(1)
سقط فك إمبراطور الصين من الدهشة وهو يستمع إلى مترجمه ينقل إليه طلبات مندوب ملك بريطانيا جورج الثالث والتي تتعلق بحاجة الصين إلى فتح أسواقها أمام المنتجات البريطانية. "قل له.. أخبره" أجاب الإمبراطور الغاضب بلهجة حاول تغليفها بقدر من الدبلوماسية "إن إمبراطورية الصين السماوية لديها ما تحتاجه من السلع.. وليست في حاجة لاستيراد سلع أخرى من البرابرة". كان ذاك الرد القاطع هو المبرر الذي اتخذته بريطانيا فيما بعد حجة لها لشن واحدة من أبشع الحروب وأقذرها على إمبراطورية الصين والتي عرفت بحرب الأفيون.
كان التجار البريطانيون يشترون من الصين كميات ضخمة من الحرير والشاي والخزف ويدفعون ثمنا له كميات هائلة من الفضة مما جعل الميزان التجاري يميل وبشدة لصالح الصين. طالب التجار الحكومة البريطانية أن تتدخل لتفتح إمامهم أسواق الصين المغلقة. فبعث ملك بريطانيا مندوبه الذي جوبه بالرفض فكانت حرب الأفيون التي بدأت بإرغام المزارعين البسطاء بالهند على زراعة نبات الخشخاش ثم نقل المحصول إلى مصانع بالهند أقيمت لتحويل الخشخاش إلى أفيون ومن ثم تهريبه إلى الصين.
(2)
"إذا كانت مشيئة الرب أن يكون الأفيون وسيلة لفتح الصين لتعاليم المسيح فليكن الأمر كذلك". أحد شخوص الرواية |
رواية الكاتب الهندي الشهير اميتاب غوش الملحمية، "بحر الخشخاش"، اتخذت من تجارة الأفيون هذه مسرحا لتسرد حكاياتها المتداخلة من على خشبته ولترسم لنا صورا محزنة عن الدمار والخراب الإنساني الذي سببته هذه التجارة المقيتة ولتحدثنا عن توق الإنسان للحرية وبحثه عن الأمل بطرقِ جريئة ومدهشة، فهي تروي لنا قصة الزراعة الإلزامية التي فرضتها بريطانيا على الهند ليقوم المزارعون مجبرين بزراعة نبات خشخاش الأفيون ثم صناعته وتهريبه إلى الصين التي كانت آنذاك تتمتع باكتفاء ذاتيا يجعلها في منأى من الاستيراد. كل ذلك يتم عبر ملحمة هائلة من الآلام والدماء لخدمة هدف وحيد "ميزان المدفوعات البريطاني". تحدثنا عن حرمان المزارعين من زراعة أية محاصيل أخرى وعن تحولهم هم وملاك الأراضي إلى مدينين لقراصنة شركة الهند الشرقية.
بمهارة يُجمّعُ غوش شخصيات هامشية عدة لتبحر على متن السفينة "ايبيس"، وهي سفينة كانت تنقل العبيد سابقا تم تحويرها لتنقل الشحنات الجديدة من الأفيون والبشر. غوش مواطن كلكتا الذي يَتكلّمُ خمس لغاتِ والذي يتدفق حبّه للهند من خلال كتاباته وأحاديثه قدم لنا رواية وقصة مفجعة لسفينة لم نرها في الأدب منذ أن تسلق "إسماعيل" حبال السفينة "بيكود" في رواية هيرمان ملفيل الشهيرة موبي ديك.
أول شخصيات الرواية، "ديتي"، أم صغيرة تعيش على ضفاف نهر الجانج نحو 50 ميلا إلى الشرق من بينارس. تزرع الخشخاش مضطرة من اجل البقاء. (يبدو أن تدمير الاقتصاد الريفي لم يشغل بال البريطانيين)، و بالرغم من أنها لا تتعاطاه، فأنه إي الأفيون قد تسلل إلى عمق حياتها الأسرية. فالمخدرات تخدر الحس الأخلاقي، ليس فقط لأولئك الذين يتعاطوها وإنما أيضا لمن يشاركون ولو كرها في إنتاجها. عملية الإدمان هذه تكاد تكون فلسفية - هناك لحظة تأتي في حياة المدمن يكون تعاطي الأفيون عنده هو الوسيلة الوحيدة لتناسي الضرر الذي أحدثه التعاطي في حياته.
بالقرب من مصنع الأفيون ينتشر الإدمان حتى بين القرود التي تشرب من مياه الصرف الصحي. في داخل المصنع، يغمر الرجال أنفسهم داخل الصهاريج المعدة لمعالجة النبات حيث يبدون "كمجموعة من الجذوع الداكنة اللون بلا أرجل تدور وتدور داخل الصهريج كمثل مجموعة أسيرة من الشياطين". يصف لنا الكاتب الحياة داخل مصنع الشر ببراعة حدت بمحرر الصفحة الثقافية بالجارديان إلى القول بأن هذه الرواية "ذات نبرات تولوستوية مزجت بعواطف ديكنزية".
هناك ايضا "زكريا" العبد المُعتق الذي يخبئ وبشراسة أسرار ميلاده و"بابو نوب قاسم" بيروقراطي شركة الهند الشرقية المهووس بالخرافات و"سيرانج علي" الزعيم الماكر، و"نيل" الحاكم البنغالي المثقف الحالم الذي قادته سذاجته وقلة حنكته إلى الإفلاس والعار والإقصاء بينما سارع البريطانيون الذين كانوا يتهافتون على موائده إلى التسابق على حيازة أرضه. هكذا يتوالى رسم الشخصيات ومزج أقدارها ببراعة لنطاردها عبر صفحات الكتاب ونعيش بلهفة معها صراع الطوائف ومعاناة المنبوذين وجدل الحكام والمحكومين، نبل العواطف وبؤس الجشع. يعيدنا الكاتب بمهارة إلى الهند عام 1830 ليمزج عبق الروائح وغموض الطقوس وثراء الثقافة الهندية لنعايش معاناة شخوصه مع تاريخ ليس من صنعهم. تاريخ لم يعجزوا فقط عن تغييره وإنما أيضا على فهمه...!! يتبقى القول أن هذه الرواية هي جزء أول من ثلاثية ملحمية سيتطلع القارئ بشغف للعيش مع تفاصيلها.
(3)
فيما يلي ترجمة لصفحة من الرواية:
كان يمكن لذاك اليوم أن يمر كغيره من الأيام لولا أن "ديتي" ترأت لها فيه تلك السفينة ذات الشراع المرتفع على طرف المحيط. أدركت على الفور أن هذه إشارة من القدر. فلم يسبق لها أن رأت سفينة بمثل هذا الحجم حتى في أحلامها. وكيف يمكن لها وهي تعيش في شمال "بيهار" على بعد نحو أربعمائة ميل من الساحل؟ كانت قريتها تقبع بعيدا في الدواخل كعالم سفلي، تقبع في هوّةَ الظلامِ حيث اختفي نهر الغانغا المقدّس في الكالا- باني 'الماء الأسود'.
كان ذلك في نِهايِةِ الشتاء، في نفس العام الذي تأخرت شجيرات الخشخاش بغرابة في تكوين بتلاتها : ميلِ بعد ميلِ، مِنْ بنارس فصاعدا، بَدا نهر الغانغا يَتدفّقَ بين توأم من الأنهار الجليدية. بينما اكتست ضفتيه بطبقات مِنْ الزهور البيضاء. كما لو أنّ ثلوج الهملايا انحدرت على السهولِ لتنتِظر وصولِ هولي وتدفق الألوان الربيعية الزاهية.
عاشت "ديتي" في قرية على أطرافِ بلدةِ "غازيبور"، حوالي خمسون ميلَ شرق بينارس. مثل كُلّ جيرانها، كانت ديتي منزعجة لتأخّرِ محصولِ خشخاشِها: ذلك اليومِ، أفاقت مبكراً وقامت بأداء حركاتِ روتينِها اليوميِ، ثم غسلت ملابس زوجها "هوكام سينج" جيدا، أعدت وجبة طعامه ليَتناولها في منتصفِ النهار. بعد أن لفّتْ وحزمت وجبة طعامه، تَوقّفتْ للقيَاْم بزيارة سريعة إلى معبدها الصغير: لاحقاً، بعد أن استحمت وارتدت ثيابها، قامت بتقديم الزهور والنذور ثم قبل أن تغادر بيتها شبكت يديها في ركوع قصير.
أعلن صرير العجلة العربة التي يجرها الثور عن اقتراب موعد ذهاب "هوكام سينج" إلى المصنعِ حيث يعَملَ، في غازيبور، على بعد ثلاثة أميالٍ. بالرغم من أن المكان لَيسَ بعيداً، فالمسافة كَانتْ أعظم من أن يقطعها مشيا على الأقدام، فقد كَانَ يعاني من جرح قديم بساقه منذ أن كان جنديا في الفوج البريطاني. لم يكن العجز حادا ليتطلب استعمال العكاز. على أية حال، كَانَ قادراً على شَقّ طريقه إلى العربةِ دون مساعدةِ. تتلوه ديتي بخطوة واحدة، تحْملُ غذائَه ومائَه. وكالعادة، تسلمه الرزمةَ المَلْفُوفةَ في قماشَ بَعْدَ أَنْ يصعد العربة.
كَانَ سائق عربةِ الثورَ، كالوا، رجلا عملاقا، لَكنَّه لم يتحرك لمساعدة الراكب بل كان حريصا على إخفاء وجهه عن المشهد. فهو من طائفة المنبوذين بينما كان سينج من طائفة "راجبوت" الأعلى مقاما، كان السائق لا يريد أن يجلب سوء الحظ للراكب بأن يريه وجهه. الآن، بعد أن صعد العربة جلس الجندي الهندي السابق في الخلف يحتضن حزمته ويحرص على أن لا يمس حاجيات السائق . وهكذا انطلقت العربة التي يجرها الثور في مشهد غريب قد يتبادل الرجلان فيه بعض الكلمات ولكنهما حريصان كل الحرص على ألا تلتقي عيناهما أو يتبادلا النظرات.
المؤلف:
اميتاب غوش هو أشهر روائي هندي يكتب باللغة الانجليزية، ولد بكلكتا عام 1956. نال شهادة الدكتوراه من جامعة أكسفورد في مجال "الانثروبولوجيا الاجتماعية"، هذه بعض من أعماله:
- دائرة المنطق (1986).
- خطوط الظل (1988).
- كروموزوم كلكتا (1996).
- القصر الزجاجي (2000).
- رقص في كمبوديا (2001).
- المد الجائع (2005).
- ظروف قاهرة (2006).
- بحر الخشخاش (2008).
Sea of Poppies, Amitav Ghosh, John Murray - 2008
الحواشي والمصادر:
* الخشخاش هو مصدر الأفيون وهو نبات حولي يبلغ ارتفاعه من 2 إلى 4 أقدام ينتج أزهار ذات أربع بتلات قد تكون بيضاء أو قرمزية أو حمراء أو بنفسجية أو أرجوانية ولكن اللون الأكثر شيوعاً هو اللون.
- Guardian.co.uk, Sunday June 8
- The independent, Friday, 16 May 2008