العدالة الإنتقالية مفهوم قانوني وخريطة حقوقية حديثة المنشأ أملته ظروف التحولات الجذرية والثورات الشعبية التي جرت في عديد من دول العالم مما استوجب البحث عن طريقة تضمن الإنتقال من ارث استبدادي شمولي الى افق ديموقراطي واعد بما يضمن معالجة الإشكاليات والمعضلات التي افرزتها مرحلة الإنتهاك والتسلط وبما يحقق (العدالة) أثناء مراحل هذا الإنتقال.. ضمن إجراءات إرشادية محددة.. وقد نجحت هذه (الوصفة) القانونية في معالجة تعقيدات وارتباكات الإنتقال في كثير من الدول التي توافرت فيها الظروف الموضوعية لإتجاهها..
نحن والعدالة الإنتقالية؟
بعد قيام ثورة 17فبراير والتي جاءت بعد تراكمات طويلة امتدت لعقود من الإستبداد والشمولية ومصادرة كل ما يمتّ لمفاهيم الديموقراطية والمشاركة السياسية بصلة وجدنا انفسنا نواجه واقعاً جديداً معقّداً تسيدته اصوات الرصاص وخضبه نزيف الدم في معركة شرسة بين النظام الذي عمد الى عسكرة الثورة وبين القوى التي لامست حلماً كان بعيد المنال وهوتحطيم صرح الإستبداد والظلم.. وما أن سقط النظام.. وبدأنا نواجه واقع بناء الدولة وصنع المستقبل.. وبعد أن استنفذنا مخزون الفرح والبهجة وبدأت نشوة الإنتصار تخبوأمام استحقاقات الواقع الجديد حتى برز سؤال مركزي (ما العمل؟) فكان أن عمدنا الى (استيراد) مفهوم (العدالة الإنتقالية) وتعاملنا معه تعاملاً يعتمد على النقل والإستنتساخ دون فحص وتدقيق (قطع ولصق) وعمد البعض الى تلقين وحفظ قواعده عن ظهر قلب وتحمسنا له ورأيناه حلاً سحرياً في حين كان الجميع (وانا أولهم ) نتلقى الوصفة الجاهزة وكأنها حل سحري قادر على تحقيق الإنتقال الذي ننشده..فصدر قانونان “للعدالة الإنتقالية” من المجلس الإنتقالي والمؤتمر الوطني.. ولد هذان القانونان خذيجان لا قدرة لهما على الحياة ومعالجة ما كان ينبغي ان يعالجاه.. وأمام تعقيدات الواقع الشائك ورغم (خيام الأكسجين) فارق المولود الحياة غير مأسوف عليه من أحد جراء قصور الفهم وإنعدام الواقع الموضوعي الذي خُلق هذا المفهوم لمعالجته في دول اخرى.
أين الخلل؟
ان اطالة أمد الصراع المسلح الذي امتد لعدة اشهر اثناء الثورة.. زاد من تعقيد الواقع وافرز اشكاليات مركبة لم تكن تراود أذهان من صمموا مفهوم (العدالة الانتقالية) النموذجي كما أنه أدخل قوى لساحة المعركة محمّلة بمشاريعها الأيديولوجية والجهوية وتتحصن بالسلاح الذي صار البلد متخماً به حتى الأسنان.. كما أن ما صاحب المعركة المسلحة من انتهاكات لحقوق الإنسان أثناء وبعد نجاح الثورة (وصل الى حدّ تماهي الضحية بالجلاد)!! قد زاد من ارباك المشهد.. كما ان ارتفاع الأصوات الموتورة والجامحة والتي اعتمدت تصنيفات قاهرة ومفاهيم جهوية مناطقية.. قسمت البلاد الى (مدن ثائرة.. ومدن موالية) قد زاد التعقيد تعقيداً بل وصل الأمر الى حدّ الدعوة الى اعتماد مفهوم (عدالة المنتصر) وأن الثورة انتصرت وليس امام خصومها سوى الرضوخ أوالإزاحة والإقصاء بل وحتى (الإجتثاث) وقد غذّى هذا الإتجاه وجود قوى سياسية ترنوالى السلطة والتسلط وتهدف الى تنفيذ مخططاتها في الهيمنة وفرض النموذج الذي ترى انه يحقق لها (التمكين) والهيمنة.
وإذا اضفنا الى ذلك التدخلات الأجنبية (اقليمية ودولية) تجلّت لنا ملامح المشهد الشائك كما أن غياب (ثقافة التسامح) وتغوّل نزعات الثأر والإنتقام وبراثن الوهم الذي لفت بعض القوى السياسية وسعيها المحموم الى السلطة قد جعل سياسة (الإزاحة والإقصاء) في مواجهة خصومها هدفاً مركزياً لها مما فاقم حالة التشظي والإنقسام.
امام هذه البانوراما التراجيدية.. صار مفهوم العدالة الإنتقالية الذي هلّلنا له كثيراً جامداً كعرائس الثلج قابعاً في ركن قصيّ عاجزاً عن إيجاد حلول الحد الأدنى.. حتى كاد أن يضحى نسياً منسيّاً.
ما العمل؟
بعد أن عرضنا ملامح المشهد الليبي باختصار يظل يطاردنا سؤال جارح جريح.. ما العمل للخروج من افق يقترب من حدود الإنسداد والإستعصاء؟؟
وقبل ان نقارب الإجابة على هذا السؤال نرى لزاماً ان نشير الى أن ما فعلناه بمفهوم العدالة الإنتقالية قد اقترفناه ايضاً في حق موضوع (الحوار) فقد خضع بدوره للإبتسار وسوء الفهم ورداءة الممارسة.. صرنا نردده بإفراط مفرغ من المحتوى الحقيقي.. فخضنا ماراثوناً من الإشتباك اللفظي والجدل الكلامي.. الذي يدخله الفرقاء بإشتراطات مسبقة يتمترس كل طرف وراءها.. واهماً بأنه يمارس (حواراً) وهو في الحقيقة جاء متربصاً لنيل مكاسب جلّها ذات طابع شخصي اوجهوي اوعقائدي وكل همّه هزيمة الطرف الآخر وهو ما يتنافى مع ابسط اشتراطات الحوار الموضوعي.. “ ولعلّ ما يدور الآن في تونس من مناكفات يقودها عناد طفولي وتغذيها أطراف شعارها (انا ومن بعدي الطوفان!!) يكفيني مؤونة التدليل والإتسدلال”..
عودة الى السؤال الذي انتصب أمامنا حتى كاد ان يسدّ مسالك الأمان والسلامة وحتى مخارج الطوارئ: (ما العمل؟؟)...
إن أولوية الأولويات التي يجب التركيز عليها في هذه المرحلة هي (المصالحة الوطنية) بمفهومها الحقيقي وهوالتحدي الذي بدونه لن تنجدنا الحلول الملفقة ولا التوافقات السياسية الهشّة التي لا تصمد حتى امام نسمات الخريف فما بالك بعواصف الشتاء!!
واذا ارتكزت هذه المصالحة على اسسها الصحيحة الفاعلة والتي تتلخص فيما يلي:
1- لا مكان لفكرة الغالب والمغلوب في المصالحة.
2- المصالحة تبنى في المستقبل ولا ترى من الماضي سوى ذكرى بغيضة يجب منع تكرارها.
3- عدم الإفلات من العقاب لمن اجرم جريمة كاملة الأركان (وان كان ذلك يقبل التأجيل الى حين تعافي السلطة القضائية المستقلة التي تحقق المحاكمة العادلة).
4- إقرار الجميع بأنه لا سبيل للعيش المشترك والسلم الأهلي الا بالمصالحة التي لا تبنى إلّا على فقه التسامح (والذي هو غير الغفران)!
إن اعتماد هذا الطريق هومعبرنا الوحيد نحوبرّ الأمان خاصة وأن هناك كثير من التجارب الناجحة على المستوى القاعدي أسهمت وفككت كثير من ألغام المتفجرات يسهم فيها رجال آمنوا بأن الأوطان لا تبنيها الأحقاد ولا تقيمها نزعات الكراهية..
انا ادرك أن الطريق وعر وشائك ويحتاج الى عزم وحزم الرجال.. وأن أطرافاً كثيرة تقف عائقاً في وجهه لقناعتها الخاطئة بأن هذا الواقع المتعيّن يؤمن لها السلطة والمال والنفوذ… ولكن هذا النهج هوخيارنا الوحيد..
بقت كلمة أخيرة أن هذا الذي نراه طوق نجاتنا يجب أن يعتمد على أساس إعادة بناء (الثقة) وهوأمر أحسب أنه مقدور عليه.. ضمن تحرك يهدف الى التواصل بين كافة أعضاء الجسد الواحد.. فقد علمتنا التجربة ان الليبيين حينما يلتقون تبرز لديهم خصال حميدة طيبة تطفوعلى بؤر الإنفعال والتوتّر يمسح فيها العناق والتصالح جراحاً كثيرة في الصدور..
صار حتماً علينا دعم مشروع المصالحة لتحقيق العيش الآمن المشترك الذي يزيده الإختلاف تنوعاً وقوة ويبدده الخلاف إرباً وأشتاتاً..من أجل وطننا ومن أجلنا جميعاً.. ومن أجل أجمل اطفال ليبيا (الذين لم يولدوا بعد!!).
جمعة أحمد عتيقة