خمسه (اسنين) واحنا في ظلام
وخمس (اسنين) واحنا مهجرين
وخمس (اسنين) من قطع الرحام
بين لحباب والحبل المتين
هذه أبيات مؤلمة مقدمة لقصيدة طويلة كتبها شاعر ليبي بأسى وحرقة لانه مهجراً عن وطنه، وربما بلا سبب، وكأنه ينبه وبحرقة شديدة إلى أن تهجير الليبيين عن أماكن أقامتهم، الذي حدث ولايزال يحدث يومياً، قسراً أو طوعاً، داخل ليبيا أو خارجها، يشكل نكبة كبرى ونقطة شديدة السواد والبشاعة تلطخ ثوب ثورة فبراير العاجي، ونظراً لحساسية هذا الملف الشائك، وأرتباطه بملفات أخرى معقدة جداً ومتداخلة، فأن إزالة هذه البقع الشديدة الوساخة ومعالجتها يحتاج منا جميعاً أفراداً وجماعات وهيئات ومؤسسات حاكمة، العمل بتكاثف وبنية صادقة وجهد مضاعف وصبر كبير وحكمة شديدة من أجل تسوية هذا الملف بشكل كامل عادل وذلك بإعادة المهجرين والنازحين الليبيين لبيوتهم، والتعهد بحمايتهم عند عودتهم، والاعتذار لهم وتعويضهم ماديا ومعنويا وأن يتم ذلك وفق ترتيبات صحيحة وفي ضل نظام قانوني معترف به ويسرى ويطبق على الجميع، وبحماية قضاء عادل ونزيه لايشكك في نزاهته أي ليبي.
فلايزال ملف تهجير الليبيين عن أماكن أقامتهم يشكل نكبة كبرى وحقيقية، لان كل الحكومات الليبية السابقة والتي تحكم الان وكل مؤسسات المجتمع المدني الليبي، والهيئات والمنظمات الدولية، غفلت منذ بداية النكبة عن تدارك التداعيات الخطيرة الناجمة عن تجاهلها ولم يكن من أول أولوياتهم حلحلة هذا الملف ففشلوا جميعاً في انصافهم وأعادتهم لبيوتهم.
فلاشك أن عملية التهجير والابعاد القسري عن المكان الذي يعيش فيه الانسان، وإجباره على العيش قسرا في مكان أخر نكبة، حين يقوم بهذا التهجير عدو خارجي يهجر السكان الأصليين ليحتل أرضهم، لكنه يصبح أكثر من مجرد نكبة إذا كان من تم تهجيره ليبي ومن قام بالتهجير ليبي تربطهما علاقات وطيدة ومتينة اخوة في الدين الواحد والوطن الواحد ويفترض ان يربط بينهما نسيج اجتماعي متماسك ومتين وعلاقات اجتماعية وأسرية وعلاقات قربى ومصاهرة إختفت كلها وحل محلها الحقد والبغض والبشاعة والكراهية.
نعم تهجير الليبيين ليس مجرد نكبة، بل زلزال عنيف هز الليبيين من داخلهم، وأصابهم بالذهول لان قيام مواطن ليبي بتهجير وطرد مواطن ليبي أخر من بيته وأجباره عن تركه تحت أي سبب من الأسباب، عملية قذرة وتصرف عبثي مشين، ينم عن سلوك متطرف أطاح بكل القيم الإنسانية الجميلة والمبادي الأخلاقية السامية التي يفترض أن تعامل وفقها الانسان مع أخيه الانسان.
نعم لابد أن نعي جميعاً أن تهجير أخوة لنا عن بيوتهم وطردهم منها ليس مجرد نكبة حلت بنا في غفلة منا، لكنها عملية معقدة عبتث وغيرت معالم الجغرافيا الليبية، فتم محو مدن أو قرى كاملة من خريطة ليبيا لانها أصبحت خالية من سكانها، وأنشئت مدن وقرى تحولت تدريجيا من مدن وقرى إلى مخيمات صغيرة وكبيرة، كما تباعدت المسافات بين المدن والقرى الليبية فصارت المسافة مثلا بين غريان وطرابلس والتي كانت يتم قطعها في غضون اقل من ساعة، صار من المستحيل ان يتم قطعها الان في أقل من ثلات ساعات أو أكثر، وصار التواصل بين سكان الزاوية وسكان طرابلس عن طريق البر أمراً بعيد المنال.
نعم عملية تهجيرهم خارج بلادهم إلى بلدان أخرى، أو من داخل مدنهم لمدن وقرى أخرى بعيدة عنهم ليست مجرد نكبة، أنها أكبر مأساة يتعرض لها الليبيون تفوق في بشاعاتها وأثارها السلبية المتعددة ماحصل فترة الاحتلال الإيطالي، سواء في عددهم المهجرين الذي تجاوز المليون، أو في تجاهل المؤسسات الحكومية المحلية ومنظمات المجتمع الدولي لخطورة ماحدث لهم، وتعمد عدم البحث في جذور الازمة من أساسها ومسبباتها، والبحث عن ماتبع هذا التهجير من مأسي وانتهاكات جسيمة لحقوق الانسان الليبي.
عملية التهجير التي حصلت في ليبيا أكثر من نكبة، لانها أطاحت بمبادي العدل والمساواة والحرية وحقوق الانسان، رغم أنها نتيجة مباشرة من نواتج ثورة فبراير المجيدة التي يفترض أنها تنادي بتطبيق العدل والمساواة والحرية وحقوق الانسان.
سالم أبوظهير
* ينشر في إطار الشراكة مع "صحيفة فسانيا".