عقب استقالة السيد محمود المنتصر رحمه الله قرر الملك الصالح السيد محمد إدريس المهدي السنوسي -طيب الله ثراه- تكليف السيد حسين يوسف مازق وزير الخارجية في الحكومة المستقيلة بتشكيل الحكومة الليبية الجديدة وهي الحكومة الثامنة في العهد الملكي الليبي الزاهر المجيد.
وكانت المهمة الاولى للحكومة الجديدة هي إجراء انتخابات جديدة لمجلس النواب بعد أن تم حل المجلس السابق الذي كانت تحوم حوله شبهات التزوير. وشاء القدر أن تجري حكومة ألرئيس حسين مازق أنزه أنتخابات نيابية عرفها الوطن. والحمد لله رب العالمين.
كنت أعرف الكثير عن السيد الرئيس حسين مازق منذ أن كنت طالبا في الجامعة الليبية في بنغازي ومنذ كان هو واليا لولاية برقة أيام المملكة الليبية المتحدة. كما كنت أتابع نشاطه السياسي كأحد كبار المسؤولين في الدولة الليبية قبل وبعد التعديل الدستوري عام 1963 فقد كان أحد الوجوه السياسية البارزة في ليبيا وكان أحد القيادات الكبيرة ذات النفوذ والتأثير في إقليم برقة وفي الوطن كله. وكنت أعلم انه يحظى بالقبول وبالاحترام ليس من قبل الملك الصالح فقط بل من قبل كل طوائف الشعب الليبي كذلك. ولكنني لم ألتق به شخصيا إلا بعد تشكيله الحكومة الليبية الثامنة خلفا للسيد محمود المنتصر رحمهما الله.
كان لقائي الاول معه صحبة الأستاذ فؤاد الكعبازي الذي احتفظ به في حكومته وزيرًا لشؤون البترول. وكنت حينها سكرتيرا عاما للمجلس الأعلى لللبترول. وكان المجلس قد بدأ في مناقشة ما عرف حينها بمعادلة الاوبك لتصريف الاتاوة. (OPEC Formula). وهي صيغة اتفاق او معادلة توصلت اليها منظمة الأقطار المصدرة للبترول (اوبك) مع شركات النفط العالمية الكبرى الرئيسية التى كانت تسمى "بالأخوات السبعة" لاعتبار "الاتاوة" التي كانت تدفعها تلك الشركات للدول المنتجة والتي كانت قيمتها تتراوح بين 12.5% الى 17.5% من قيمة النفط الخام الذي يتم تصديره محسوبا على الاسعار المعلنة لكل خام من خامات دول الاوبك، اعتبار تلك الاتاوة جزءا من مصاريف تلك الشركات بدلا من اعتبارها دفعة مقدمة من حساب ضريبة الدخل يتم خصم قيمتها عند دفع الشركة المنتجة تلك الضريبة للدولة المعنية في نهاية كل سنة مالية. ما كان سيحقق زيادة كبيرة في دخل الدول المنتجة من نفطها الخام. وقد أوصت المنظمة كافة الدول الاعضاء لتطبيق تلك المعادلة وتعديل تشريعاتها المتعلقة بالنفط لتضمينها احكام تلك المعادلة.
وكان قد تم تعييني قبل ذلك محافظا لليبيا لدى تلك المنظمة خلفا للزميل والصديق محمد عمر الجروشي الذي تفرغ لادارة اول شركة عامة للنفط مملوكة للدولة هي "الشركة الليبية العامة للبترول" التي تم إنشاؤها حديثا حينها والتي تحولت بعد ذلك الى "المؤسسة الوطنية للنفط" الحالية. فكنت المسؤول في الوزارة عن متابعة وتنفيذ هذا المشروع الذي كان سيؤدي الى زيادة كبيرة في دخل ليبيا من نفطها الخام قد تتجاوز المائة مليون دولار. وهو إنجاز سيحسب للحكومة القائمة حينها وهي حكومة الرئيس حسين يوسف مازق -طيب الله ثراه-.
وكان معظم أعضاء المجلس الاعلى للبترول متحمسين لتنفيذ هذا المشروع بينما كان الوزير الكعبازي يعارض ذلك المشروع بقوة ويرفضه رفضا تاما وكان يعتبره "مؤامرة" من شركات النفط العالمية الكبرى المسماة "الاخوات السبع" لجعل ليبيا كمثيلاتها من الدول المنتجة للنفط في الشرق الاوسط خاضعة لسيطرة تلك الأخوات السبعة. ولتوريط الشركات المستقلة الصغيرة والتي كان عددها في ليبيا يفوق عدد تلك الشركات الكبرى في مواجهة التزامات كان الوزير الليبي يرى انها لا تستطيع تنفيذها.
كما كان الوزير الكعبازي يرى في تطبيق معادلة الاوبك خروجا عن السياسة التي تبنتها الحكومة الليبية منذ صدور قانون المعادن رقم 9 لسنة 1953 اي قبل صدور قانون البترول رقم 25 لسنة 1955 في عهد حكومة السيد مصطفى بن حليم رحمه الله وهي السياسة التي تقوم على مبدأ تنوع الشركات العاملة في ليبيا كسرا للاحتكار الذي كانت تفرضه الاخوات السبع الكبرى على دول الشرق الاوسط الرئيسية المنتجة والمصدرة للنفط أعضاء منظمة اوبك وهي ايران والعراق والكويت والمملكة العربية السعودية.
كان الوزير الكعبازي مناهضا لذلك الاحتكار وكان هو مهندس السياسة النفطية الليبية باعتباره اول وزير لشؤون البترول في ليبيا في عهد حكومة السيد محمد عثمان الصيد رحمهما الله ولم يكن يريد الخروج عن ذلك الوضع الذي تتميز به ليبيا بين مجموعة دول المنظمة وعلى الاخص دول الشرق الاوسط المذكورة. وهو نظام كانت تنفرد به ليبيا وكان يتيح لها عدم الخضوع لوصاية شركات النفط العالمية الكبرى كما كان الحال في دول الشرق الاوسط الرئيسية المنتجة للنفط.
كان الرئيس حسين مازق متحمسا هو الاخر لتعديل قانون البترول الليبي وتضمينه تلك المعادلة رغم ما عرضه الوزير السيد فؤاد الكعبازي أمامه من المخاوف من وقوع ليبيا تحت رحمة الشركات الاحتكارية الكبرى مما يعد خروجا عن السياسة البترولية التي سارت عليها ليبيا منذ البداية.
كانت لدى الوزير الكعبازي قناعة كاملة بان الشركات المستقلة العاملة والمنتجة للنفط في ليبيا لن تستطيع الايفاء بالالتزامات التي سيفرضها القانون بعد التعديل المقترح ولكن الرئيس حسين مازق قال خلال ذلك اللقاء إنه إذا عجزت الشركات المستقلة عن القيام بالتزاماتها طبقا للقانون الجديد فإن كل أصولها في ليبيا سوف تؤول إلى وزارة شؤون البترول والى الشركة الليبية العامة للبترول وهي أصول تفوق قيمتها كثيرا قيمة الالتزامات الإضافية التي سيفرضها عليها التعديل المقترح لقانون البترول.! وقال إنه لا يتوقع أن تضحي تلك الشركات باستثماراتها الضخمة في ليبيا اذا رفضت الالتزام بأحكام قانون البترول بعد هذا التعديل.!. هكذا كانت رؤيته وهكذا كان بعد نظره وهكذا كانت حكمته. اللهم اغفر له وارحمه. ولكن ذلك كله لم يقنع الوزير الذي أصر على موقفه من ذلك المشروع.
اقترح ألرئيس حسين مازق على مجلس الوزراء تشكيل لجنة للتفاوض مع الشركات البترولية العاملة في ليبيا بشان التعديل المقترح للقانون برئاسة السيد خليفة موسى وكيل وزارة المالية. فتم تشكيل تلك اللجنة وتم تعييني في نفس القرار سكرتيرا عاما لتلك اللجنة وذلك بعد أول لقاء مباشر لي مع دولة الرئيس السيد حسين مازق طيب الله ثراه.
ومن هنا أتيحت لي فرصة اللقاءات العديدة مع السيد رئيس الحكومة دولة ألرئيس حسين مازق طيب الله ثراه حيث كان يتابع عن كثب أعمال لجنة المفاوضات المذكورة. كما كان متحمسا لانجاز هذا المشروع الذي سيؤدي الى زيادة كبيرة في دخل ليبيا من النفط ما سيمكنه من تحقيق خطته الطموحة للتنمية في ليبيا في مختلف القطاعات.
وقد عمل جاهدا دون جدوى على اقناع السيد وزير شؤون البترول بالموافقة على المشروع وقال له إنه اذا تحققت مخاوفه فسيكون لكل حادث حديث.!
كما كان السيد خليفة موسى رئيس لجنة المفاوضات رحمه الله يحرص على أن أكون معه في كل لقاء له مع كل من سيادة رئيس الحكومة وسيادة وزير شؤون البترول ما أتاح لي فرصة متابعة كل مراحل هذا المشروع الهام بكل تفاصيله وبكل مفارقاته أيضا.!
وعلى عكس الاستاذ فؤاد الكعبازي لم يكن السيد خليفة موسى يعرف أحدا من مسؤولي الشركات الاوروبية والامريكية الكبرى ولا كانوا يعرفونه بينما كان وزير شؤون البترول الليبي الأستاذ فؤاد الكعبازي يعرفهم جميعا ويعرفونه جميعا كما كانوا يعرفون توجهه المخالف لتوجهاتهم ويعرفون خصومته الدائمة معهم.!!
كان السيد خليفة موسى رحمه الله رجل جمارك ومالية. وكان همه الاكبر هو العمل على زيادة موارد الدولة بكل الطرق المشروعة ولم تكن له لا علاقة شخصية بكبار شركات النفط ولا كانت بينه وبينهم خصومة كما كان الحال بالنسبة للسيد وزير شؤون البترول الأستاذ فؤاد الكعبازي طيب الله ثراه.. ولا كانت له علاقة عاطفية بوزارة شؤون البترول كما كان الحال عند الاستاذ فؤاد الكعبازي.
وربما كان لهذا الاختيار من قبل السيد ألرئيس حسين مازق أثره في سرعة انجاز لجنة المفاوضات لمهمتها وكذلك في استجابة معظم الشركات العاملة في ليبيا من الأخوات السبع ومن المستقلين لمطالب الحكومة الليبية بتعديل قانون البترول وتطبيق معادلة الاوبك.
منذ الاجتماع الاول للجنة المفاوضات مع ممثلي الشركات العاملة أدرك هؤلاء ان السيد خليفة موسى رجل يمكن التفاهم معه وانه لا يحمل نحو تلك الشركات ما كان يحمله الوزير الكعبازي من الشكوك والريبة في نواياها.!
وهكذا تم التوافق بشكل ودي بين اللجنة والشركات العاملة على تعديل القانون ولم تتحقق نبوءة الوزير آلتي سبقت الإشارة اليها حيث لم تبد كبار الشركات المستقلة مثل مجموعة شركة الواحة كونتننتال وماراثون واميردا هس أية اعتراضات على مشروع تعديل قانون البترول الليبي.
ولكن ذلك أيضا لم يغير شيئا من موقف السيد الوزير الذي طلب مني اعداد مذكرتين لمجلس الوزراء إحداهما تتضمن توصية لجنة المفاوضات بتعديل القانون وتضمينه معادلة الاوبك والثانية تحمل توصية الوزير برفض التعديل المقترح للاسباب التي كان يراها والتي سبقت الإشارة اليها. فقمت بإعداد المذكرتين المتناقضتين ورفعهما لمكتب السيد الرئيس حسين مازق رئيس مجلس الوزراء.
وعند عرض المذكرتين على مجلس الوزراء أوصى السيد رئيس الحكومة بالموافقة على توصية لجنة المفاوضات فتم ذلك باستثناء تحفظ واحد من قبل السيد وزير شؤون البترول.
ولكن السيد الرئيس حسين مازق راى انه بسبب معارضة الوزير المختص لمشروع القانون المقترح، رأى ان يعرض الامر على الملك الصالح لحسم هذا الخلاف. وتم ترتيب للقاء مع الملك الصالح في دار السلام العامرة في مدينة طبرق وعرض الامر عليه والاستماع الى توجيهاته بالنسبة لهذا الموضوع الهام.
شرح السيد ألرئيس لمولانا ألملك الصالح بالتفصيل ماجرى في لجنة المفاوضات وفي مجلس الوزراء بما في ذلك تحفظات الوزير المختص حول هذا المشروع. كما شرح الوزير الكعبازي في ذلك اللقاء وجهة نظره واسباب اعتراضه على التعديل المقترح لقانون البترول رقم 25 لسنة 1955.
حاول الملك الصالح طيب الله ثراه ان يقنع السيد وزير شؤون البترول بتغيير موقفه وضرب له مثلا من التاريخ الاسلامي ايام الفتوحات ضد اكبر قوتين في العالم في ذلك الوقت وهما إمبراطورية فارس والإمبراطورية الرومانية وكيف نجح المسلمون رغم قلتهم ورغم قدراتهم العسكرية المحدودة وانتصروا على الفرس والروم. وقال إن ليبيا ستنتصر في هذه المعركة كما انتصر الصحابة رضوان الله عليهم. وقال الملك للوزير أنه عليه ان يتوكل على الله وان يوافق على التعديل المقترح مادام ذلك سيؤدي الى زيادة كبيرة في دخل ألدولة من النفط الخام واذا تحققت مخاوف الوزير الكعبازي فسيكون لكل حادث حديث.!
ويبدو ان حديث الملك الصالح قد وجد قبولا ما لدى السيد وزير شؤون البترول فقال إنه سيوقع القانون الى جانب دولة رئيس الحكومة طبقًا لاحكام الدستور ولكنه طلب إعفاءه من منصبه لانه لا يستطيع تنفيذ قانون غير مقتنع به.
وربما كانت تلك هي المرة الاولى التي عرف العهد الملكي الليبي الزاهر مثلها. فقد قدم الوزير السيد فؤاد الكعبازي مثالا نادرا لا نعرف مثله الا في اعرق الدول الديموقراطية الحديثة.
وافق كل من الملك الصالح ودولة ألرئيس حسين مازق على ذلك الطلب وصدر المرسوم بقانون وهو يحمل التوقيعات الثلاثة الضرورية طبقا لاحكام الدستور وهي توقيعات الملك ورئيس الحكومة والوزير المختص. وتم تعيين السيد خليفة موسى وكيل وزارة المالية ورئيس لجنة المفاوضات وزيرا جديدا لشؤون البترول.!
هكذا كانت تجري الامور في المملكة الليبية حينما كانت ليبيا دولة محترمة ولها حكومة محترمة وفيها وزراء ورؤساء حكومات محترمين.! وهكذا أتيح لواحد من جيل الثلاثينات المميز أن يكون شاهدا حيا على كل ذلك. ويعلم علم اليقين أن الحكومات الليبية في ذلك العهد الملكي المجيد لم تكن أبدا بذلك السوء الذي كان يراه العديد من جيل الثلاثينات بل إنها كانت حكومات وطنية تعمل بكل إخلاص وفي ظروف صعبة لتحقيق ما كانت تراه صالحا للبلاد وللعباد في وطننا العزيز.
إن تلك الأحداث جديرة بالتسجيل والتوثيق وبالدراسة وباستخراج العبر وذلك للاسباب التالية:
١- ان امور الدولة في عهد ليبيا الملكي كانت تدار باسلوب حضاري قد يضاهي او يتجاوز الاسلوب الذي تدار به الامور في أكثر الدول الديموقراطية والمتقدمة في العالم.
٢- ان الملك الصالح طيب الله ثراه كان الحكم وهو الأب الحكيم للدولة الليبية يتم الرجوع اليه حينما تشتد الخلافات بين أعضاء حكومته خصوصًا حينما يكون هناك خلاف بين ما تراه الحكومة وما يراه الوزير المختص.
٣- أن الموقف الذي اتخذه دولة ألرئيس السيد حسين مازق إنما يقدم الدليل المادي على حسن تدبيره وعلى أن رئيس الحكومة الليبية كان يحترم رأي الوزير الذي يخالفه ويخالف مجلس وزرائه الراي في القضايا العامة ولا يقوم بتغيير ذلك الوزير ويفرض رأيه كرئيس للحكومة على باقي أعضائها.
٤- ان الموقف الذي اتخذه السيد فؤاد الكعبازي وزير شؤون البترول والذي تخلى بموجبه عن منصبه الوزاري لا يحدث مثله الا في أعرق الدول الديموقراطية في العالم. وهو يقدم النموذج الحي للوزير الذي يتمسك بالموقف الذي يراه صحيحًا ويضحي بمنصبه الوزاري من أجله.
٥- ان يحدث ذلك كله في المملكة الليبية يعني ان تلك الدولة كانت دولة دستور وقانون حقا وفعلا وليس إدعاء.
٦- ان الملك الصالح كان يحظى بحب واحترام وتقدير أعضاء حكومته رئيسا ووزراء ومسؤولين. وكانوا يلجأون اليه كلما تعقدت الامور بينهم. وكان يجد الحلول المناسبة لكل خلاف بينهم بحكمته وبعد نظره وليس بفرض رأيه الشخصي عليهم. كان قائدا ومعلما حقيقيا وليس مزيفا.
هكذا كانت ليبيا. وهكذا كان قادتها وهكذا كنا نحن الليبيون والليبيات. وهكذا بدأت محاولات جيل الثلاثينات المميز في المشاركة في صنع القرارات الهامة لدولة متميزة بحق هي المملكة الليبية حلمنا الجميل والدائم.!
وعسى الله ان يحدث بعد ذلك امرا.!! والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.
- إضغط (هنا) لمراجعة الحلقات السابقة