يغفل البعض عن حقيقة أن مصطلح ما بعد الاستعمار (Post-colonialism) ومصطلح الاستعمار الجديد (Neo-colonialism) يعبران عن عدم وجود شيء يمكن تسميته الإستقلال! في هذا السياق ينبغي أن يكون مثقف الاستقلال شيئاً آخراً غير مثقف ما بعد الاستعمار، لأن جوهر المسألة يكمن في أن مثقف ما بعد الاستعمار، مثل مرحلة ما بعد الاستعمار، مجرد تطور للظاهرة الاستعمارية، بينما دور مثقف الاستقلال هو التأسيس لقطيعة معها.
ومقصودي من هذه الورقة هو إعادة النظر في أساليب التفكير الموروثة عن الإستعمار، لأن تلك الأساليب تجرنا سلفاً إلى ميدان لا يربح فيه سوى صانع/صاحب ادوات الحرب (الأفكار والمناهج). مرة أخرى؛ ما أود القيام به هو القطع مع سلوك الفصل بين السياسة والأخلاق (المعتمد غربياً)، لأنتهي إلى إدانة الحضارة الغربية أخلاقيا، ثم نقد ربيبها، مثقف ما بعد الاستعمار، الذي يعول على أفكارها ومناهجها لتحقيق الاستقلال، لأن استخدام ادوات الحضارة الغربية لتحقيق الاستقلال يمثل في تصور بن نبي "المسجون الذي يحلم بأن السجان سيسلمه مفاتيح السجن"!
الحضارة الغربية تبني سياساتها تجاهنا على الباطل، وهي تعلم أنه كذلك، فليس في الموضوع خطأ او سوء تقدير على الاطلاق. فعندما يتهم الاستعمار سكان المستعمرات بـ"كره الاجانب" أو ممارسة "الأرهاب" مثلاً، فكل هدفه هو وضع الإنسان المستعمَر في موقف أخلاقي متدني جداً يجعل آدميته نفسها محل شك! لأن عدم تحديد الاجانب الذين يكرههم ساكنة المستعمرات فيه من التعميم ما يجعل السامع يعتقد أن أهل البلاد الأصليين يكرهون الجنس البشري! وبهذا الشكل يصبح احتقار أو حتى إبادة السكان الأصليين (الهمج والبرابرة في لغة الاستعمار) أمراً مبرراً للدفاع عن الحضارة التي لن يصلوا إليها إلا إذا أحبوا المحتلين الذين استعمروا أرضهم - شرط تعجيزي. وبالرغم من أن موقف الانسان الغربي تجاه المستعمرات لا يعبر عن أي تحضر أخلاقي إلا أن أهل البلاد ضيعوا فرصة استقلال حقيقي عندما خاضوا المعركة مع المستعمر على جبهة القانون والسياسة تاركين البعد الأخلاقي في المواجهة نسياً منسياً!
ولازال الغربي يربح المعركة باستمرار لأن مثقف ما بعد الاستعمار تخبل في محاولة دفع تهمة كره الاجانب والارهاب، تاركاً الغرب في مركز متميز (سلطة الاتهام) بشكل دائم. سلوك المجرم مما لا يقارن مع موقف الضحية؛ وقبول الضحية لموقف المتهم والاكتفاء بالدفاع أو مقارنة موقفه مع سلوك المجرم، جعله إجرائياً، ومن حيث المبدأ، متنازلا عن اعتباره مظلوماً. ومن ثم انتهي به المطاف واقفاً على قدم المساواة مع المجرم!
وفي سياق المساواة بين المجرم والضحية تحرص دولة بني إسرائيل على أن تذكر التقارير التي تتابع جرائمها أن هناك عنف من الجانب الفلسطيني ايضاً، ليتساوى بذلك الطرفان وتذهب مظلومية الشعب الفلسطيني جفاءً! وفي انحطاط أخلاقي منقطع النظير يتوحد السياسيون الغربيون بالتصريح، ووسائل الإعلام بالنقل عنهم، أن اسرائيل تدافع عن نفسها. وبذا يسلب اليهود الأرض وحق الدفاع عن النفس معاً من الفلسطينيين، جهاراً نهاراً!
ولكي تجعل الحضارة الغربية الهزيمة من نصيبنا دائماً تناور بنا دون توقف لنلاحقها في الميدان الذي تربح فيه هي (الارهاب). هذه هي الاستراتيجية في معناها العسكري البدائي: المناورة بالخصم لجره إلى ميدان لا يربح فيه المعركة. والميدان الذي لا يربح فيه المسلم هو ميدان الفصل بين السياسة والأخلاق، الذي معناه أن السياسة لا أخلاق فيها. قبول المسلم لهذا المبدأ هو في حد ذاته خروج من الميدان الذي يمكن أن يربح فيه المسلمون الحرب، وتخلي عن السلاح الوحيد الذي لا تملك الحضارة الغربية نظيره.
نحن لا نرى مما سلف شيئاً لغياب الحس النقدي القادر على إنهاء القابلية للإستعمار الجديد؛ الاستعمار الذي يحتل العقل فيحول مثقف جنوب المتوسط بيدقاً ذاتي الحركة: يخرب الإسلام من الداخل ويطعن المسلمين من الخلف. صاحب الحس النقدي الأصيل الذي اتحدث عنه من نوع مالك بن نبي، الذي نبه إلى خطأ إجرائي في علاقة المسلم بالإسلام عندما قال: مهمة المسلم ليس الدفاع عن الإسلام لأن الإسلام محصن ذاتياً من هبة الله له، مهمة المسلم هي اكتشاف ما في الإسلام من وسائل الدفاع.
من الواضح في شريعة المسلمين أن الهجوم والدفاع في الإسلام يتم على الجبهة الأخلاقية، لكن استفزاز الغرب الدائم للمسلمين يدفع بعض أبنائهم بعيداً عن الجبهة (الأخلاقية) التي يمكن ان يربحوا فيها الحرب، ويدمجهم في ظاهرة العنف العشوائي الذي يسميه "الارهاب الإسلامي"! العنف العشوائي يظهر في الشرق الأوسط وفي الولايات المتحدة الأمريكية، غير أنه يقدم للمشاهد على أنه إرهاب إسلامي عندما يحدث في الشرق الأوسط، وحدث عابر عندما يحدث في الولايات المتحدة. وهذا يمثل سقطة أخلاقية أخرى للإعلام الغربي الذي يقدم نصف الحقيقة مشوهاً (عندما يتعلق الأمر بحركات المقاومة) ويخفي النصف الأهم من الحقيقة وهو القتل خارج القانون (دون محاكمة) الذي تمارسه الولايات المتحدة وداعش معاً، غير أن صفة الأرهاب تذهب لداعش وتعفى منها الولايات المتحدة، بالرغم من أنهما زملاء حرفة الارهاب. وهذا يفضح وسائل الإعلام الغربية التي تدعي الحياد وهي تمارس التدليس والتضليل الذي يرفع تهمة الارهاب عن الولايات المتحدة ويلصقها ليس بداعش وإنما بـ"الإسلام"!
جرجرة المسلمين إلى العنف العشوائي (الارهاب) هدف استرتيجي للغرب، فهو على غرار مقولة المسلمين يكرهون الاجانب، لا غرض له إلا وضع المسلمين في موقف لا أخلاقي يبيح لعديم الأخلاق الأصلي (ساكن البيت الأبيض أو ساكن الاليزيه أو الكرملين) قتلهم دون شفقة أو رحمة، وفي غياب تام لأي احتجاج عن القتل خارج القانون، اللهم ما تقوم به بعض منظمات حقوق الإنسان، من حين إلى آخر، من باب رفع العتب. في هذا السياق، المتوقع من المثقف الحديث عن عدم اختلاف داعش عن الولايات المتحدة وبقية حلفائها الصليبيين، وليس دفع تهمة الارهاب أو الالتحاق بركب المحاربين له.
لابد إذن من تأهيل المثقف (مثقف الاستقلال) ليكون قادراً على كسر حلقة التبعية لمدرسة المركزية الغربية، و المناورة بفكرة الإستقلال لإيصالها إلى ميدان الأخلاق، لأن الغرب لا يستطيع االمواجهة في هذا الميدان، وتبدو الحضارة الغربية في منتهى الهشاشة على هذا الصعيد، وإن لم يهتم عندنا أحد بذلك. الفصل بين السياسة والأخلاق حلَ مشكلة السياسيين الغربيين، لكن قبوله إسلامياً سيزيد مشاكلنا تعقيدا، لأننا إما أن نكون أخلاقياً أو لا نكون مطلقاً. بكلمة واحدة: مثقف الاستقلال - وجد أو لم يوجد بعد- هو المثقف الذي يرفض الفصل بين السياسة والأخلاق ويستطيع خوض الصراع الايديولوجي على هذا الأساس.