مقدمة وتعريف:
يستوطنُ الوطنُ أعماقَ وفكرَ ووجدانَ كُلِّ فردٍ منا بشكل حسِّي لا شعوري، يتجاوز كلَّ الأسئلةِ الفكريةِ التي قد تثار حول نوع أو ماهية تلك العلاقة المتأسسة على الافتخار والزهو والاعتزاز بالانتماء لهذا الكيان الذي يتعدى في معناه الأسمى الأرض والجغرافيا، ليغوص في شرايين الدم والتاريخ والروابط الاجتماعية العديدة التي توطد البنيان العتيد لتلك العلاقة. فحبُّ الوطنِ وعشقُهُ لا يمكن أن يخضع للتفسيرات المادية أو التحليلات الرقمية، والدليل على ذلك أن مشاعرَنا وجوارحَنا كافةً، كليبيين إناثاً وذكوراً، شيباً وشباباً، تظلُ تزهو وتنتشي وهي تترنمُ بتلك القصيدةِ الرائعة التي أضحت نشيداً وطنياً غير رسمّي في ليبيا، تعيشُ فينا منذ حوالي نصفِ قرنٍ من الزمن، فنتمايلُ مع أبياتِها وأنغامِها بقلوبٍ صادحةٍ وعيونٍ دامعةٍ ونحن نردد:
(فتعالى وأسمعْ
قصةً للانتصار
للشعب
للأرضِ التي تلدُ الفخارْ
تلدُ النهارْ) (1)
وتواصل القصيدة الجميلة الارتقاء بحميمية المشاعر ودرجة الإنتشاء الطربي في سلم ابداعها وهي تتغنى بليبيا فتقول:
(الليلُ في بلدي تواشيحُ غناءْ
وقِبابُ قريتِنا حكاياتُ الإِباءْ
وبيوتُنا الأقراطُ في أذنِ السماءْ
بلدي ملاعبَ أنجُمٍ تأتي المساءْ
لتقولَ هذي ليبيا بلدُ الضياءْ
كرمٌ وفاءْ
ليبيا ليبيا) (2)
لقد غاصت القصيدة الغنائية (بلد الطيوب) في نسيج العلاقة السامية بين الوطن ككيانٍ واحدٍ متحدٍ موحدٍ، وبين أفراده كافةٍ كمحبين وعشاق من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب، وتسربت في شرايينهم بكل تلقيائية دون أن تترك مجالاً للتفكير الجدلي في مفهوم الوطنية ومقوماتها والخصوصية الليبية، رغم أنه من الضروري إبراز أهمية الوحدة الوطنية ومفهومها ومقوماتها من أجل تحصين هذا الحب والعشق للوطن الواحد والأرض الليبية التي تحضننا، والرد والتصدي بذلك لمعاول التشكيك والتفتيت والتمزيق والانقسام الذي صارت تهدد الكيان الليبي.
إن مفهوم الوحدة الوطنية ومقوماته صار في الوقت الراهن من المسائل التي تتطلب المزيد من الجهد لتسليط الضوء عليه، ومناقشته بموضوعية، ذلك لأن أحد سبل حسم وتجاوز مسألة الوحدة الوطنية والهوية والشخصية الليبية وحسمها، يكمن في تحديد ماهيتها وتعريفها، الأمر الذي سيرفع -بطبيعة الحال- الكثير من الغشاوة حول معناها الحقيقي وأهميتها الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للفرد المواطن، والبلد الوطن.
فتعريف الوحدة الوطنية هي وجود كيان وطن واحد موحد بكامل حدوده الجغرافية من الشرق إلى الغرب ومن الشمال إلى الجنوب يستوطنه شعب مرتبط بتاريخ مشترك، وهدف ومصير مشترك، ومصالح اقتصادية وسياسية واجتماعية مشتركة. أما من حيث التحليل البنائي والتركيب اللغوي لمصطلح (الوحدة الوطنية) فإننا نجده يتكون من كلمتين أو عنصرين هما مفردة (الوحدة) والتي تعني تجميع المتفرق ولملمة الشتات وتوحيده، ومفردة (الوطنية) وهي التي تمثل انتماء الإنسان إلى وطن معين، يستوطنه ويحمل جنسيته ويدين له بالولاء، على اعتبار أن هذا الوطن ما هو إلا حضن اجتماعي مكون من الأهل والأحبة والأصدقاء والعائلات والقبائل والعشائر وأقوام من الناس استقرت في هذا الاقليم الجغرافي المحدد وتخضع لإدارة وسلطة حكومة دولة منظمة(3).
أما بالنسبة للاشتقاق اللغوي فإن الوطنية والمواطنة والمواطن يرجع جذرها اللغوي في العربية إلى كلمة الوطن وهو بمعنى المنزل الذي تكون به الإقامة، ويمثل موطن الإنسان ومحله وعنوانه وهويته، وفي هذا يقول الشاعر أبوتمام: وَكَمْ مَنزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى *** وحنينُه أبداً لأولِ منزلِ (4) وتجمع مفردة الوطن بأوطان ومواطن. قال الله تعالى في محكم التنزيل (لقد نصركم اللهُ في مواطنَ كثيرة).(5)
أما في الاصطلاح فإن الوطنية تأتي بمعنى جامع لعاطفة الإخلاص وحب الوطن أو البلد، وهو إشارة واضحة إلى شموليتها لمشاعر المحبة والعمل والتفاني والتضحية والفخر والاعتزاز وعلاقات الارتباط الوجداني بجغرافية وإقليم الوطن، وما ينبثق عنها من استجابات عاطفية. الوطنية تمثل التجسيد العملي لمفهوم ومعنى الإنتماء والانتساب الحقيقي للجماعة والمكان، وما يترتب على ذلك من التزامات ذاتية وتفاعل حسي وفعلي تجاه ذاك المكان الوطن، ليس ككيان جغرافي فحسب بل يشمل كل المشترك في الهوية والتاريخ والثقافة.
يونس شعبان الفنادي
[email protected]
* سبق نشر المقال بصحيفة "فسانيا" العدد (198)
(*) جزء من ورقة أعدت لتقديمها في لقاء "الوحدة الوطنية" بمكتب الدكتور عبدالرحيم الكيب رئيس وزراء ليبيا الأسبق بتاريخ 2 أغسطس 2016 بطرابلس، وتنشر على أجزء في صحيفة "فسانيا" الأسبوعية.
(1) (بلد الطيوب) قصيدة غنائية ليبية من تأليف الشاعر الراحل علي صدقي عبدالقادر، وألحان الموسيقار علي ماهر وأداء المطرب الراحل محمود كريم تم تسجيلها وبثها سنة 1968.
(2) نفس المرجع السابق.
(3) سليمان محمد الطماوي، الوحدة الوطنية، مطابع الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1974، ص 17.
(4) ديوان أبي تمام بشرح الخطيب التبريزي، تحقيق د. محمد عبده عزام، دار المعارف، الطبعة الخامسة.
(5) سورة التوبة، الآية رقم 25.