لم تسألني مَن أكون إلا بعد وقت، ولا أتصور أنها في حاجة لسؤالي بعد أن تعرفت على ملامحي الجنوبية. فهي ما زالت لم تعرف اسمي وما زالت لم تعرف أن لي محاولات في الكتابة حين سمعتها تقول "أن مبدعي الجنوب يولدون عمالقة من بطون أمهاتهم" ولا أنكر لحظتها أنني شعرتُ بشيء يجمعني بهؤلاء العمالقة، وقلتُ في نفسي لابد انها تعرفني ولابد أنها قرأت لي، لكنني سرعان ما أصبت بخيبة أمل كبيرة حين اكتشفت أنها لا تعرفني ولم تقرأ لي ولا حتى تحسبني كاتباً، وشعرتُ أنني لستُ عملاقاً لكن جلوسي معها أشعرني أنني محظوظ، والمحظوظ في أحياناً كثيرة يكون أحسن حالاً من العملاق.
كانت جلسة رائعة معها إلى درجة أنني نسيتُ المظروف الذي جئتُ من أجله إلى الفندق وخرجت بعدها وعدتُ له من منتصف الطريق. شغلتني جليستي بهواها الجنوبي وعشقها لنا نحن الجنوبيين حتى أنني وعدتها بأن أجلب لها معي في المرة القادمة علبة من تراب الجنوب. وملتُ أكثر على الطاولة التي بيننا لأطلعها على مكانة مدينتها الزاوية في قلبي (فأنا ومن حسن المصادفة في أول عمل روائي لي كانت الشخصية النسائية المحورية التي اسمها "حياة" في الرواية من مدينة الزاوية والتي تعرفت على "بلقاسم" الرجل الجنوبي في حديقة الحصان الأسود بـ باب "بن غشير" / طرابلس) ما كنتُ اعلم يومها وأنا أكتب رواية (بلقاسم) في 2013 أن مبدعي الجنوب يولدون من بطون أمهاتهم عمالقة، ولو كنتُ أعلم لتركتُ فسحة أكبر لـ بلقاسم عساه يكون مبدعاً وعملاقاً. تأسفتُ لأنني حاصرتُ هذا الرجل الخمسيني في الرواية وحرمته فرصة العملقة التي ربما يكون الله قد منحها لكل مواليد الجنوب - سواء كانوا شخوصاً في روايات أو اشخاصاً في شوارع سبها. كان بلقاسم في الرواية من أسرة عانت من نظام القذافي، فماتت براعم الابداع في مهدها داخل سور بيتهم. خنقتها تلك المرحلة التي تشترط أدلجة الابداع، فشب بلقاسم كرجل لو دققت في ملامحه لرأيت تحت جلدة وجهه الذي طفق يتجعد مبدعاً ميتاً منذ زمن. أعرف أن مثل هذا الكلام قد يحسبه القارئ محض خيال، لكن بوسع أياً كان أن يرى ملامح المبدع على الوجه ويرى أيضاً موت الابداع تحت الوجه. إذ ما الابداع ما لم يكن طراوة على الجلد يمكن ان تلفحها سياسة ويمكن أن ترعاها سياسة من نوع آخر!.
أخبرتُ جليستي عن روايتي الأولى التي كتبتها بعد أن فوات الأوان، ووقفتُ كثيراً عند عباراتها التي أعادتها عليَّ مرتين في تلك الجلسة بأن مبدعي الجنوب يولدون من بطون أمهاتهم عمالقة. شعرتُ في هذه العبارة تهمة للأجواء التي تحيط بالمولود بعد الولادة في الجنوب. إذ ما معنى أن نولد عمالقة - كما قالت هي - ثم نكبر أقزاماً - كما أقول أنا، سوى أن يضمر الابداع ويموت العملاق في كل جنوبي ويحل محله قزم جنوبي لا قيمة له في ليبيا. لا شيء أسوأ من أن تولد الناس عمالقة ثم يكبرون اقزاماً كما يحصل معنا في فزان. لم توافقني هي الرأي ولم تر في حالة القزم التي أتحدث عنها إلا حالة عامة سادت المجتمع في فترة ما. وتساءلتُ أمامها هل لو وُلد ابراهيم عثمونه في تونس - مثلاً - أو حتى في غزة لكان من الممكن أن يمسي إبراهيماً آخر غير هذا المولود في فزان؟! أم قدرك يا ابراهيم أن تكون ليبياً وفزانياً ضمرَ فيك الابداع يوماً ومات العملاق وحل محله القزم في الزمن القزم؟! لم تجبني بشيء ولم تقوم بأي حركة سوى أنها زرعت على وجهها ابتسامة بددت عني الغمامة في نهاية هذا النص.
* راجع: الزمن القزم (1)