"ايتها الضاجة خلف الجدران.. أحبك مثل عكازي“.. هذا ما قرأته مخطوطا بالفحم على أحد جدران الزنزانة رقم (4) بالقسم الثاني من سجن "الحصان الاسود" في آخر شهر يونيو 1980 عندما نقلنا من سجن الكويفيه في ظروف غامضة.. كانت تلك القصيدة الومضة موقعة بـ "ابن الطيب“…
حينها عرفنا انه ورفاقه من قضية الكتاب والصحفيين الذين اعتقلوا في ديسمبر 1978 قد مروا قبلنا بهذا القسم الكريه والذي اشتهر عندنا باسم "قسم المحقرة" لخلوه من ابسط سبل الحياة حيث لا شمس ولا هواء ولا فضاء…
وحينها تعرفت على الشاعر ادريس ابن الطيب الذي سمعت به ولم اقرأ له الا بعض المعارضات الشعرية العمودية.. ولكن ما كان مخطوطا على الجدار أبان لي هذا التواشج المكين بين الخاص والعام في ابتهال شعري يضج بالحيوية والثقة والتوهج بهذه البساطة والعمق والصدقية.. ولم التق به إلا قبل خروجنا من سجن "ابو سليم" سيء السمعة في 3/3/1988 بيومين عندما فتحوا الزنازين واتيح لنا ان نلتقي…
حينها تعرفت عليه وعلى باقي افراد القضية ممن لم اعرفهم من قبل وحينها وجدت حرصا منه ومن رفيقه الشاعر محمد الفقيه صالح، على ان اسمعهم بعضا من قصائدي فهي المرة الاولى التي التقيهم فيها.. رغم اننا من نفس الجيل وفي نفس السجن من 10 سنوات.. وسعدت بآرائهم المشجعة التى ابانت مدى عمق الايمان بالقضية الوطنيه والحياة المشتركة والتشبث بالثقافة والفن والجمال في مواجهة الظلم والقبح والابتذال…
واتيح لنا ما بعد السجن ان نلتقي كثيرا وتتعمق علاقتنا وتشتد. ومثلما تشاركنا الهموم تشاركنا النشاطات والمشاركات الثقافية والفنيه وتشاركنا الافراح.. والمخاوف والحلم بيوم اكثر رفق ببلادنا. واستضافني ببيته في القاهرة اسابيع عديدة ذات عام وذات ظروف خاصة بي.
عاش الصديق الودود، والرجل النبيل، رفيق رحلة الألم والأمل "أدريس ابن الطيب" شاعرا وكاتبا وصحفيا وسجينا من اجل وطن اسمه ليبيا ومن أجل قيم الخير والحق والجمال والحرية، طموحا لانسانية أجمل وأرقى، مخلصا وخالصا لما آمن به من قيم نبيلة. وهاهو يغادرنا مترجلا عن آلامه ومكابداته العديدة قبل ان يلقي أغنيته الاخيرة، بعد معاناة مع المرض ومع تقصير مسئولي وطنه ليبيا وقصور ذات اليد عن العلاج.
أعزي نفسي وأسرته الصغيرة والكبيرة وأهله وذويه وكل اصدقائه ورفاقه وقرائه وكل من عرف أدريس ابن الطيب العزيز.. ولهم ولنا جميل الصبر والسلوان والعزاء واحد. رحمه الله رحمة واسعة ولروحه السلام والطمأنينة.
راجع:
- الكاتب والشاعر والدبلوماسي إدريس بن الطيب في ذمة الله
- إدريس محمد الطيب الأمين (سيرة ذاتية)
- الدبيبة: الشاعر إدريس بن الطيب ترك إرثا مميزًا وسجل مواقف وطنية مشرفة