كانت حكومة الرئيس الاستاذ عبدالحميد مختار البكوش اكثر الحكومات الليبية التي ضمت اكبر عدد من حملة الشهادات العليا والشهادات الجامعية من بين كل الحكومات الليبية. فقد كانت تضم سبعة عشر وزيرا من هؤلاء.! وكان معظمهم من جيل الثلاثينات المميز.
كان من أبرز وزراء تلك الحكومة الدكتور علي أحمد عتيقة وزير التنمية والتخطيط والمهندس علي الميلودي وزير الشؤون البلدية والمهندس أنور ساسي وزير الاسكان والأملاك الحكومية والسيد بشير السني المنتصر وزير شؤون الرئاسة والمهندس فتحي جعودة وزير الأشغال العامة والسيد عمر محمد بن عامر وزير المواصلات والدكتور أحمد عبدالرزاق البشتي وزير الخارجية والسيد طارق الباروني وزير الصناعة. وكثير من وكلاء الوزارات من جيل الثلاثينات أيضا ومن حملة الشهادات الجامعية.
صار هؤلاء الذين يحملون العلم والخبرة هم الذين يصنعون أمجاد ليبيا المطلوبة. ولاشك أن الملك الصالح طيب الله ثراه كان يرى في ذلك الخير كل الخير للوطن وللشعب.
ولقارئ هذه السطور أن يتخيل ماذا كان سيكون عليه حال وطننا العزيز اليوم لو استمر العهد الملكي في ليبيا حتى الان وسارت كل الحكومات الليبية الملكية في هذا الطريق القويم طريق العلم و الخبرة و النزاهة والتنمية والحكم الرشيد والامن والامان والتداول السلمي على الحكم في دولة الدستور والقانون. ترى ماذا كان سيكون حال الوطن لو استمر العهد الملكي في ليبيا إلى اليوم.!!؟
إن التعليم الذي كانت له الأولوية لدى جميع حكومات العهد الملكي الليبي دون استثناء ومنذ إعلان الاستقلال، إن هذا التعليم يوفر لأهل العلم الحق من أهل الحكم ومن أهل الادارة الحصانة ضد الفساد وضد الانحراف ولذلك نجد ان معظم الفاسدين ممن تولوا شؤوننا بغير الطريق المدني والشرعي والديموقراطي هم أئمة الفساد في ليبيا كما في وطننا العربي كله وهم المسؤولون عن كل خيباتنا وعن كل هزائمنا وعن كل منكر عرفناه وبعضهم مع الاسف لايزالون بيننا.!
وإذا أخذنا في الاعتبار الزلزال المدمر الذي تعرض له وطننا العزيز بسبب ما جرى في أيلول الاسود عام ١٩٦٩ فإنه يجوز لنا أن نقول إن السرعة التي تمت بها إقالة حكومة الرئيس الاستاذ عبدالحميد مختار البكوش الذي كان من المستحيل ان يتعرض الوطن لذلك الزلزال المدمر لو كان هو على رأس الحكومة الليبية، نقول إن إقالة تلك الحكومة ربما كان هو أبرز الخطايا التي عرفتها ليبيا في عهدها الملكي الزاهر رغم ما نعتقده من حسن نية الملك الصالح طيب الله ثراه وثقته الكبيرة في رفاقه الأولين من رجالات الاستقلال الذين نسميهم أحيانا بالحرس القديم.! كما هي ثقته فيمن تبعهم بإحسان من جيل الثلاثينات المميز.
ثم إنني علمت من المرحوم الاستاذ عبدالحميد البكوش ان الملك الصالح طيب الله ثراه قد اعترف له بذلك خلال الزيارات العديدة التي قام بها الاستاذ عبدالحميد لمحل إقامة الملك الصالح في القاهرة خلال سنوات لجوئهما في جمهورية مصر العربية. وتلك حقيقة لاشك فيها عندي وربما علمها أيضا بعض المتابعين للشأن الليبي من أهل السياسة وأهل الفكر وأهل الصحافة من الليبيين وغيرهم سواء من كانت له صلة ما بالملك الصالح او بالاستاذ عبدالحميد البكوش طيب الله ثراهما.
وهكذا طويت صفحة حكومة ليبية مختلفة تملك برنامجا متكاملا لتحقيق نهضة غير مسبوقة في وطننا العزيز وتؤسس "للشخصية الليبية" المتميزة وكان يمكنها منع حدوث الزلزال الذي دمر الوطن وقضى على أغلى أماني الشعب الليبي في الرخاء والتقدم والبناء والتنمية وفي التمتع بالحرية والامن والامان والحياة الكريمة.!!
وقد كانت تلك نكسة كبرى لطموحات جيل الثلاثينات المميز كما كانت نكسة كبرى للحلم الليبي الذي كان كبيرا لدى الليبيين و الليبيات ولدى حكومة الرئيس الذي كانت ليبيا عنده هي "أم السعد"! فأصبح تحقيق ذلك الحلم الكبير بعد أيلول الاسود مستحيلا بعد أن أصبحت ليبيا بعده هي "أم النكد”.!!
ولم تعد "أم السعد" كما كان يتمنى أحد أبنائها البررة الاستاذ عبدالحميد مختار البكوش. ولا يزال شعبنا يعيش هذا النكد المتواصل وهذا الهم الاكبر في تاريخنا الوطني كما لايزال يعيش ذلك الحلم الجميل لما يزيد عن نصف قرن حتى اليوم!!.. فسبحان مغير الأحوال.
وعقب إقالة حكومة ألرئيس الاستاذ عبدالحميد مختار البكوش كلف الملك الصالح وزير الخارجية في الحكومة المقالة السيد ونيس محمد القذافي لتشكيل الحكومة الليبية الجديدة التي قدر لها ان تكون هي اخر حكومات العهد الملكي الليبي الزاهر.!
ولعل من المفارقات العجيبة أن ينتهي الزمن الليبي الملكي الجميل على يد شخصية تحمل لقب "القذافي" ليبدأ الزمن الليبي الرديء والفوضوي والدامي والاسود على يد شخصية أخرى تحمل نفس اللقب.!! وإن لم تكن هنالك أية علاقة لا من قريب ولا من بعيد بين هاتين الشخصيتين المتناقضتين.!!
تعود علاقتي برئيس الحكومة الجديد الى عام ١٩٦٥ في عهد حكومة دولة ألرئيس المميز السيد حسين يوسف مازق طيب الله ثراه حينما كان السيد ونيس القذافي وزيرا للتخطيط والتنمية و عضوا بحكم منصبه في المجلس الاعلى للبترول الذي كنت أشغل فيه منصبا هاما هو السكرتير العام لذلك المجلس الذي يتولى من يشغله عبء العمل اليومي فيه ومتابعة تنفيذ قراراته والتواصل الدائم مع رئيسه وأعضائه ومع رئيس الحكومة القائمة أيضا كلما اقتضت الضرورة ذلك لما كان لذلك المجلس من دور و تاثير في السياسة العامة للدولة الليبية.
احتفظ السيد ألرئيس ونيس القذافي بمعظم وزراء الحكومة السابقة من الجامعيين وأهل الخبرة وضم اليهم الصديق الاستاذ رجب الماجري وزيرا للعدل وهو أيضا من جيل الثلاثينات المميز كما ضمت الحكومة الجديدة احد كبار رجال الاعلام هو الصديق الاستاذ أحمد يونس نجم وزيرا للاقتصاد والتجارة. كما احتفظ السيد الرئيس الجديد بالسيد خليفة موسى وزيرًا لشؤون البترول وكنت حينها وكيلا لتلك الوزارة المهمة التي كانت تتواصل دائما مع كل رئيس للحكومات الليبية بحكم مسؤوليتها عن أهم مصدر دخل للدولة الليبية وهو النفط والغاز فكان لابد لي من التواصل مع الرئيس الجديد للحكومة أيضا.
وكان من حسن الصدف ان كان الوزير السيد خليفة موسى يختار في حالات غيابه عن الوطن واحدا من الأصدقاء ومن جيل الثلاثينات المميز وهو الأستاذ المرحوم بشير السني المنتصر وزير شؤون الرئاسة ليكون وزيرًا لشؤون البترول بالوكالة فلم أكن أجد أية صعوبة في التعامل معه وقد ساعد قربه الدائم من دولة رئيس الحكومة بحكم منصبه كوزير لشؤون الرئاسة من تسهيل عمل وزارة شؤون البترول التي كان يتولاها بالوكالة من حين لاخر ومن تذليل بعض الصعوبات التي كنا نواجهها من حين لاخر سواء كان المرحوم الاستاذ بشير وزيرًا لشؤون البترول بالوكالة او كان في موقعه كوزير لشؤون الرئاسة.
وكانت تربطني بالرئيس السيد ونيس محمد القذافي دائما علاقة مودة واحترام منذ ايام المجلس الأعلى للبترول وكان بحكم عضويته السابقة في ذلك المجلس ملما بالعديد من المشاكل التي كانت تواجهها وزارتنا. ولذلك لم اجد اية صعوبة في التواصل معه والحصول على دعمه لخطط الوزارة للوصول الى حلول مرضية لتلك المشاكل تكون في صالح الدولة وفي صالح الحكومة الليبية.
وكان من ابرز تلك المشاكل التي كنا نعمل ونصر على حلها إما بالتفاوض مع الشركات العاملة واما بالتشريع هي مشكلة الخلاف المزمن بين الوزارة وتلك الشركات بشان معدلات الأسعار المعلنة للخامات الليبية التي لم تعترف بها الوزارة وكانت تستلم العوائد تحت الاحتجاج الى أن يتم التوصل الى حل مقبول لدى الوزارة حول معدلات الاسعار المعلنة للخامات الليبية. وتلك قصة طويلة يعرف تفاصيلها كل من عمل في قطاع النفط الليبي.
وكان الوزير السيد خليفة موسى رحمه الله مصرا على انهاء هذه المشكلة باية وسيلة كانت سواء بالتفاوض او بالتشريع كما كنت كوكيل لوزارة شؤون البترول مصمما مع السيد الوزير على حل هذه القضية بما يحقق المصلحة العامة للبلاد والوصول الى السعر المعلن المناسب والصحيح لكل الخامات الليبية اخذين في الاعتبار جودة تلك الخامات بالمقارنة بخامات دول الشرق الاوسط و قرب ليبيا النسبي من اسواق النفط الرئيسية في اوروبا والولايات المتحدة و موقع ليبيا المميز غرب قناة السويس.
بدات الإدارة القانونية في الوزارة بالتعاون مع ادارة قضايا الحكومة في وزارة العدل ومكتب المستشار القانوني في رئاسة مجلس الوزراء في اعداد مشروع مرسوم بقانون لتعديل قانون البترول رقم ٢٥ لسنة ١٩٥٥ بحيث تنتقل صلاحية تحديد الاسعار المعلنة للخامات الليبية من صاحب عقد الامتياز كما ينص قانون البترول حينها الى وزارة شؤون البترول بعد تعديل القانون بالنص على ذلك ضمن أحكامه بعد التعديل المقترح.
وللحقيقة والتاريخ اقول إن دولة ألرئيس السيد ونيس محمد القذافي كان متحمسا لانجاز هذه المهمة باسرع وقت ممكن. وقد أبدى ذلك الحماس الشديد خلال لقاء لي معه في مكتبه في مدينة البيضاء بحضور السيد بشير السني المنتصر وزير شؤون الرئاسة ووزير شؤون البترول بالوكالة حيث شرحت لسيادته كل الخطوات التي تم اتخاذها لانجاز هذا المشروع الهام. وكنا نرى ان نحاول أولا التوصل الى اتفاق ودي مع الشركات العاملة المعنية ثم اللجوء بعد ذلك الى التشريع في حال عدم الاتفاق الودي. فوافق على ذلك.
وكان دولة ألرئيس ونيس القذافي يعمل على تحقيق إنجاز مماثل لذلك العمل الكبير الذي قام به سلفه ورفيقه ورئيسه دولة الرئيس السيد حسين يوسف مازق عام ١٩٦٥ والذي كنت شاهدا عليه و مشاركا فيه أيضا.
وكان ذلك اخر لقاء لي معه في النصف الاخير من شهر اغسطس ١٩٦٩ حيث تم تكليفي بالتفاوض مع رؤساء الشركات الأمريكية والاوروبية المعنية في محاولة للوصول الى حل ودي لهذه القضية مع ابلاغهم بتصميم الحكومة الليبية على إنهاء تلك المشكلة سواء وديا او بالتشريع.
كنت امل ان يكون لي شرف المساهمة في انجاز هذا العمل الوطني الكبير ولكن رياح القدر كانت تجري بما لا تشتهي سفن الامنيات.
استاذنت السيد ألرئيس بالتصريح للصحافة بما تنوي الحكومة عمله فوافق على ذلك لاننا كنا نريد ان تعرف الشركات المعنية بنوايا الحكومة الليبية قبل بدء المفاوضات معها. ودعت السيد ألرئيس و ودعني بحرارة ولم يدر بخاطر كلينا أن ذلك سيكون هو اللقاء الاخير.!
كانت المرحلة الاولى للمفاوضات ستبدا أولا مع الشركات الاميركية العاملة حيث تم تحديد مواعيد اللقاء معها اعتبارا من يوم الخميس الرابع من سبتمبر ١٩٦٩ في إحدى القاعات المخصصة لرجال الاعمال في أحد فنادق مدينة نيويورك وهو فندق والدورف استوريا.
وكان من المقرر أن أغادر لندن الى نيويورك يوم الثلاثاء الثاني من سبتمبر ١٩٦٩ غير انه في الصباح الباكر من يوم الاثنين الاول من سبتمبر سمعت بانباء الانقلاب العسكري من خلال هيئة الإذاعة البريطانية BBC فاتصلت على الفور بالسفارة الليبية في لندن للاستفسار عما يجري في الوطن ولكن لم تكن هناك اية معلومات رسمية من ليبيا حول ما حدث وما كان يحدث.
وظللت طوال اليوم أتابع الانباء المثيرة الواردة من الوطن وأفكر فيما ينبغي علي عمله في تلك الظروف الغامضة. ثم قررت أن الخطوة المناسبة والصحيحة هي قطع مهمتي والعودة الى الوطن.
وكانت الوسيلة الوحيدة المتاحة أمامي هي العودة الى طرابلس برا عن طريق تونس بعد أن توقفت حركة الطيران بين ليبيا والعالم نتيجة الانقلاب العسكري فغادرت لندن الى روما ومنها الى تونس حيث تم اعتقالي في نقطة رأس جدير الحدودية ثم إيداعي سجن الحصان الاسود حيث امتلات زنزانات ذلك السجن بأفضل الرجال الذين عرفهم الوطن. كانوا حقا أفضل الرجال لله وللوطن و للشعب الليبي لأنهم هم الذين حققوا في زمن قياسي من الانجازات في جميع المجالات ما لا مثيل له في أي بلد اخر لا في التاريخ القديم ولا في التاريخ الحديث.!
وهكذا شاءت الأقدار وشاء بعض المجانين من صغار الضباط الليبيين أن ينتهي الحلم الليبي الكبير وان ينتهي حلم جيل الثلاثينات المميز من أجل ليبيا الأفضل كما كانوا يخططون لها فوجدوا انفسهم رهن الاعتقال داخل زنازين السجون ورهن الشماتة من أبنائهم الذين عملوا بكل ما أوتوا من القوة و العزم ومن العلم والعبقرية و الخبرة ليوفروا لهم فرص التعليم وفرص النجاح وفرص العمل وفرص الحياة الكريمة.!سواء في المدارس والجامعات او في الكليات الحربية داخل المملكة الليبية و خارجها.
وبدلا من أن يلقى جيل الثلاثينات المميز ومن سبقهم من بناة الاستقلال الجزاء الأوفى لجهادهم و تضحياتهم ولما قدموه للوطن وللشعب لقوا "جزاء سنمار" كما ورد في القصة المعروفة. يطول الحديث ويتشعب عن هذا الزلزال الذي ضرب الوطن في ذلك الصباح المبكر من يوم ١ سبتمبر ١٩٦٩. وهو الزلزال الذي حمل بعد ذلك اسم "أيلول الاسود”.!!
ولكن الايام قد تكشف التفاصيل حتى يعلم شعبنا من هو قاتله وقاتل الوطن. أما جيل الثلاثينات المميز فقد أصبح بعد ذلك الزلزال هو الضحية الاكبر لكل ما حدث في غفلة من الزمن وفي غفلة من التاريخ وفي غفلة من الجغرافيا الليبية أيضا.
ولله في خلقه شؤون…
- إضغط (هنا) لمراجعة الحلقات السابقة.