(1)
عندما بدأت المباحثات الليبية بالصخيرات بدا أسم الأسم مألوفاً لدي... نقبت قليلاً.. ثم تذكرت.. إنها المدينة التي بها القصر الملكي الذي شهد محاولة انقلاب دامية بالمغرب عام 1971 وسمي بإنقلاب قصر الصخيرات.
وقع الانقلاب يوم 10 يوليو 1971 اثناء الاحتفال بعيد ميلاد الملك الراحل الحسن الثاني عندما هجم على القصر المئات من طلاب المدرسة العسكرية وجرى اقتتال نتج عنه موت وجرح العشرات من الضباط ورجال الحرس الملكي والضيوف من المشاهير ونجى المك بإختباءه في إحدى حمامات القصر. كان الانقلاب يقوده كل من الجنرال مذبوح والكولونيل اعبابو. ورغم تمكن الانقلابيون من السيطرة على القصر وعلى الاذاعة إلا ان أعوان الملك بقيادة الجنرال أوفقير تمكنوا من استرداد السيطرة والقبض على من تبقى من الانقلابيين وايداعهم السجون.
كان ذلك في المغرب.. أما في ليبيا.. فقد كانت الدولة الوحيدة في العالم التي هللت لإنقلاب لاتعرف عنه شيئا... فقد اجتمع على الفور مجلس قيادة الثورة بقيادة عقيده الشهير وتم اصدار البيانات الساخنة االتي تؤيد الانقلاب المجهول واصدار الأوامر للقوات الخاصة لتكون على أهبة الاستعداد للتدخل بالمغرب ومساندة الانقلاب الذي يقع على بعد الالاف من الكيلومرات في بلد كنا تقريبا نجهل كل شيء عنه... هكذا ارتبطت في الذاكرة صلة ما بين ليبيا والمغرب والصخيرات... كنت اعتقد انها تلاشت لولا الحوار الليبي- الليبي بنفس المكان..!!!
(2)
في يوم 16 اغسطس من عام 1972 كانت دولة المغرب وملكها وجيشها على موعد مع القدر ومع حدث سيسهم في تغيير المغرب وسياساته الداخلية والخارجية الى الأبد... في ظهر ذاك اليوم كان الملك يتبادل اطراف الحديث مع مرافقية في طائرته حول نتائج زيارته الى فرنسا و يهيء نفسه ذهنيا لمراسم الاستقبال والى طوابير المستقبلين الذين هم الان في انتظاره.
لم يكن جلالته يعلم انه ستكون في انتظاره ثلاث طائرات حربية ستسعى وبكل قوتها لإسقاط طائرته البوينج وتضع بذلك حدا لحياته وملكه. لذا كان ذهوله وحاشيته كبيراوهم يسمعون صوت الإطلاقات ويعايشون اهتزاز الطائرة التي نجح المهاجمون في إصابة حجرة قيادتها وتعطيل ثلاث من محركاتها. ويبدو أن الذخيرة قد نفذت من المهاجمين الذين عادا إثنان منهما الى القاعدة فيما حاول الثالث ان يصطدم بطائرة الملك ففشل في ذلك وتحطم سقف طائرته ليقفز بالمظلة وينكسر كتفه ويتم إلقاء القبض عليه ليفك لرجال الأمن فيما بعد شفرة هذه المحاولة الغامضة التي تبين ان ورائها جنرال المغرب القوي وحليف الملك وأبرز حماته الجنرال أوفقير.
كانت غضبة الملك كبيرة وتبعتها إجراءات قاسية في حق كل من شارك بشكل مباشر او غير مباشر في التحضير او التنفيذ لهذه المحالة. كما تبعها قيام السلطات المغربية بإتخاذ إجراءات قاسية وغير معهودة بشأن المتهمين في محاولة سابقة كانت قد جرت العام الماضي بالصخيرات. فقد صدرت الأوامر بترحيل كل المتهمين الذين صدرت بحقهم احكاما تزيد عن ثلاث سنوات الى سجن سري تم بنائه في الصحراء وصمّم ليعيش من يدخله أهوال الجحيم.
في هذا المعتقل تم الدفع بثماني وخمسين معتقلا ليعيشوا 18 عاما من الظلام الدامس وسط زنازين مغلقة بإحكام لا ينفذ منها بصيص من النور، وليعيشوا في زنزانات فردية خارج الزمان والمكان، ليعيشوا الذل والجوع والعطش والبرد والعزلة ويتعايشوا مع العقارب والحشرات والأمراض والموت البطيء.. في مثل هكذا مكان يصير الموت أمنية.
مات من المعتقلين ثلاثون معتقلا وصمد الباقي رغم كل شيء. وجدوا في قلوبهم من النور وفي عزائمهم من الصبر وفي خيالاتهم من الزاد ليتواصلوا رغم الجدران.. وليرتلوا ويحفظوا من القرآن وليرووا القصص والأحلام... صمدوا كما تصمد الأساطير في وجه الزمن.
قصة هذا المعتقل.. الذي هو قصة تتكررت عبر التاريخ في بلدان كثيرة.. كتبها بصدق موجع وبروح إنسانية منصفة السجين السابق الأستاذ أحمد المرزوقي في كتاب بعنوان "تزممارت: الزنزانة رقم 10". قراءة هذه الكتاب الرواية أراها واجبة على كل حقوقي وسياسي وعلى كل من يطمح في دخول عالم السياسية ليعلم حجم المعاناة والالام التي يسببها القمع والظلم وليدرك أوهام القوة وحماقاتها.. وليدرك أن العدل والعدل وحده هو المبتغى.. والمخرج.. والأمل.
* لمعرفة المزيد عن هذه التجرية الإنسانية القاسية والفريدة اقترح المراجع التالية:
• أحمد المرزوقي، "تزمزمارت: الزنزانة رقم عشرة"، الناشر: المركز الثقافي العربي - المغرب 2012.
• "من الصخيرات إلى تازمامارت... تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم" تأليف: محمد الرايس، ترجمة: عبد الحميد جماهري الطبعة الأولى - 2000 الناشر: منشورات الاتحاد.
• طاهر بن جلون، "تلك العتمة الباهرة"، دار الساقي 2000.
• بلال التليدي، "ويعلو صوت الأذان من جحيم تازمامارت"، المغرب 2000.