تشخيصا للحالة الليبية في اللحظة الراهنة، نقول بان هناك استقطابا على مستوى الحراك السياسي والعسكري يتبلور في غرب البلاد، يقابله استقطاب مماثل له ومنفصل عنه يحدث في غربها، ولا حل لازمة ليبيا، ولا خروجها من المأزق التاريخي الذي تعانيه، ولا فعالية لهذين الحراكين في ادارة البلاد، الا بلقائهما وتحقيق التوافق بينهما ليكمل احدهما الاخر، عبر الدخول في صفقة سياسية تعيد للوطن لحمته الواحدة، وتنهي حالة التمزق والتشرذم والفصام المرضي ، وتوقف النزيف الحاصل على كل المستويات، بما في ذلك نزيف الدم الليبي البريء، وتبدأ العد التنازلي لاختتام المرحلة الانتقالية، والشروع في بناء المؤسسات الدائمة للدولة المدنية، التي ينشدها الليبيون، حكومة ودستورا وبرلمانا ومؤسسة رئاسية.
اذ تحقق في غرب البلاد، نوع من التوافق تحت المجلس الرئاسي، الذي يمثل اطارا شكليا على الاقل، اختفت تحته ما كنا نراه من نزاعات مناطقية وسياسية وميليشياوية، وصلت، فيما مضى، الى حد الاحتراب بين جماعات مسلحة من الزنتان واخرى من مصراته، ودخلت على الخط جماعات مسلحة اخرى اقل شهرة، وتحولت هي ايضا الى بؤر نزاع وتوتر كما حصل في بلدة صغيرة اسمها ككلة، واخرى اسمها شقيقة، عاصمة لقبيلة اسمها المشاشية، وثالثة اسمها رقدالين، ورابعة اسمها بئر الغنم، وهي مناطق انشغلت بها نشرات الاخبار رغم انها نقاط لا تظهر على خريطة البلاد لضآلة احجامها، كل هذا توارى الآن لنجد بديلا له الدخول في مصالحات بين المناطق والقبائل، وتبادل للاسرى، وانهاء لحالات الاحتراب والنزاع، وتحقيق نوع من التوافق انتهى بهذه التجريدة العسكرية التي تأتمر بامر المجلس الرئاسي، باتجاه الدواعش في سرت، والتي تتآزر فيها جماعات مسلحة، شملت حرس المنشآت النفطية.
في مقابل هذه الحالة في غرب البلاد، نجد ان الشرق الليبي يكاد يتوحد بكامله تحت راية ما كان يسمى بالحراك الشرعي، متمثلا في مجلس النواب، الذي انتهت ولايته، وحكومته المسماة الحكومة المؤقتة، والمؤسسة العسكرية الرسمية برئاسة الفريق خليفة حفتر، وهناك اجماع في الشرق الليبي على اهمية المؤسسة العسكرية والمحافظة عليها.
وهذا الاستقطاب والتمحور حول مؤسسة المجلس الرئاسي في الغرب ، مقابل التمحور حول مجلس النواب والجيش في الشرق الليبي، بقدر ما يفتح الباب على احتمال التقسيم اذا تغلبت المشاعر المناطقية وغاب الحس الوطني بوحدة التراب ووحدة البلاد، فانه ايضا يمكن ان يفتح الباب على احتمالات التوافق، بشكل اكثر قوة واكثر صلابة واكثر فعالية من اي وقت مضى ، اذا اقترب القادة في كل جزء من البلاد من بعضهم البعض، واعتمدوا الصياغات الجاهزة للتوافق، اسسا للعمل المشترك، ولو مع بعض التعديل والتحوير الذي يحقق الرضا والقبول. انه لقاء لا بديل عنه، الا الكارثة، ولا يحتاج غير ان يرتفع الطرفان الى مستوى المسئولية، ويضعان الحس الوطني مرشدا لهما، ومصلحة ليبيا فوق كل منفعة شخصية او مصلحة مناطقية او عشائرية او ذات منحى عقائدي او ايديولوجي.
هذا من ناحية، ومن ناحية اخرى فان الطرفين يحتاجان الى هذا اللقاء ليكتمل الوضع الشرعي والقانوني لكل منهما، لان كلا منهما يظل مفتقرا للشرعية، وللصفة القانونية الحقة، في ادارة ما يتولى ادارته الآن، فالمجلس الرئاسي مازالت تنقصه الشرعية التي لا تتحقق بدون مصادقة مجلس النواب على الحكومة التي يعمل بها، واعتماد برنامجه السياسي، ومبدأ المساءلة، وانتقال الاختصاصات اليه، التي تقضى تعديلا في الاعلان الدستوري.
اما مجلس النواب فهو يدرك انه يعيش الان مرحلة انتهاء الصلاحية، ونفاد زمن التفويض الممنوح له من الناخبين، وانقضاء حتى المهلة التي منحها لنفسه وهي مدة ستة اشهر بعد انقضاء صلاحيته، بالاضافة الى انه فقد الآن الاعتراف الدولي، وقريبا جدا سيفقد الموارد التي يتولى الصرف منها على نفسه، وعلى الجيش، وعلى الحكومة المؤقتة التابعة له، لانه لم يعد بامكانه السيطرة على موارد البلاد، ولا شرعية يمكن ان يحققها، ولا تمديد ، الا عبر اعترافه بالوثيقة النهائية لاتفاق الصخيرات، والمصادقة على حكومة الوفاق، واجراء ما يقتضيه الاتفاق من تعديل في الاعلان الدستوري.
اذن فالاثنان لا وجود شرعي لهما، خارج الوصول الى توافق بينهما، توافق تمليه مصلحة البلاد بالدرجة الاولى، وما وصلت اليه احوال الناس من تردي وانهيار على المستوى المعيشي والامني، وتمليه ضرورة العمل الإداري والسياسي ، التنفيذي والتشريعي لكل منهما، وتمليه ثالثا ضرورة التعامل مع المجتمع الدولي الذي لم يعد يستطيع التعامل مع حالة الفصام والشيزوفرينيا التي تعيشها ليبيا، الى حد انه اعتمد في الأيام الاخيرة تدابير قد يستغني بها عن وجود كيان سياسي في ليبيا، وضرب حصارا بحريا حولها، يقيه تسرب المهالك والارزاء القادمة من ليبيا، لتبقى هي معزولة كانها منطقة من مناطق الوباء.
وتمليه رابعا واخيرا عملية استشراء التوحش الداعشي في اركان البلاد، ويكذب الطرفان على نفسيهما اذا قال اي منهما انه يستطيع بنفسه مواجهة هذا الوحش الرابض على ابواب طيبة، فهو يحتاج الى معركة تتضافر فيها جهود الليبيين جميعا، مع ما يمكن ان يصل الى البلاد، من عون المجتمع الدولى ومؤازرته، لكي تنجو ليبيا من شروره، وتطهر ترابها من اخر معاقله وشراذمه وجيوبه .
* ينشر المقال بالتزامن مع نشره في صحيفة العرب.