(فى الصبح طوابير..
فى الليل مواطير..)
اغنية ليبية جديدة
خمس اْعوام كاملة والليبيون لايشبعون من الكلام. يتحدثون بلا انقطاع. يناقشون. يهتفون. يصرخون حتى بحة الحناجر عن حالتهم التى وصلوا اليها ولاحل فى الاْفق المنظور! الليبيون لايشبعون من الاكل والكلام. لايشبعون مثل جهنم التى لاتشبع من المجرمين. يتساوى فى ذلك المسؤول والمواطن. المراْة والرجل. الكبير والصغير. الثورى وغير الثورى. الرياضى والذى يعانى من السمنة. البعيد والقريب. سبتمبر وفبراير.
يتكلمون فى كل شى. ولم يصلوا حتى الان الى حل يرضيهم ويمنعهم بتاتا عن الكلام. والكلام الطاغى فى ليبيا ليس فيما يفيد: ليس عن المستقبل. ليس عن المصير. ليس عن التقدم. ليس عن الثقافة. ليس عن البديل. ليس عن المظالم. ليس عن ليس. يتكلمون وخلاص.
ان الكلام عند الليبيين فى السياسة. يقتصر من الصباح الى الصباح على السياسة وحدها التى خربت بيوتهم وشيبت رؤوسهم اْو عن السيولة المالية. السياسة والسيولة هما موضوعات الكلام الطاغى فى ارض ليبيا الواسعة وبينهما سيول واخاديد من الاكاذيب من جهات شتى وعلى كل المستويات.
لايتكلم الليبيون عن اصلاح الحال. عن التغيير. عن التقدم خطوة الى الاْمام. تحملوا النتائج بالرغم منهم ودفعوا الثمن. تغنوا. ارفع راسك فوق ولم ينظروا الى الاسفل فسقطوا. ومن اوصلهم الى هنا.. الى الجحيم الذى لايشبع قبض السعر مقدما عنهم وظل يتمتع بالرخاء والسعادة والمقاهى فى ارض الله.
وجد الليبيون اْنفسهم فى القارب المتهالك وسط التيارات الموحشة. تباعدت بينهم الشقة ومع ذلك وجدوا اْنفسهم يبيعون الكلام للريح.. يتكلمون اْكثر مما يفعلون. مهنة الليبيين الكلام فقط حتى فى ذلك القارب المتهالك الذى يشفى على الغرق.
والكلام تفاصيله كثيرة. موضوعاته عديدة. والازمات التى تدعو الى المزيد من الكلام متجددة ومتطورة. يخرجون من اْزمة ليجدوا اْنفسهم فى غيرها. ازمة الوقود. الغاز. الخبز. الدواء. طوابير المصارف. انقطاع الكهرباء. اكاذيب المسؤولين. عدم الاستقرار. العنف. الاحقاد. ثم يستمعون فى اْشد حالات التعب الى سيل الكلام المتدفق من المسؤولين والمحللين والناشطين والمهتمين بقضايا النساء مع كثير من الوعود ولا اْحد يستطيع الدفع باْتجاه الاحسن.
الليبييون تلك عادتهم منذ القدم. شفويون ورواة. الكلام فى المرابيع. فى المكاتب. فى المؤتمرات والمهرجانات. فوق الارصفة. فى اْسواق الخضار بين اْكوام الكوسا والباذنجان. فى محلات الورش والحلاقة والكوافير. فى الاعراس وتشييع الجنائز. فى الطوابير. كلام اغلبه يخجل. صوت الكلام مخجل جدا ويخجل. وصوت المسؤول كذلك. والكل اْثناء وبعد الكلام يتفرج
المواطن الذى يتكلم سحابة نهاره وليله حتى مطلع الفجر لايجد من يسمعه سوى جدار البيت اْو المواطن الواقف مثله فى الطابور اْو الذى يشغل موتور الكهرباء فى الليل. المواطن الذى امامه اْو خلفه فى كل شى. ليس هناك علاج لاْية ازمة اْو تدارك للمشكلة والهموم المتتابعة. ليس هناك اْحساس بالمسؤولية اْو التحرك قليلا نحو الاْفضل.
لاشى مع الكلام. لاشى يعلو صوت الكلام... المسؤول فى الجهات الاربعة من ليبيا يتكلم ولايستطيع اْن يفعل شيئا... الخطباء يخطبون ويتوعدون ويتكلمون ولايستطيعون فعل شى بذلك الحماس الاجوف... المحاورون يتحاورون فى تونس اْو الصخيرات اْو غيرهما ولايستيعون التاْثير فى الحالة الليبية المستعصية بحوارهم الذى لايسمعه اْحد ولايهتم به اْحد منذ البداية.
والكلام يظل كلاما. الكلام فى ليبيا وحدها يبيض مثل النعام.. (يجيب كلام) ولاينتج عنه اْى ايجابيات. اْى فعل صحيح. الليبيون عاجزون عن الفعل. والازمة تلد ازمات. والمواطن يتكلم وكذلك المسؤول ولايسمعان بعضهما... لايفهمان القول الصادر عنهما. المسؤول لايسمع كلام المواطن. والمواطن كلام المسؤول. نظرية مثل الاوانى المستطرقة.
البعض يلقى بالمسؤولية على الطليان. على العقود الماضية. والبعض على فبراير. البعض على المسؤولين. البعض على الامم المتحدة. البعض على منظمات حقوق الانسان. البعض على التخلف. البعض على اللعبة الخارجية. البعض على غيره. ويتكلمون بلا توقف. وطنهم لايتكلم. وطنهم لايسمع صوته. وطن لاصوت له.. ولا راْى له. وطن اْنهكته الصراعات والتخريب والدمار والاحقاد. وطن اْنهكه الكلام والشفويون والرواة وناقلى العنعنه.
وكلام الصراعات المخيف هو الاْقوى. كلام الاْحقاد هو الاْقوى. كلام المصالح الشخصية والجهل وسوء الفهم والكذب هو الاقوى. كل الاطراف اْسهمت فى الوصول الى هذا الوضع البائس. ولو كان الليبيون يملكون عقلا ويقدرون على الفعل لما تكلموا. ولا اْنصرفوا نحو البناء والتقارب والعمران وتركوا العناد والشراسة.
مل المواطن من كل شى... مل من اْحاديث الشاشات وظهور الشخصيات البليدة الميتة والتحاليل المعادة والعبارات الساذجة التقليدية المعادة من القاموس نفسه. مل المواطن من نفسه ومن كل شى ومن وطنه. لا اْحد يصارحه. لا اْحد يقول له الحقيقة. لااْحد يبين له اْين يقف وسط هذه الدروب بالضبط. اْنه يظل مثل ذلك الباحث عن الابره فى طريق النواجع.
.. فما هو الحل؟
لايوجد. ليش. لاْن المواطن لايتم تشريكه فى المسؤولية. لايعرف ولايفهم مايدور. المواطن الذى يهمه مصيره ومصير اْولاده ومصير وطنه يكتفى بالكلام والفرجة والصراخ فى الطوابير. لاْنه فجع فى حلمه وفى انسانيته وفى ليبييته وفقد حريته. لم يجد شيئا يتحرك على اْرض الواقع سوى الظلام. حلم بالجميل والرائع فوجد بعد اْن فتح عينه فى ضوء الشمس كل ما هو قبيح ودميم. حلم بالمجد من اطرافه فوجد نفسه فى التراب.
ليش. لاْن المواطن لو كان صاحب مسؤولية اْو شريك فى المسؤولية تجاه وطنه ومستقبله. لو كان يملك حرية الراْى والقرار السليم. لو كان يعرف من انتخب فى كل المراحل التى بداْت مع وضع العربة قبل الحصان. لما ظل ينتحب منذ ذلك اليوم وحتى الان. ولما ضحكوا عليه باْعلاناتهم الملونة وملصقاتهم المزخرفة وتركوه يتكلم وحيدا فى الطوابير ويناجى المواتير اخر الليل.
ليش. لاْن المواطن يعانى من صدمة المواطنة الضعيفة ويفتقد الانتماء. يعانى من مهزلة الاختيار. من فجيعة خيانة الامانة والمسؤولية. ليس هناك علاقة تذكر بينه وبين المسؤولين عنه وعن اولاده وعن وطنه. ليس هناك تواصل اْو حلول للمشاكل اْو نهايات مجدية للكلام. تمضى الامور بلا توقف ويتلقف المواطن مايرتبط بحاله ومصيره من الشاشات اْو الاذاعات اْو الاشاعات اْو المواقع المختلفة اْو الصحف الاجنبية اْو المراسلين الناشئين.
ويظل يردد.. (قالوا) و(سمعت). لانوابه يتحدثون اليه. لايعرفهم ولايعرفونه. لايقترب منهم ولايقتربون منهم مثل البنزين والنار. مثل النقد والشعر. مثل القط والفار. لايجتمعون بدوائرهم التى اختارتهم. ولايتوصلون مع من رشحهم مع من انتخبهم للمسؤولية.
الليبيون لم يفهموا بعد معنى (الوطن) و(الوطنية). معنى (المسؤولية). معنى (الثقة). لايعرفون اْن ذلك امانة ثقيلة وصعبة اْشفقت منها سماوات الله واْرضه وجباله. ويظل كلام المسؤولين فى المناسبات اْو غيرها يدعو للضحك ويدعو للاستغراب ويدعو اْيضا فى النهاية للرثاء. ضاع المواطن بين كل هذا الكلام وعرف فى يومه قبل غده اْن الحل لْاستقراره واستقرار وطنه (حل مستحيل) حتى ياْذن الله بالفرج.
وعبر هذا الضياع صار الكثيرون اْساتذة ومتكلمون مثل الفلاسفة يجيدون التنظير والتحليق فى الهواء. بدل من هؤلاء الكثير جلودهم ولم يغيروا من طباعهم ومصالحهم واكاذيبهم. كان المواطن الذى يضحكون عليه يراهم بصورة مخزية ويشاهدهم الان باْخرى اْكثر خزيا وعارا ولايجد ما يفعل سوى اْن يلعنهم فى الطوابير بقصائد الهجاء واحط الكلام.
ليش ؟. لاْن المواطن مثل المسؤول لايجيدان سوى الكلام. وفى كل هذا الكلام لاجديد سوى البذل الانيقة والطلعات البهية مثل اْبطال السيرك. سوى الكلام المعاد الكريه والاسطوانة المشروخة. كان الحديث فى البداية التى وضعت - اكرر - العربة امام الحصان لايتوقف عن احلام دبى والخير الذى (جايكم). صار الحديث الان فقط عن الحلم بتاْمين مبلغ من المرتب ينفقه المواطن فى لحظات.
ليش ؟. لاْن كل شى غال فى ليبيا الثائرة التى تتكلم دون ان تعمل. الحطب والفحم والحليب والدواء وحفاظات النساء والاطفال وكراسات المدارس والكنادر والمواد الصحية وعلف الحيوانات واكياس الاسمنت والزواق والخضار والخبز واليد العاملة والمرتك. كل شى غال. ما عدا الانسان الذى يتكلم عن واقعه بمرارة فهو رخيص وممتهن الى درجة الحقارة.
ذات صباح مطير اْحدهم استفسر من صديقه فى طابور الخبز عن الخير الذى وعد به. هل هو (لاقدام اْم لاورا)؟ اْجابه: شيل الخير من دماغك. لاتتعب نفسك فى غير طائل. انس. مافيش خير اْصلا. شحنه تحت المطر بالمزيد من الخيبة والتشاؤم.
لقد فشل الجميع. الليبيون والامم المتحدة والجامعة العربية والجيران والافارقة ولم يفلحوا فى حل الحالة الليبية. لاْن الليبيون اْنفسهم مصدر المتاعب. غدا المنظر مؤسفا.. . فما هو الحل؟
اْنه يبدو مستحيلا اْيضا. هل من يفعله. الحل اْيسكت المسؤول عن الكلام. اْن يسكت المحللون والمناضلون والذين يخورون بقصائد الشعر الباهت واْعضاء هيئة الدستور وجامعى القمامة ولاعبى الورق والصبايا فى ديار المقعد واللمات.. وغيرهم. اْن يسكت المواطن.
لقد جرب الليبيون بكل بسالة على مدار الاعوام الكثير من الكلام والوعود والقتل والسرقة والنهب والخطف والكذب والتهديد والمظاهرات والاعتصامات والمسيرات والتنديد والتخريب والبصاق على العالم وعلى بعضهم. جربوا الجهل والتخلف والحقد. جربوا خراب البيوت. جربوا الفتاوى العوراء. جربوا كل العار. فليجربوا السكوت مرة واحدة فى عمرهم السعيد باذن الله تعالى. لعل السكوت فى حالتنا الليبية الراهنه اْجدى من الكلام.
ليش؟... لاْنه اذا كان الكلام الليبى من فضة كما تقول الحكمة فاْن الصمت الليبى ليس من ذهب فقط... اْنه كل المعادن الثمينة... ليجربوا فقط. لم يعد ثمة اْمل فى الكلام !!
سالم الكبتى