كتبت مقالا، من قبل، اقتبست اسمه من مقال ساخر للأستاذ أسامه أنور عكاشة، بصحيفة الوفد المصرية، ذكر فيه أن القاهريين اطلقواعلى شهر أغسطس: شهر الباذنجان! معللا ذلك بأنه شهر يعقب عودة موظفي ستينيات القرن الماضي من إجازات شهر يوليو السنوية مفلسين، فتتفنن زوجاتهم في إعداد وجبات قوامها الباذنجان لرخص ثمنه بسبب وفرته في أغسطس.
شهر (البضنجان) على الأبواب، ويتطلع الليبيون إلى نتائج هذه المبادرات المعروضة من هنا وهناك وإلى خرائط طرق من وإلى الخارج، فهم مازالوا يصطفّون أمام المصارف، وأصبح رغيف الخبز (بسبعطاشر قرش) وعلبة التن بثمانية دنانير، ويبدو أن أشهر ليبيا ستصبح كلها باذنجان. ولكنهم متفائلين، إذ أنهم سوف يستقبلون شهر (البضنجان) مزهرا بفرحة عمت بنغازي بعد انتصار جيشهم، على من تسببوا في ايام باذنجان استمرت أربع سنوات، وإن كانت هي في الواقع سبع سنوات.
تقول المراجع هذا الشهر كثيرا ما تقع فيه أحداثا خارقة منها العظيمة ومنها العنيفة ومنها المضحكة. دعوني ابتدئ بالمضحك، فلقد استوردت الأسواق العامة في بنغازي في أواخر سبعينيات القرن الماضي ملايين من (السواري والسراويل الليبية) باللون الأبيض والأزرق والأصفر، كانت وظيفتي في ذلك الوقت التخليص الجمركي لهذا الطوفان من الملابس الصينية والفول المدمس (الإيطالي) وحلوة بر الترك وزيتون كلماكا اليوناني وعصير راوخ النمساوي والشناني الكحله والحمراء والخضراء ايضا من تونس.
وكنت في زيارة إلى مخازن الملابس التي كان حينها صديقي محمد البعباع مسئولا عنها. تحدثنا عن رفاق سوق الحشيش؛ محمد البعباع، شقيق عبد القادر البعباع الذي كان حينها مسجونا سياسيا ولم ير النور إلاّ في أصبح الصبح. كان محمد وكذلك عبد القادر، رفيقا صبا خليفة الفاخري وصادق النيهوم. وجاء لنا عامل افريقي يرتدي (سورية وسروال) لونهما ابيض بالشاي. ثم عاد لنا (بأنصاص تن فيتنامي) بهريسه (تونسية) مرتديا قميصا ليبيا جديدا أزرق اللون، فنبهت محمد فأجابني ضاحكا: "عادي! سوف يعود وقت صلاة الظهر باللون الأصفر.. أكيد أنه سكب زيت التن على قميصه.." فقلت له: "ولكن سيظهر عندك عجز عند الجرد" ضحك ثم اخذني إلى (هنجر بحجم مالطا) ممتلئ بأجبال من صناديق (القمصان او السواري الليبية) ممهرة من شركة فيمس الصينية. وقال لي ضاحكا: "جرد هذه الكميات يحتاج إلى كتيبة صينية، يا راجل غم؟ وراسك بلغتهم أن الخفراء يبيعون في بعبوة السيارة وليس بالكرتونة".
صارت السورية والسروال الليبي، في ذلك الوقت أفضل ما يرتديه من يبحث عن الراحة في أ شهر الحر والضجر والرطوبة الخانقة. واستدعتني الشركة إلى طرابلس للالتحاق بوفد تجاري إلى الباكستان للتعاقد على (عطريه)، وهي سلعة لم أكن أعرف عنها شيئا، فذهبت مباشرة إلى المرحوم خليفه البراني، الذي كان تاجرا متخصصا في هذه السلعة ويعرف أسرارها، فغادرته خبيرا في القرنفل والقرفة وحتى السواك والحناء. نصحني ان أخذ معي قمصان ليبية لأنها لا تختلف كثيرعن الباكستانية فهي مريحة ومناسبة للطقس هناك، وأيضا تعينك في التمويه؛ من تاجر غني وغبي إلى (نص باكستاني) وبالفعل اخذت معي عددا منها. وزيادة في الراحة والظهور بمظهر الليبي الشعبي المعتز بلباسه الوطني، اقترح رئيس الوفد أن نأخذ راحتنا على الأقل في الرحلة الطويلة بلباس مريح. ارتديت (سورية وسروال) ليبين. كانت الرحلة إلى روما ومنها إلى كراتشي، تأخرت الرحلة من طرابلس وبالتالي لم نلحق برحلتنا وتأجلت إلى اليوم التالي. اخذ الرفاق حقائبهم ولكن حقيبتي تخلفت في طرابلس، اخذتنا الشركة إلى فندق قريب من مطار روما.. وبدأت بالفعل كباكستاني في لباسي المضحك الذي زاده (شبشب الأصبع البلاستيكي) المفضل لدي صديق الأستاذ أحمد الماقني، الذي طاف به (الفيفث افينوا) و (التايم سكوير) في نيويورك.
بمجرد أن وصلت الفندق ركبت تاكسي إلى شارع تجاري بضواحي روما. لم أجد محلا مفتوحا، سالتهم لماذا؟ أخبروني: "فيرا دي أغوستو" وتظاهرت، انني فهمت ماذا يقصدون؟ لأعلم فيما بعد أن أغسطس هو شهر الاجازات لغالبية شركات ومتاجر إيطاليا. ولم تصل حقيبتي وطرت الى الباكستان مثلما غادرت طرابلس، غير أن غبار كراتشي جعل من لون ملابسي رمادي (مسخسخ).
وبحثت عن شهر الباذنجان هذا لأكتشف معلومات قد تكون مفيدة، او على الأقل مسلية، فليس في الأشهر شهر مثله، إذ يسمونه شهر الحر والضجر والرطوبة. يقول موضوع عن هذا الشهر أن المرء لا يجد عنوان كتاب يحمل شهر أغسطس يتحدث عن أغان أو طرائف أو شعر بل حروب وكوارث. صنع الله إبراهيم: "نجمة أغسطس"، برباره تاكمان: "مدافع أغسطس" الروسي ألكسندر سولجنتين: "أغسطس 1914 واحداث الحرب العالمية الأولى المرعبة". وفي أغسطس دمرت القبائل الجرمانية الشرقية (القوط) روما، ودمرت فيه القنبلة الذرية مدينتي (هيروشيما وناغازاكي) وردم بركان (فيزوف) مدينتي (بومبي وهركولانيوم الايطاليتين) يوم 24/8/79م وتجرعت فيه كليوباترا السم. ومن بعد أغسطس مباشرة أبحر كولومبوس نحو العالم الجديد سنة 1492 وفي الشهر نفسه سنة 1519غادر ماجلان اشبيليه في رحلته الشهيرة حول العالم، وفي عام 1498 نحت مايكل انجلو رائعته (المنتحبة).
شهر أغسطس هو برج الأسد؛ برج القوة والنار و"الحمو". ويعتبر شهر الاسترخاء والراحة وهو مناسب جدا لأحلام اليقظة. يسمى في الشام (أب) و(أوت) في تونس والجزائر و(غشت) في المغرب، و(أغشت) في موريتانيا.. أما في شرق ليبيا كان (الشياب) يسمونه (أغصغص)، غير أنه ثمة محاولات جادة، في غرب ليبيا، تقوم بها حكومة (المتوافقون) الثلاثة، وبرعاية مصرفهم المركزي أن يصبح أسمه : شهر (الباذنجان)، نكاية في الإمبراطور الروماني أغسطس، الذي لم ينفذ احفاده مطالبهم كافة.