المهنيّة والمسؤوليّة الوطنيّة… خطـورة الإعـلام فِي مراحـل التغييـر والانتقال
كان التخلص مِن الاستبداد والعيش الكريم، مطلباً شعبياً والشغل الشاغل لكلِّ المُناضليـن والمُهتمين بالشّأن العام، ولذا رأينـا أغلـب شعـوب المنطقة تخرج عَن صمتها بمجرَّد خروج التونسيين فِي الشّوارع فِي السّابع عشر مِن ديسمبر / كانون الأوَّل 2010م وإشعالهم فتيل الثورة، وتنزل إِلى الميـاديـن والساحـات فِي مطلـع العام 2011م وتهتف بصّوت واحـد كان قـد ميّز هذه الثورات، الّتي عُرفت بـ( ثورات الربيــع العربي)، ألا وهُـو هتاف: (الشّعـب يريـد إسقـاط النَّظـام). ولابُدَّ أن نقول فِي البداية إنَّ الدول الّتي خرجت مِن الاستبداد وإعلام اللون الواحد والنَّظام السّياسي الّذِي يقوم على أسس الولاء لا الكفاءة، ولا يعتمد التأهيل والخبرة والمهارات والمعايير المهنيّة كأساس فِي التكليفات والتعيينات، وجـدت نفسـها أمام فوضى جـديدة، حيث لم تجد مؤسسات بالمعنى الصحيح للكلمة، فالأنظمة الّتي تمّ إسقاطها – وليبَيا على الوجه التحديـد – كانت قائمة على ربط كلِّ شيء بشخص القائـد والحاكم بأمره الّذِى بنى حكمه على (ما أريكم إلاّ مَـا أرى). ووجدت نفسها، مِن جهة ثانيّة، فريسة لإعـلام منفلت اصطادته بعض جهات التمويل ذات المآرب والأجنـدات الخاصّـة، فصار الإعـلام سبباً رئيساً مِن بين الأسباب الأخرى الّتي أدَّت إِلى صبّ الزّيت على النَّار وتعميق المشاكل والخـلافـات بل خلـق مشاكل وأزمات جـديدة.
تُرك المجـال والمساحة أمام الاتجاهات الأيديولوجيّة المختلفة، فأسست كياناتها قبـل أن تستقر الأوضاع ويصدر قـانون ينظم وجود الأحزاب ويقننه، وقـد كانت »الأحزاب« طيلة سنوات حكم معمّر القذّافي الّتي بلغت اثنين أربعين عاماً، مُجَرَّمةً ومحرمةً وتُعد خيانة عقوبتها الإعدام بنص قانون 71 لسنة 1972م بشأن تجريم الحزبيّة الصّادر بتاريخ 3 يوليـو / تمـوز 1972م. وتمّ غض الطـرف على تمويل أجنبي لإعلام محلي موجه إِلى الدّاخـل الِلّيبيّ، كان مِن المفترض أن يكون تمويله محلياً ويخـدم هدف الاستقرار وبناء الدولة، ويؤدي دور الإنارة المنوط على عاتقه، فصار هذا الإعلام الممول مِن أطراف خارِجِيّة، أداة إثارةٍ بدلاً عَن الإنارة، وعنصـراً لا يعوّل عليه فِي البنـاء، إنَّ لم نقل عنصر هـدم.
وَرُبَّما نَسْتطْرِد هُنَا لِنَقِف أَمَام تجربة آبائنا المُؤسسين، أمام قرار تجميـد الأحزاب أو إيقاف النشاط الحزبي فِي ليبَيا فِي غضون شهرين مِن إعلان استقـلال البـلاد. اتخذت أوَّل حكومة ليبيّة بعْد الاستقلال، حكومة السّيِّد محمود أحمَـد ضياء الدّين المنتصر قراراً بتاريخ 19 فبراير/ شباط 1952م يقضي بإيقاف الأحزاب، نظراً للاضطرابات الكبيرة الّتي حدثت أثنـاء أوَّل انتخابات تجرى فِي البـلاد خصوصاً فِي مدينـة طرابلس، وقـد كانت الأحزاب سبباً مِن بين أسبابها، بِالإضافةِ إِلى أنها كانت ممولة مِن الخارِجِ، وأن امتدادات بعضها كان إِلى مَا وراء الحدود. ولأن حكومة المنتصر رأت بأن السماح بالنشاط الحزبي فِي دولة مازالت فِي طور التأسيس وتعاني مِن الفقر والأميّة، قد يكون عبئاً على التأسيس وبنـاء الدولـة، وقد يؤدي إِلـى فتـح ثغرات وإحداث انقسامات قد يتسرب منها النفوذ الأجنبي فتتشتّت كلمة الأمّة وينفرط عقد بناء الدولة ووحـدة الصّف الوطنيّ.
وَمُؤكـداً، الآباء المُؤسسون ورجال الدولة الّذِين يأتي المنتصـر فِي مقدمتهم، كانوا يرون أن الوقت مازال مبكراً على إنشاء الأحزاب وأن معطيـات تكوينها وضمانات تأثيرها الإيجابي غير متوافرة بالمرَّة، ولكنهم كانوا – وفِي الوقـت نفسه – مقتنعين بأهميتها وضرورة وجودها مُسْتقبلاً، فلا مُسْتقبل للتطويـر والمنافسـة والدّيمقراطيّة إذا ما غُيبت الأحزاب، وظلّت مصادرة وممنوعـة مِن أداء دورها الوطنيّ المنوط بها والملقى على عاتقها. وَمِن المُؤكـد أيْضـاً، أن قرار تجميـد الأحـزاب، لـم يكـن السبب مِن ورائـه، إقصاء الرَّأي المخالـف أو حبّ التسلط وتهميش الآخر، إنّما كان مراعاةً للظروف، وسدّاً لأبواب التدخلات الخارِجِيّـة، وفهماً للواقع، وحرصاً على بنـاء الدولـة، ولـذا لم ينص دستـور دولـة الاستقـلال فِي مادة مِن مواده على تجريم الأحزاب أو تحريم النشاط السّياسي المُنظم. وقد كان بإمكان القـوى الوطنيّة بمختلـف أطيـافها، الطعن فِي قرار حكومـة المنتصر بشأن تجميـد العمل الحزبي وإيقافـه، وهذا مَـا لم تفعـله تلك القوى وقتئذ، لأن حريتها لم تكن مصادرة، فقد كانت تنتقد بحريّـة تامّـة وتعارض وترفـع صوتها ضـدَّ كلِّ مَـا تـراه خاطئاً مِن وجهة نظرها، وقـد سجلـت اعتراضها فِي أكثر مِن موقع، وسبق لبعض المنتسبين لها أن طعنوا فِي قرارات مشابهة وكسبوا بعض القضايا الّتي كانت محل نظر أمام المحاكم. ورُبّما مِن باب التدليل هُنا، لا يسعنا إلاّ أن نذكر قصّـة الدعوى الّتي رفعـها المحامي علي الديب رئيس المجلس التشريعي بولايّة طرابلس، ضدَّ المرسوم الّذِي أصدره المَلِك إدْريْس السّنوُسي – طيب الله ثراه – بتاريخ 19 يناير / كانون الثّاني 1954م والقاضي بحل المجلس التشريعي بالولايّة، وقـد طلب المدعي ببطلان حل المجلس التشريعي واستئناف عمله على الفور. انعقدت المحاكمة يوم الخامس مِن أبريل / نيسان 1954م، برئاسة المُستشار علي منصُـور وبحضور المُستشار حسـن أبو علم والشّيـخ عبدالحميد الديباني وبحضور النيابة العامّة، وقد حكمت المحكمة ببطلان الأمر الملكي بحل المجلس التشريعي لولايّة طرابلـس.
هَذا الاسْتِطْرَاد يصلنا إلى مَـا حدث بعْـد ثورة السّابع عشر مِن فبراير، فقـد تُرك التمويل الخارجي يصرف على إعلامنا ويوجهه أينما شاء وكيفما شاء، وسُمح بتكوين الأحزاب قبل وجود إطار دستوري وقانوني ينظم الحيَـاة السّياسيّة فِي ليبَيا، لنجـد أنفسنـا بعدئـذ أمـام صـراع يتمـدد، ويأخـذ مـداه ليصـل بالبلاد إِلى حـالة مِن الفوضى والانفلات تسرب مِن خلالهما الإرهاب والجريمـة المُنظمـة، وبعـدها وصلنا إِلى التشظي والفرقـة والاقتتال وتوقف عجلـة الاقتصـاد بالفساد وسوء إدارة الموارد، ثمّ إيقاف تصدير النفط والغاز، المصدر الأساسي لإيرادات الخزينة الِلّيبيّة.
كان رجـل الدولـة بحسـه الوطنيّ والوظيفي موجوداً فِي مرحـلة التأسيس فِي عهـد الاستقـلال بينما هُـو غيـر موجـود الآن، فالّذِيـن تصـدروا المشـهد فِي ذلك الزمـن وأسندت إليهم مُهمَّة التأسيس كانوا مَسْؤُوليـن، وكان الوطـن همـهم الأوَّل والأخيـر بعيداً عَن تحقيق المصالح الذّاتيّة، والإيديولوجيّة، والحزبيّة. وقد تميّز أولئـك الرجـال بالرزانة والكلام المتزن، والفهم الجيـد لتركيبة المجتمع، والقدرة الكبيرة على التّأثير، وكانوا يتمتّعون بعقليّة الحكم ويمتلكون المهارات الإداريّة الضروريّـة لأداء وظيفتهم بكفاءة وفاعلية.
فِي ذلك الزمـن، كان محمود المنتصـر وعُمر فائـق شنّيب وحسين مازق وآخرون، بينما لم يتصـدر المشهد بعْد ثـورة السّابع عشر مِن فبراير رجال دولـة يحملون رؤيّة واضحة وأفكاراً متقاربة لحمايّة الوطن والمجتمع مِن التفكك والاقتتال، ويكون همهم بناء الدولة الّتي صادرتها عقود مِن الاستبداد.
لم يُقدر مَنْ قادوا ثـورة السّابع عشر مِن فبراير ورسموا خارطـة الطريق أو الانتقال، المسؤوليّة حق قدرها، ولم يفهمـوا الواقـع الِلّيبيّ ومتطلبـات مرحـلة التأسيس وإعادة البناء، كمَـا فهم ذلك الآباء الأوائل المُؤسسون للدولة الِلّيبيّة، حيث تعاملوا مع المرحلـة بفهم ووعـي كبيريـن، كذلك بتجرَّد تـامّ وتقدير صحيح لحجـم التحديات وجسامة المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم.
لم يُقدر المسؤولون المُشَار إليهم آنِفاً، خطورة الفوضى الإعلاميّة والصّراع المبكر للاتجاهات الأيديولوجيّة، على أمننا الوطنيّ وسلامة نسيجنا الاجتماعي وعمليّات التأسيس وإعادة البناء. ولا شكّ أن عدم الاستفادة مِن التجربة التاريخيّة وقِصَـر النظـر وعدم الشعور بثقل المسؤوليّة الملقاة على عاتق مَنْ تحملوا المسؤوليّة، كانت أحد الأسباب الرئيسيّة فيما آلت إليه أوضاعنا، ولكن الفوضى الإعـلاميّة كانت الأكثر خطورة، وهُناك جزئيّة فِي الجانب الإعـلامي أرى ضرورة الإشارة إليها فِي هذه الوقفـة ثمّ وضعها فِي بؤرة الاهتمام بتسليط شيء مِن الضّوء عليها.
أفرز هذا المناخ الإعلامـي – وبشكلٍ لافت – إِعلاميـُّين جُـدُداً، أو المذيع المحاور المنضم لطـرف والمنحاز لضيـف ضدَّ آخر، ففقد الحـوار مسار الاستفهام والسّؤال، وضاع دور الإعلام القائم على رفـع الحس الوطنيّ والمستوى الثقافي ودرجة الوعي، بانتهاجه سياسة الاستفزاز والتأليب، معتمداً شعار: » مَنْ ليس معي فهُـو ضدَّي أو عدوي «، وغدا الإعـلام بهذا النهج الخطيـر أداةً للتقسيم، حيث قسَّم المجتمــع إِلى نصفين أو أكثر، وساهم – وبطريقة مَا – فِي رفض الآخر وعدم قبوله أو الاستماع إليه.
أنتجت هذه الفوضى، المذيع أو المحاور غيـر الملم بموضوع النقاش، أو الجاهل به، المحبّ للكلام والّذِي يطرح رأيـه ولا يترك آراءه الخاصّة على باب الاستوديو.. وفئة مِن الإعلاميين حادت عَن المهنية فصـار الواحـد منهم يخرج على شـاشة التلفزيون لتحقيق الشهرة بأيَّ ثمن، ويحشر أنفـه فِي كلِّ شيء ليقول أنا موجود. وبدلاً مِن أن يأخذ المذيـع الرَّأي والتحليل مِن الضيف أو الضيوف، غدا يحتل المساحة الأكبر مِن الوقت، ويقـول رأيـه ويحلل، كأنه ضيف وليس مقدم برنامـج.
لم يعـد هذا الإعلامي أو المذيـع، يهتم بالمهنيّة ويراعي مسؤوليّة الكلمة، ولا يسعى إِلى الارتقـاء بمستوى الحـوار بل صـار يأخذه إِلى مواقـع الفِتَنِ والشتائم والتوتر، ومَا يؤدي إِلى تصـدع النسيج الاجتماعـي وإيقاع الخصومة بين أبنــاء الوطـن الوحـد.
هذا الإعـلامي مسؤول حتماً عمّا وصلنا إليه مِن تفكك وانحدار ومَا ينذر بالخطر، كمسؤوليّة السّياسي والنائب تماماً، بل رُبّـما مسؤوليته أكبر وأشـد خطـورة!.
فإلى أيـن يسير بنا هـؤلاء!؟.