7- (استصلاح اراضي المستعمرة)
من المشاكل التي ورثها المارشال بالبو عند وصوله لطرابلس، عوز الموارد المالية الذاتية للمستعمرة وعدم قدرتها تغطية حوالي ثلثي مصاريفها والتي يتم تعويضها من من الخزانة الايطالية. احدى المحاولات الاولى عند وصوله هو ارسال البعثات الجيلوجية والمعدات للتنقيب عن النفط حول حوض سرت ومناطق اخرى بائت جميعها بالفشل بسبب محدودية الخبرات والتكنولوجيا الايطالية في مجال استكشاف النفط في ذلك الوقت.
لم يخفف هذا الاحباط من عزيمة المارشال بتحويل المستعمرة لجنات عدن للنصف مليون مهاجر ايطالي مع حلول منتصف القرن العشرين بكل الوسائل المتاحة والخزانة الايطالية المفتوحة له بعد رضا الدوتشي عنه. اول خطوة كانت بالتركيز على الاستصلاح الزراعي وتشجيع المزارعين واسرهم للاستيطان في مناطق مخصصة لهم ومدهم بجميع الحوافز للاستقرار واستصلاح الاف الهكتارات من الاراضي القابلة.
لم يكن بالو اول من قام بهذه الخطوة لكنه عانى من تركة الحكام السابقين من التقسيم الاداري السابق لتوحيد ليبيا من المنظومات الادارية الغير متجانسة واستغلال برامج دعم المزارعين في من الشركات الخاصة الموكل لها تنفيذ البرنامح لتضخيم ثروات اصحاب هذه الشركات نفسها على حساب الحوافز والعوائد المجزية للمزارعين الايطاليين باستبدالهم بالايدي العاملة الليبية الرخيصة من وراء الستار وعوامل اخرى سيأتي ذكرها لاحقا.
كان انطلاق هذا البرنامج مع الحاكم السابق للمستعمرة- دي بونو- وفي عام 1928 ومع العام التالي استوطنت ما لا يزيد من 455 اسرة او ما مجموعه حوالي الف وسبعمئة وثمانين مزارعا في مناطق اقليم طرابلس وتضاعف العدد ثلاث مرات مع نهاية العام 1933 ليصل الى 1.500 اسرة او سبعة الاف مزارع. بالنسبة لاقليم برقة كان الوضع مختلفا حيث لم يتجاوز المزارعين الايطاليين المتواجدين هناك عن 429 شخصا بسبب الاوضاع الامنية مع التمرد السنوسي في العشرينات وبداية الثلاثينيات.
تدخل المارشال بالبو بقوة لكبح جماح القطاع للخاص بزيادة الرقابة الحكومية الصارمة وتحت اشرافه الشخصي على برامج الاستيطان والاستصلاح الزراعي من خلال اعطاء سلطات اشرافيه ل"مؤسسة استعمار برقة" او (Ente per la Colonizzazione della Cirenaica) لتشمل اقليم طرابلس و تغيير اسمها الى "مؤسسة استعمار ليبيا" (Ente per la Colonizzazione della Libia). شدد بالبو شروط تقديم الدعم المالي لمستثمري الاراضي وسلم المؤسسة الوطنية الفاشستية للضمان الاجتماعي او (Istituto Nazionale Fascista per la Previdenza Sociale) مسؤولية اعطاء الاولوية لتوطين العاطلين عن العمل والعائلات الفقيرة من "الوطن الام" وتقديم كل المستلزمات اللازمة لاستصلاح اراضيهم الجديدة من منازل ومعدات والات الى بذور وماشية وتقديم القروض المالية والمشورة الفنية لتسهل على المستوطنين و اسرتهم التركيز على الجهد البدني لتحويل اراضيهم الى مزارع منتجة والوصول للاستقلالية التامة مع سداد اقساط قروضه للحكومة خلال عشرين او ثلاثين سنة.
بعد كبح جماح الشركات الخاصة ومع كل هذه الاجراءات المحفزة وتركيز الجهود على البحث عن الآبار الارتوازية، تشجيع مشاريع التشجير وزراعة مصدات الرياح على طول الكثبان الساحلية وتأسيس مراكز البحوث الزراعية لتحسين الثروة الحيوانية والمحاصيل، لاحظ بالبو هذه المرة تصرفات "مؤسسة استعمار ليبيا" المشبوهة وتورطها في عمليات ابتزاز الاسر المهاجرة بأجور زهيدة وتوزيع الحصاد بشكل غير عادل والفشل في تقديم الماشية والالات واعتماد الكثير من المستوطنين على الدعم فقط للمعيشة مع اهمال تطوير المزارع المخصصة لهم وذلك في تقرير قدمه لوزير المستعمرات في مايو 1936.
أظهر المسح الزراعي لعام 1937 نتائج متواضعة جدا. حيث لم يتم تحويل الا جزء متواضع جدا من الاراضي المخصصة الى مزارع صغيرة منتجة والباقي لا يزال في طور اقرب للاقطاعيات البدائية جدا. لم يتم توزيع اكثر من 760 اسرة مهاجرة فقط على 116 الف هكتار من الاراضي او بمعدل متوسط 152 هكتار للاسرة الواحدة بشكل اقل بكثير من الكثافة السكانية التي كان يامل ان يصلها بالبو. مع قلة العمالة اصبحت الكثير من المحاصيل المزراعية التي تحتاج للعمالة الكثيرة مثل كروم العنب واللوز والزيتون مصدر للمشاكل مع قلة اسر المزارعين والاضطرار لجلب العمالة الليبية الموسمية وتعارض ذلك مع الاهداف السياسية والديمغرافية لعمليات التوطين نفسها.
رغم ذلك لم يكبح المارشال جهوده للتحضير لاطلاق برنامجه الاستيطاني المكثف في صيف 1938 الذي يهدف لتوطين عشرين الف مهاجر جديد سنويا لمدة خمس سنوات متتالية كخطوة اولى نحو توطين نصف مليون ايطالي في ليبيا مع حلول منتصف القرن العشرين.
لم يغفل بالبو حنق القبائل الليبية من تهجيرهم من اراضيهم الرعوية وافساد نشاطاتهم الزراعية التقليدية مع عمليات الاستيطان خصوصا في الجبل الاخضر والسهول الساحلية لطرابلس. سببت هذه العمليات ايضا في اندفاع الليبيين الى البدائل التي قدمها الإيطاليون دون قصد: العمل المأجور، وبريق المدن الجديدة! اصبح الطلب الهائل على العمالة الليبية في جميع المجالات مثال قلق السلطات في روما والمارشال نفسه وحاول بالبو توفير بدائل للحياة الرعوية البدوية لليبيين دون ان يندفعوا نحو المدن والتجمعات الحضرية المخصصة للايطاليين بشتى الوسائل في قرى ذات مباني صحية وخدمات اساسية وتشجيع الاسر الليبية الراغبة في الزراعة الحديثة للاستفادة من الاعانات والمزايا الضريبية المماثلة لتلك المقدمة للايطاليين في مناطق "ديمغرافية" موازية لتلك المخصصة للمستعمرين الايطاليين.
لم تعجب هذه الحوافز القبائل المهجرة من اراضيها في الجبل الاخضر التي اعتبرتها ذر غبار في العيون امام مطالبهم بالرجوع لاراضي اجدادهم. ومع ذلك كانت برامج البناء الواسعة أكثر أهمية وجاذبية لليبيين من البرامج الزراعية الإيطالية وخصوصا في اقليم طرابلس. وفرت "الليتورانيا" او مشروع الطريق الساحلي من مرسى البريقة لمصراتة، وبناء قرى المستوطنين، والمباني الجديدة في المناطق الحضرية، آلاف فرص العمل لليبيين في تناقض صارخ عن الاعتقاد الشائع في ايطاليا بأن الايطاليين سيبنون "الشاطئ الرابع" بأيديهم. في الواقع كان الليبيين انفسهم من يقوم ببناء "الشاطئ الرابع" بسبب اجورهم المتدنية مقارنة بمهاراتهم المكتسبة في مجالات البناء والخدمات والعمل اليدوي بالاضافة للزراعة والحصاد الموسمي.
اثار منتقدي سياسة بالبو الاستيطانية الزراعية اسئلة عديدة حول تكاليف ومردودات كل هذه الاستثمارات الضخمة لرفع التنافسية التجارية للمنتوجات الزراعية للمستوطنات بما فيها جودة انتاج النبيذ الليبي مقارنة بالايطالي! في الواقع تم تقييم تكاليف الاستثمارات الايطالية في البنية التحتية والاستيطان والزراعة بحوالي 1.8 مليار ليرة (قيمة 1930) منها 654 مليون ليرة صرفت على المشاريع الزراعية حتى العام 1940 مع اصرار بالبو على تجاهل المردوات الاقتصادية الكلية مقابل المنافع الاجتماعية والسياسية للاستعمار في تحقيق حلم جنات عدن لنصف مليون ايطالي في وطنهم الجديد. وصل بالبو من الثقة بقدراته الادعاء انه حتى في حالة نضوب الاموال القادمة من روما، فانه قادر على جمع التبرعات من سكان مستعمرته لتحقيق هذا الحلم العظيم!
* راجع الحلقات السابقة (رابط)
يتبع...