خليفة علي حداد): نظمت "السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية) أمسية ثقافية للاحتفاء بإصدارين قصصيين جديدين للاديبة عزة كامل المقهور، يوم الاثنين الموافق 12/9/2022.. أثث المناسبة ثلة من المثقفين والأدباء والفنانين بتقديم قراءات وورقات سلطت الضوء على إنتاج الكاتبة وعلى المشهد الثقافي الليبي الراهن في عمومه..

تبدو أمسية الاحتفاء بأعمال الأديبة المبدعة عزة المقهور حدثا معتادا قد يتكرر مع كتاب آخرين وإصدارات أخرى داخل ليبيا وخارجها، غير أن هذه المناسبة والمناسبات المشابهة تطرح على المتابع والمهتم تساؤلات عدة عن موقع الثقافة ووظيفتها في السياق الليبي والعربي العام.. وهنا، لا يرتبط الأمر بالمعنى المباشر الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ عن القصة والرواية والشعر والمسرح والموسيقى والنحت، فهذه مجرد أدوات ومحامل وتفاصيل، بقدر ما يرتبط بـ"المشروع الثقافي" في معانيه الكبرى؛ بصفته برنامج تغيير استراتيجي طويل الأمد للتمثلات ومنظومات التفكير والسلوكات الاجتماعية والممارسة السياسية والمنوال الاقتصادي والتنموي..

منذ فجر الاستقلال، منحت الدولة الليبية الوليدة أولوية قصوى للعملية التعليمية.. وبدا الخيار الرسمي، حينها، مبررا في مجتمع محكوم بأمية عالية تتجاوز 90 بالمائة من ساكنته وفي وسط وصفه المبعوث الأممي أرديان بلت بأنه "أفقر بلد في العالم".. وأثمر هذا الخيار، في سنوات قليلة، انتشارا أفقيا كثيفا للمؤسسات التعليمية في المدن والدواخل، ما أدى إلى تضاعف أعداد المتمدرسين أكثر من مرة في أقل من عقدين.

إلى جانب التعليم، صرفت جهود رسمية وأهلية كبيرة واعتمادات مالية معتبرة للنهوض بروافع ثقافية أخرى، فأصدرت الصحف والمجلات، وطبعت الكتب بأصنافها، وأنشئت المسارح ودور السينما والفرق الموسيقية والمسرحية، وبعثت الإذاعات والتلفزيون، غير أن التعليم يظل رافدا مفتاحيا مخصوصا لكل ما ذكر.

تؤشر كل الإحصائيات والدراسات الجادة إلى أن التعليم شهد انفجارا كميا في أعداد المؤسسات، من الابتدائي إلى الجامعي، وفي أعداد المتمدرسين والمتخرجين من مختلف الاختصاصات، سواء قبل 1969 أو بعدها، غير أن الأسئلة الأهم التي يجب أن تطرح هاهنا:

> هل انعكس الارتفاع الكبير في المؤشرات الكمية للتعليم إيجابا على بنية المجتمع والدولة وعلى العقل الجمعي وتمثلاته وعلى السلطة السياسية وسلوكها؟

> هل أدى تضاعف المدارس والجامعات إلى إقرار مبدإ المواطنة بصفتها الأسّ الرئيس للدولة الحديثة؟ 

> هل اشتغلت كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية والآداب على تفكيك منظومات ما قبل الدولة الحديثة من عصبيات قبلية وروابط غنائمية وتراتبيات عنصرية؟ 

> هل وضعت مناهج الاقتصاد والتجارة في حسبانها تجاوز اقتصاد الريع والكسل إلى اقتصاد الإنتاج والذكاء؟ 

> هل أدت مدارج العلوم والرياضيات والفيزياء والهندسة والتقنية والفلسفة إلى تطور التفكير النقدي وتراجع التفكير الخرافي وسطوة الأساطير؟

> هل أثمرت الإبداعات الأدبية والشعرية والإصدارات من القصة والرواية والنقد والأعمال المسرحية والموسيقية والتشكيلية ارتقاء بالذوق وتهذيبا للشخصية؟ 

> هل أدى تخرج عشرات الدفعات من كليات القانون والعلوم السياسية إلى بلورة رأي عام رافض لحكم الفرد وخزعبلاته ومنظومات الاستبداد وجرائمها وحريص على تقديس حقوق الإنسان ومستعد للتضحية من أجل الديمقراطية وسيادة القانون والتداول السلمي على السلطة؟

هذه أمثلة من التساؤلات الواجب طرحها لتحديد الفرق بين التعليم بوصفه عملية تقنية بحتة مؤلفة من مناهج وبنى تحتية وطلابا ومدرسين، وبين التربية بوصفها "مشروعا ثقافيا" هادفا للتغيير الشامل، إذ أن الفرق بينهما فرق جوهري..

لاشك أن قراءة موضوعية للواقع الليبي اليوم؛ وهو واقع مشابه في كثير من تفاصيله لواقع البلدان العربية الأخرى، ستدفع إلى الإجابة عن التساؤلات السابقة إجابة واثقة بـ"لا"..

ولنكون موضوعيين، يمكن أن نجزم بأن "المشروع الثقافي" لم يكن في حسابات النخب أصلا، خاصة مع تغيير بنية السلطة بعد 1969 إلى بنية عسكرية أمنية إيديولوجية خشنة.. وأن كل ما كان هو مجرد بروباغندا لخدمة الفرد والترويج لخياراته، وأن الثقافة؛ بكل وجوهها، كانت محامل وظيفية للتأليه والتجهيل وإنتاج التفاهة وغلق أي باب مفترض للتغيير..

ولنكون موضوعيين أيضا، لابد من الاعتراف بأن فرصة التغيير السياسي الراديكالي سنة 2011 كانت مناسبة ممكنة للتوافق على مشروع ثقافي وطني استراتيجي للتغيير الشامل، غير أن إرث الماضي الثقيل وبؤس النخب التي اندفعت لملء المشهد الجديد وعوامل أخرى متقاطعة أدت إلى تأجيل انطلاق المشروع وإن ظهرت بوادر مقاومة من خلال كثافة الإنتاج الثقافي وحيوية المجتمع المدني، بيْد أنها تظل، على أهميتها وصدق أصحابها، محاولات محدودة في الزمان والمكان ولا ترقى إلى مرتبة مشروع مجتمعي متكامل الرؤية والأهداف والوسائل.

بدون مشروع ثقافي هادف وبدون تغيير عميق يطال العقليات والبنى السلوكية والمنظومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المنتجة للتخلف والبؤس والرداءة ستظل حالة التيه مستمرة على المدى المنظور.

سيكون من المفيد الاعتراف بالفشل والتواضع والاطلاع على تجارب الأمم التي تمكنت من إحداث نقلة حضارية شاملة، في حين لا يزال العرب عموما يراوحون مكانهم ويتساءلون عن حكم دم البعوض وأكل نوى التمر ورائحة البصل وعن المرأة التي تحيض والرجل الذي لا يحيض وعن الدجاجة التي تبيض والدرهم الذي لا يبيض.



تقرير ليبيا المستقبل

ليبيا المستقبل (خليفة علي حداد): نظمت "السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية) أمسية ثقافية للاحتفاء بإصدارين قصصيين جديدين للاديبة عزة كامل المقهور، يوم الاثنين الموافق 12/9/2022.. أثث المناسبة ثلة من المثقفين والأدباء والفنانين بتقديم قراءات وورقات سلطت الضوء على إنتاج الكاتبة وعلى المشهد الثقافي الليبي الراهن في عمومه..

تبدو أمسية الاحتفاء بأعمال الأديبة المبدعة عزة المقهور حدثا معتادا قد يتكرر مع كتاب آخرين وإصدارات أخرى داخل ليبيا وخارجها، غير أن هذه المناسبة والمناسبات المشابهة تطرح على المتابع والمهتم تساؤلات عدة عن موقع الثقافة ووظيفتها في السياق الليبي والعربي العام.. وهنا، لا يرتبط الأمر بالمعنى المباشر الذي قد يتبادر إلى ذهن القارئ عن القصة والرواية والشعر والمسرح والموسيقى والنحت، فهذه مجرد أدوات ومحامل وتفاصيل، بقدر ما يرتبط بـ"المشروع الثقافي" في معانيه الكبرى؛ بصفته برنامج تغيير استراتيجي طويل الأمد للتمثلات ومنظومات التفكير والسلوكات الاجتماعية والممارسة السياسية والمنوال الاقتصادي والتنموي..

منذ فجر الاستقلال، منحت الدولة الليبية الوليدة أولوية قصوى للعملية التعليمية.. وبدا الخيار الرسمي، حينها، مبررا في مجتمع محكوم بأمية عالية تتجاوز 90 بالمائة من ساكنته وفي وسط وصفه المبعوث الأممي أرديان بلت بأنه "أفقر بلد في العالم".. وأثمر هذا الخيار، في سنوات قليلة، انتشارا أفقيا كثيفا للمؤسسات التعليمية في المدن والدواخل، ما أدى إلى تضاعف أعداد المتمدرسين أكثر من مرة في أقل من عقدين.

إلى جانب التعليم، صرفت جهود رسمية وأهلية كبيرة واعتمادات مالية معتبرة للنهوض بروافع ثقافية أخرى، فأصدرت الصحف والمجلات، وطبعت الكتب بأصنافها، وأنشئت المسارح ودور السينما والفرق الموسيقية والمسرحية، وبعثت الإذاعات والتلفزيون، غير أن التعليم يظل رافدا مفتاحيا مخصوصا لكل ما ذكر.

تؤشر كل الإحصائيات والدراسات الجادة إلى أن التعليم شهد انفجارا كميا في أعداد المؤسسات، من الابتدائي إلى الجامعي، وفي أعداد المتمدرسين والمتخرجين من مختلف الاختصاصات، سواء قبل 1969 أو بعدها، غير أن الأسئلة الأهم التي يجب أن تطرح هاهنا:

> هل انعكس الارتفاع الكبير في المؤشرات الكمية للتعليم إيجابا على بنية المجتمع والدولة وعلى العقل الجمعي وتمثلاته وعلى السلطة السياسية وسلوكها؟

> هل أدى تضاعف المدارس والجامعات إلى إقرار مبدإ المواطنة بصفتها الأسّ الرئيس للدولة الحديثة؟ 

> هل اشتغلت كليات العلوم الاجتماعية والإنسانية والآداب على تفكيك منظومات ما قبل الدولة الحديثة من عصبيات قبلية وروابط غنائمية وتراتبيات عنصرية؟ 

> هل وضعت مناهج الاقتصاد والتجارة في حسبانها تجاوز اقتصاد الريع والكسل إلى اقتصاد الإنتاج والذكاء؟ 

> هل أدت مدارج العلوم والرياضيات والفيزياء والهندسة والتقنية والفلسفة إلى تطور التفكير النقدي وتراجع التفكير الخرافي وسطوة الأساطير؟

> هل أثمرت الإبداعات الأدبية والشعرية والإصدارات من القصة والرواية والنقد والأعمال المسرحية والموسيقية والتشكيلية ارتقاء بالذوق وتهذيبا للشخصية؟ 

> هل أدى تخرج عشرات الدفعات من كليات القانون والعلوم السياسية إلى بلورة رأي عام رافض لحكم الفرد وخزعبلاته ومنظومات الاستبداد وجرائمها وحريص على تقديس حقوق الإنسان ومستعد للتضحية من أجل الديمقراطية وسيادة القانون والتداول السلمي على السلطة؟

هذه أمثلة من التساؤلات الواجب طرحها لتحديد الفرق بين التعليم بوصفه عملية تقنية بحتة مؤلفة من مناهج وبنى تحتية وطلابا ومدرسين، وبين التربية بوصفها "مشروعا ثقافيا" هادفا للتغيير الشامل، إذ أن الفرق بينهما فرق جوهري..

لاشك أن قراءة موضوعية للواقع الليبي اليوم؛ وهو واقع مشابه في كثير من تفاصيله لواقع البلدان العربية الأخرى، ستدفع إلى الإجابة عن التساؤلات السابقة إجابة واثقة بـ"لا"..

ولنكون موضوعيين، يمكن أن نجزم بأن "المشروع الثقافي" لم يكن في حسابات النخب أصلا، خاصة مع تغيير بنية السلطة بعد 1969 إلى بنية عسكرية أمنية إيديولوجية خشنة.. وأن كل ما كان هو مجرد بروباغندا لخدمة الفرد والترويج لخياراته، وأن الثقافة؛ بكل وجوهها، كانت محامل وظيفية للتأليه والتجهيل وإنتاج التفاهة وغلق أي باب مفترض للتغيير..

ولنكون موضوعيين أيضا، لابد من الاعتراف بأن فرصة التغيير السياسي الراديكالي سنة 2011 كانت مناسبة ممكنة للتوافق على مشروع ثقافي وطني استراتيجي للتغيير الشامل، غير أن إرث الماضي الثقيل وبؤس النخب التي اندفعت لملء المشهد الجديد وعوامل أخرى متقاطعة أدت إلى تأجيل انطلاق المشروع وإن ظهرت بوادر مقاومة من خلال كثافة الإنتاج الثقافي وحيوية المجتمع المدني، بيْد أنها تظل، على أهميتها وصدق أصحابها، محاولات محدودة في الزمان والمكان ولا ترقى إلى مرتبة مشروع مجتمعي متكامل الرؤية والأهداف والوسائل.

بدون مشروع ثقافي هادف وبدون تغيير عميق يطال العقليات والبنى السلوكية والمنظومات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المنتجة للتخلف والبؤس والرداءة ستظل حالة التيه مستمرة على المدى المنظور.

سيكون من المفيد الاعتراف بالفشل والتواضع والاطلاع على تجارب الأمم التي تمكنت من إحداث نقلة حضارية شاملة، في حين لا يزال العرب عموما يراوحون مكانهم ويتساءلون عن حكم دم البعوض وأكل نوى التمر ورائحة البصل وعن المرأة التي تحيض والرجل الذي لا يحيض وعن الدجاجة التي تبيض والدرهم الذي لا يبيض.