كان من بين من عرفت و عاصرت من المسؤولين الليبيين من جيل الثلاثينات المميز من كان من رفاقي على مقاعد الدراسة في المدارس الابتدائية والثانوية في الزاوية ومصراتة وطرابلس أو في كليات الجامعة الليبية في بنغازي ثم في طرابلس كما في الجامعات المصرية والعربية. كان منهم المدنيون وكان منهم العسكريون.
كان منهم الأقربون وهم زملاء مقاعد الدراسة في مرحلة الدراسة الابتدائية والثانوية وكان منهم زملاء في كلية الاداب والتربية اولى كليات الجامعة الليبية وكان منهم زملاء في كلية الاقتصاد وزملاء في كلية الحقوق في الجامعة الليبية الاولى في بنغازي. وكان منهم أيضا من التحق بجامعات عربية آو أجنبية أخرى.
كانت تفرقنا بعض توجهاتنا السياسية التي بدأت تتكون لدينا في تلك المرحلة المبكرة من حياتنا ولكن كان يجمعنا دائما حب الوطن وحرصنا المتواصل على نهضته وازدهاره ورفضنا لوجود القواعد العسكرية الأجنبية على ترابنا الوطني وكان يجمعنا فوق ذلك كله حبنا الشديد للعلم وللدراسة واستعدادنا لتسخير كل ما أوتينا من العلم والخبرة وما تلقيناه من دروس التربية الوطنية من أجل خدمة المصالح العليا للشعب والوطن في بلادنا العزيزة.
ذلك كان حالنا وتلك كانت مواقفنا وفي ذلك وحده كنا نتنافس.! ثم جمعنا القدر بعد ذلك من جميع أرجاء الوطن للقيام بالدور التاريخي لهذا الجيل المميز جيل الثلاثينات. ذلك القدر المحتوم هو الذي هيأ جيل الثلاثينات هذا ليحمل الامانة بعد بناة الاستقلال المؤسسين للدولة الليبية الحديثة المملكة الليبية المتحدة ثم المملكة الليبية. ولم يكن لنا في ذلك الخيار.! بل كان ذلك هو قدرنا. وكان ذلك هو ما كتب الله لنا.
فكنا فيما يتعلق بالوطنية الليبية على قلب رجل واحد رغم الخلافات الظاهرة في توجهاتنا ومعتقداتنا السياسية التي كان بعضها يتجاوز حدود الوطن الليبي الى امتداد الوطن العربي من المحيط الهادر الى الخليج الثائر كما كانت تلك هي المقولة السائدة في تلك الأيام المفعمة بالحماس الوطني وبالأحلام العربية الكبرى حيث كان الحديث الطاغي في كل الوطن العربي هو الحديث عن القومية العربية والوحدة العربية وتصفية ما تبقى من الاستعمار في العالم.
ولكن تلك الخلافات كانت كما يقولون من النوع الذي لا يفسد للود قضية.! فقد كنا نختلف قليلا في رؤانا السياسية خلال مناقشاتنا اليومية ولكننا كنا نجتمع بعد ذلك لصياغة منشور يوزع ليلا في شوارع بنغازي أو شوارع طرابلس يطالب بتصفية القواعد العسكرية الأجنبية في بلادنا.!
أو يعترض على بعض مواقف الحكومة الليبية او يرفض زيارة رئيس دولة اجنبية كانت من مؤسسي "حلف بغداد" الذي كنا نراه معاديا لتطلعات أمتنا العربية في الوحدة والتنمية والعدالة الاجتماعية.! وأنه كان جزءا من خطة استعمارية معادية لطموحات الامة العربية نحو الوحدة والتقدم والرخاء.
تلك كانت توجهاتنا. وتلك كانت إرادتنا. وتلك كانت أخلاقنا الوطنية والقومية وذلك ما تعلمناه من آباء الاستقلال طيب الله ثراهم رغم معارضتنا لبعض مواقفهم التي لم نكن نعلم حينها بالدوافع ولا بالظروف التي أرغمتهم عَلى اتخاذها.
ثم شاءت الأقدار أن يتواصل هذا الجمع المبارك فقدر الله سبحانه وتعالى ان يجمع بين القادة المؤسسين من بناة الاستقلال وبين العديد من أبناء هذا الجيل المميز جيل الثلاثينات في كل أجهزة الدولة الليبية الاولى المملكة الليبية المتحدة ثم المملكة الليبية وذلك في دوائر صنع القرار في مختلف أجهزة ألدولة خلال العهد الملكي.!
ثم جمعتنا بأولئك الرجال الوطنيين المؤسسين، جمعتنا بهم أخيرا زنزانات السجن المركزي في طرابلس وبنغازي وقاعات تلك المهزلة التي سميت "بمحكمة الشعب".!! لننال معا "جزاء سنمار" مقابل كل التضحيات الكبرى وكل الجهد الكبير الذي بذله بناة الاستقلال وثلة من جيل الثلاثينات المميز وذلك على أيدي زبانية أيلول الاسود الذين لم يعرفوا للرجال الكبار من بناة الاستقلال ومن تبعهم بإحسان من جيل الثلاثينات المميز قدرهم ولم يكونوا يعرفون شيئا لا عن جهادهم المتواصل ولا عن تضحياتهم من أجل الوطن ومن أجل توفير الحياة الكريمة والظروف الملائمة لابناء الوطن بمن فيهم من كان تابعا لجماعة أيلول الاسود المزعومين أنفسهم ولغيرهم من الشباب الليبي وما أتاحه لهم أؤلئك الرجال الكبار من فرص التعليم والحياة الكريمة وتوفير الامن والأمان والاستقرار والازدهار في كل ربوع الوطن العزيز .!! ما قد ينطبق عليه ذلك القول المأثور من شعر العرب: "أعلمه الرماية كل يوم.. فلما اشتد ساعده رماني..!!".
حقا.. لقد رمى جماعة أيلول الاسود قادتهم وأصحاب الأيادي البيضاء عليهم بكل ما اتاهم الله من الشرور والاثام وعاملوهم بالقسوة والشدة وقلة الادب ما يخجل منه الشيطان الرجيم نفسه لعنه ولعنهم الله في الدنيا وفي الاخرة.
قال تعالى في الايتين ٦٨ و٦٩ من سورة الفرقان: {ومن يفعل ذلك يلق اثاما. يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا}.. وذلك عند الإشارة الى الذين يدعون مع الله إلها اخر. ويقتلون النفس التي حرم الله. ويأتون في ناديهم المنكر. وكان ذلك كله بعض ما فعله صاحب أيلول الاسود المزعوم وجماعته فهم الذين اتخذوا شيطانهم الاكبر الها من دون الله. وهم الذين قتلوا النفس الليبية التي حرم الله بدون حق. وهم الذين ارتكبوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. نعوذ بالله منهم ومن شرورهم .!! فسوف يلقون غيا. وسوف يلقون أثاما وسوف ينالهم من الله ما يستحقون إلا من تاب وامن وعمل صالحا فعسى الله أن يتوب عليهم فهو التواب الرحيم.
كان هناك إذن رباط متين بين كل جيل الثلاثينات دون استثناء ولم يكن أحد يتوقع أن ينفرط ذلك العقد أو أن يتخلى أحد من ذلك الجيل المميز عن القيم الليبية الأصيلة التي تربينا عليها.
ولكن الواقعة الكبرى التي وقعت فجر الاول من شهر ايلول سبتمبر عام ١٩٦٩ كانت بداية تصدع ذلك الجدار الثلاثيني المميز في التاريخ الليبي الحديث.!
كان من بين جيل الثلاثينات المميز من لم يكن ممن قدر لهم أن يكونوا من قيادات الحكومات الملكية الليبية المتعاقبة أو من كبار المسؤولين فيها ولكنهم كانوا من الرجال الوطنيين الليبيين الاحرار الذين يشاركون زملاءهم من ذلك الجيل من رجال الدولة الليبية الملكية حماسهم وطموحاتهم ووطنيتهم ومطالبهم ورغبتهم الدائمة في الإصلاح وفي تطهير التراب الوطني الليبي من القواعد العسكرية الاجنبية.! وتحقيق السيادة الكاملة على التراب الوطني الليبي.
حاول الانقلابيون المزعومون في الايام الاولى للانقلاب التواصل مع هذا الفريق من جيل الثلاثينات وعرضوا عليهم تشكيل الحكومة الجديدة في ليبيا بعد الانقلاب العسكري. ولكن أولئك الرجال الوطنيين رفضوا ذلك واعترضوا على تدخل الجيش في السياسة وطالبوا باحترام الدستور والقانون وبعودة ضباط وجنود الجيش الى ثكناتهم العسكرية.!!
فتلك كانت أخلاق جيل الثلاثينات المميز وتلك كانت مواقفهم الوطنية وتلك كانت إرادتهم.!
كان من بينهم شخصيات وطنية في بنغازي وكان من بينهم شخصيات وطنية في طرابلس رحمهم الله جميعًا من انتقل منهم الى رحاب الله وغفر لهم جميعا ومتع الأحياء منهم. بمزيد الصحة والعافية.وجزاهم جميعًا خير الجزاء الأحياء منهم ومن اختارهم الله الى جواره وذلك لوطنيتهم ووفائهم للقيم الليبية الأصيلة.
ولكن كان من بين جيل الثلاثينات أيضا من استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله فنسوا حظا مما ذكروا به وكان منهم من اغراهم الشيطان بالطمع في الجاه الزائف والمال الحرام فانساق أؤلئك وهؤلاء وراء تلك الشعارات الضالة والمضلة ونسوا الله فأنساهم أنفسهم وضلوا عن سواء السبيل وانحازوا للظلم وللظالم فخاب الظن فيهم بعد أن رضوا بالذل والهوان بعد أن كانوا من الذين كان الوطن ينتظر منهم أن يكونوا من الهداة المهديين ولكنهم اختاروا أن يكونوا من بين الضالين والمضلين وصار العديد منهم من حواريي "مجنون ليبيا" الذي تعرفونه ولجماعته من أتباع أيلول الاسود.!
وكانت تلك إحدى الكوارث الكبرى التي جلبها على الوطن ذلك الزلزال المريب والغامض الذي ضرب الوطن في ذلك اليوم الأسود الذي أسموه "الفاتح" وهو اليوم الذي أغلق كل نوافذ الخير والعدل في وطننا العزيز وفتح كل أبواب الشر والظلم والفساد.!!
لست أدري حتى اليوم ماهي الدوافع الحقيقية لهذا الانحراف الكارثي لبعض جيل الثلاثينات المميز.!! هل كانت تلك مجرد نكسة.!؟ أم أنها كانت من وساوس الشيطان.!؟ أم أن ذلك البعض الشاذ من جيل الثلاثينات قد صدق الشعارات المزيفة وصدق ما كان يبثه إعلام أيلول الاسود من الترهات والأكاذيب.!؟ أم أنهم كانوا ضحايا لسحر سياسي لا يعلم أحد من وضعه لهم أو من كان وراءه.!!
إن هذا الغموض وهذا الشذوذ في مواقف وتصرفات البعض من جيل الثلاثينات المميز هما أشبه بغموض وشذوذ ذلك الانقلاب العسكري نفسه المشبوه والمجهول الهوية في الأول من أيلول سبتمبر ١٩٦٩.!!
لقد كنت بعد أن خيمت بعيدا عن عرس الدم القائم في الوطن الجريح كنت أستغرب كيف رضي بعض الزملاء السابقين من ذلك الجيل المميز أن ينضموا الى مواكب النفاق والرياء وتمجيد من لا يستحق التمجيد والقبول والرضى بكل ممارساته الشاذة ومقولاته المجنونة وتصرفاته المنافية للقيم النبيلة التي تربى ونشأ عليها ذلك الجيل المميز كما تربى ونشأ عليها الليبيون والليبيات في دولة الدستور والقانون في عهد ليبيا الملكي المجيد.
وكنت أستغرب كيف يجلسون على مقاعد تلك المهزلة التي سميت "بمؤتمر الشعب العام".!! وكيف رضوا بأن يتحولوا الى مجرد أرقام يحملونها دون السماح لهم بالإعلان عن أسمائهم وعن هوياتهم.!! وكيف كانوا يحملوا تلك الألقاب الشاذة التي ما انزل الله بها من سلطان ولا نص عليها الدستور الليبي مثل "امين اللجنة الشعبية العامة" ومثل "الامين" ومثل "امين المكتب الشعبي".!! وهي العبارات التي حلت في عهد أيلول الاسود محل "رئيس الوزراء" و"الوزير" و"السفير".! وهي المصطلحات التي استقر عليها العالم قديما وحديثا وشذ عنها جماعة أيلول الاسود وحدهم دون سائر خلق الله من الدول ومن البشر. !! ولله في خلقه شؤون.!!
تم ذلك كله بعد ما سمي بخطاب زوارة وإعلان " الثورة الشعبية" والغاء الدولة والحكومة وحرق الكتب والمكتبات والالات الموسيقية وسميت تلك الحركة المجنونة بالثورة الثقافية .! وكانت تلك اول "ثورة ثقافية" في العالم تقوم بحرق الثقافة والمثقفين وتشرع للفوضى وللجهل وللجريمة.!!
ثم أضيف الى ذلك الجنون "تجييش المدارس والجامعات " أي تحويلها الى ثكنات عسكرية.! والزج بالمثقفين الليبيين في السجون والمعتقلات.!! وإلغاء الملكية الخاصة التي نص دستور الاستقلال أنها مقدسة.! ورفع الشعارات المجنونة مثل "البيت لساكنه" وليس لمالكه الشرعي ومثل "السيارة لمن يقودها" وليس لصاحبها.!! ما شرع للنهب والسلب وأخذ أموال الناس بالباطل.!! وأحل الفوضى والظلم والفساد محل العدل والقانون والحق.!
ثم فوجئ الليبيون والليبيات بأن "الأخ القائد" قائد انقلاب ايلول الاسود المزعوم قد سمى دولته التي تحمل تلك الألقاب الشاذة وقامت بكل تلك الاعمال الشاذة أيضا والمخالفة للعقل والقانون ، فوجئ الليبيون والليبيات بان "الأخ قائد الثورة" يصف دولته بأنها "دولة الحقراء".!! وربما كانت كذلك. وإن كنت أربأ أن يكون رفاقي وزملائي من ذلك الجيل المميز جزءا من "دولة الحقراء."!! ولكن ما كل ما يتمنى المرء يدركه فقد تجري الرياح أحيانا بما لا تشتهي السفن.!!
لقد كان من بينهم كبار الكتاب والمثقفين. وكان من بينهم أساتذة جامعيون. وكان من بينهم العديد من أهل الفكر الذين كان لهم شأن يذكر في عهد ليبيا الملكي وكان المأمول أن يكونوا جزءا هاما من جيل الثلاثينات المميز الذي قدر الله له أن يستلم الراية من جيل الآباء المؤسسين لدولة الاستقلال.! لكن ما قام به البعض من جيل الثلاثينات كان مخيبا لكل الامال الوطنية منها والمنطقية.
ثم قدر الله لبعضهم أن يدفعوا ثمن تلك الأخطاء والخطايا بعد انتفاضة ١٧ فبراير ٢٠١٧ وبعد انهيار "دولة الحقراء" التي كانوا ينتمون وينتسبون إليها وبعد أن أكتب الله ما كتب من المصير المخزي لقائدهم.!
لاشك أنها كانت تجربة مريرة وقاسية. وقد تعمدت أن أتجنب ذكر الاسماء احتراما لما كان بيننا وبينهم من المواقف الوطنية المشتركة قبل انحيازهم الى الباطل الذي لا أشك في أن معظمهم كان يعلم علم اليقين أنه كان باطلا ولكنها النفس الأمارة بالسوء وقانا الله وإياكم اليوم وغدا وفي كل حين من شرورها المستطيرة.!
ولله الامر من قبل ومن بعد ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- إضغط (هنا) لمراجعة الحلقات السابقة.