كعبة مكة لم تكن الكعبة الأولى أو الوحيدة، إذ عرفت العرب كعبة اللات في الطائف، وبس لغطفان وكعبة نجران وكعبة رئام في صنعاء. وقد احتوت جميعها على ما زُعم أنه حجر سقط من السماء (يقابله اليوم الحجر الأسود الذي نزل به جبريل). وسُميت كل كعبة بـ"بيت الله"، إذ تصورت العرب الإله كملك والملك لا يأتي للرعية بل الرعية تذهب إليه لتلبية حاجاتها فصارت تزوره موسميًا (الآن ذي الحجة)، إذ لا يصح إزعاج الإله كل يوم بالحاجات.
وكان الجاهليون يزورون آلهتهم مُجردين من المتاع الدنيوي، فيكتفي الرجل بالقليل من الثياب على الكتفين والعورة وتحتشم المرأة. (اليوم ملابس الإحرام). وقد اعتادوا أن يتلفظوا بعبارات مخصصة، معلنين لإلههم الطاعة والولاء (الآن التلبية).
كما كانوا يمارسون الطواف حول كعباتهم (اليوم طواف القدوم والوداع) ويقدمون عندها الذبائح معتقدين أنه من الممكن غفران خطايا إنسان بإسالة دم حيوان (ذبح الهدي)، وقد تعاهدوا على عدم إزعاج الآلهة، فمنعوا الشجار ومطاردة الفرائس والجنس. (يقابلها الرفث والفسوق والجدال والصيد في الحج).
أما كعبة مكة، فقد اقترحت قريش وضع كل أصنام القبائل فيها، مع تعهدها بحمايتها وخدمة حجاجها والسماح بجميع الممارسات الدينية باحترام.
مناسك الحج:
تبدأ فعليًا قبل الوصول لمكة بالاغتسال وتأكيد النية وتغيير الثياب. وعلى كل حاج أن يُقدم تصريحه المباشر لله عن طريق التلبية في الطريق إليه.
طواف الوصول:
عندما يصل الحاج إلى الكعبة، يؤدي طواف القدوم وهو طواف دائري بسبعة أشواط حولها، بالسير عكس عقارب الساعة، ويبدأ من الحجر الأسود عند زاويتها الشرقية.
السعي:
الركض بين الصفا والمروة، وهما تلتان تقعان داخل الحرم. ويُحيي الطقس ذكرى بحث هاجر جارية إبراهيم عن الماء لإسماعيل، ويُفترض أن هذا الحدث قد وقع بين هاتين التلتين.
يوم التروية:
يتوجه الحاج إلى مِنى لأداء جميع الصلوات، ثم يغادر إلى عرفة. وفي عرفات، يبقى هناك حتى غروب الشمس، وخلال النهار، سيستمع إلى خطبة الحج التي تُلقى على تلة صغيرة في جبل الرحمة، حيث يُعتقد أن النبي ألقى خطبته لأصحابه في حجة الوداع.
المزدلفة ورمي الجمار:
يسارع الحاج إلى مزدلفة لحمد الله في المشعر الحرام، حيث يقضي الليل. وبعد صلاة الفجر يجمع الحصيات استعدادًا لرمي الجمرات، ويستمر بعدها في جمع المزيد بمِنى. ثم يقوم بذبح الهدي وأداء التحلل الأصغر، فيعود لملبسه المعتاد ويحلق شعره. ويستمر في رمي الجمرات من طلوع شمس عيد الأضحى حتى الزوال.
طواف الوداع:
يؤديه الحاج مودعًا البيت الحرام بسبعة أشواط، ثم يصلي ركعتين وينصرف إلى بلده. لكن المسلم المخلص سيقوم بزيارة لمدينة المنورة، حيث المسجد النبوي الذي يحتضن قبر النبي وصاحبيه.
والآن سأناقش ثلاث مسائل.. بالذات الحجر الأسود:
عندما حطم النبي الأصنام في فتح مكة احتفظ بالحجر الأسود عن قصد. ويسعى كل حاج اليوم لتقبيله تقليدًا للنبي. فلماذا يفعلون ذلك؟
نعلم جيدًا أن الأصنام الحجرية كانت الشيء الوحيد الذي تُبجّله العرب. وبما أن الأصنام كانت مصنوعة عمومًا من الحجر، فقد تم تشكيل بعضها وتُرك البعض الآخر كما هو، فهل من المحتمل أن الحجر الأسود كان صنمًا يُعبَد؟ ونحن نعلم أيضًا أن العرب كانوا يقبّلون ما يُبجّلونه، وهذا ما فعله النبي نفسه. فما أهمية ذلك بالنسبة لهم إذا لم يكن صنمًا سواء تم تشكيله أو تركه على هيئته العشوائية التي سقط بها؟
كما نعرف أن قبائل من شبه الجزيرة استعانت بالنبي - قبل البعثة - ليعين مكانًا لوضع الحجر الأسود عندما أرادوا ترميم الكعبة. ما يعني أنهم لم يختلفوا حول مواقع أصنامهم، بل حول موقع الحجر الأسود بالذات لتبجيلهم جميعًا له. ولولا حكمة النبي وقتذاك لكانت القبائل تشاجرت مع بعضها بسببه، ويمكن تسجيل ملاحظة أخرى وهي أن النبي ما كان ليقوم بهذا العبء لولا أنه كان يبجل الحجر الأسود بدوره!
وبما أن العرب كانوا يعبدون جميع الأصنام الحجرية في الكعبة، فمن المرجح تاريخيًا أن هذه العبادة لديها تراث طويل في التبجيل، وهذا ما جعل النبي يحافظ على الحجر كبديل لعبادة الأصنام المتعددة. يعني بطريقة ذكية، أبقى النبي على الحجر لكي لا ترفض القبائل رسالته، وإن عصمه من العبادة لكنه لم يعصمه من التقبيل.
ونحن نذكر أن الخليفة عمر، الذي كان لديه شكوكًا حول حكمة تقبيل الحجر قد قال يومًا: "والله إنك حجر لا يضر ولا ينفع، ولولا أن رأيت رسول الله يقبلك ما قبلتك" (لأنه باختصار كان يراه صنمًا).
السعي:
أول ما يطالعك الآية 158 من سورة البقرة والتي تدل على وجود جماعة مسلمة رفضت هذه الممارسة الوثنية (إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِن شَعَائِرِ اللَّهِ ۖ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا ۚ وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) إنهم الأنصار، فقد كانوا يعبدون مناة، على عكس وثنيين آخرين كانوا يركضون بينهما قبل الإسلام.
الفئة الأولى: من الواضح أن هذه الفئة بعد فترة طويلة من إسلامهم ما زالوا غير مستعدين لأداء هذا الطقس الوثني حتى نزلت الآية (فأذعنوا راغمين).
الفئة الثانية: جماعة كانت قد نصبت صنمين على كل تلة من المسعى هما إساف ونائلة، بحيث يلمسون إسافًا في بداية كل شوط وينتهون بنائلة. والسبب كما روى ابن هشام، أن نائلة وإسافًا من جُرهم، كانا عاشقين فذهبا للكعبة ومارسا الرذيلة هناك، فمسخهما الله حجرين، وقد قدستهما بعض القبائل، وقدموا القرابين والذبائح (نحر الهدي) عندها.
ومن الأرجح أن النبي احتفظ بعادة الركض بين الصفا والمروة، كجزء من تبنيه للحج الوثني في طقوس الإسلام ليرضي جميع القبائل باستعمال قصة هاجر.
رجم الشيطان:
في الماضي لم يكن ثمة شيطان إنما قبر صغير واحد ومنزوٍ هو قبر الخائن أبا رُغال. إنه دليل أبرهة الحبشي في الوصول للكعبة ليدمرها، ويخلّص العرب من الشرك كونه كان مسيحيًا كما تقول الرواية، ومذ ذاك، صار العرب الوثنيون يرجمون قبره كلما مروا به. أما اليوم، فيتوجب على الحاج أن يرجم ثلاثة أعمدة كدليل على رفضه لطرق الشيطان وعدم الوقوع في حبائله، تأسيًا بإبراهيم الذي أراد ذبح ابنه لكن الشيطان اللعين عارضه.
الشيطان اليوم أصبح أعمدةً ضخمة ويقف على منصات عالية على مستويات مختلفة لاستيعاب ملايين الحجاج الذين يسعون لرجمه.
وفي الأثر، تنزل الملائكة لإزالة الحصى وإعادتها إلى مزدلفة ومِنى مرة أخرى استعدادًا للموسم القادم. لكن اليوم، يبدو أن الملائكة قد تقاعدت، وتركت مسؤولية إعادة عشرات الملايين من الحصى لآل سعود.
الخلاصة:
كل تركيز الحج لو لاحظنا يعتمد على الحجارة، إذ يقوم المسلمون بالطواف حول الكعبة وهي مزارُ فارغُ مصنوع من الحجارة، ويقبّلون حجرًا أسود عند كل طواف، ويصلّون في مقام إبراهيم المصنوع من الحجارة، أمامه ضريح صغير يحتوي على حجر آخر (قدم إبراهيم). وفي عرفات، يقف الحاج على جبل مغطى بالحجارة المتراصة، وفي منى والمزدلفة يقوم الحجاج برمي حجارة على أعمدة هي نفسها حجارة. وغالبًا ما يرى الناس ملصقات للكعبة في مكة مرتبطة بمسجد النبي في المدينة - المزارين الأكثر قدسية في الإسلام -مصنوعان من الحجارة. هذا وتُعَدّ الحجارة هذه هي نفسها التي صُنِعَتْ منها الأوثان في السابق، الحجارة التي هي من أكثر المواد خمولًا على وجه الأرض، حتى أنها غير قادرة على دعم الحياة مثل التربة، وتتناقض بشكل حاد مع الماء الذي هو جوهر الحياة.
إن أكثر الأسباب المحتملة لقبول رسالة النبي تعود إلى تبنيه طقوس الحج الحجرية بحذافيرها، فقد عَرف يوم مُنح الشرف لتعيين مكان الحجر الأسود، أنه الحجر الوحيد الذي يحظى بتبجيل القبائل الوثنية قاطبة، فكان وسيلته ليصالح بها نفسه مع تلك القبائل، وقد صدق حدسه حين انهارت المقاومة المكية فورًا بعد أن رأوه يؤدي الحج بنفس الطقوس الدقيقة التي كانوا يؤدونها، باستثناء عبادة أصنامهم.