مقالات

عطية صالح الأوجلي

في بلاد العميان...!!!

أرشيف الكاتب
2016/08/31 على الساعة 05:16

"لا أعتقد أننا أصبنا بالعمى، بل نحن عميان من البداية. حتى لو كنا نرى .. لم نكن حقا نرى. !"
جوزيه ساراماجو

(1)

في روايته "العمى" يقدم لنا الكاتب البرتغالي جوزيه ساراماجو سردية مذهلة. مجتمع بأسره يصاب بفقدان البصر. تبدأ القصة برجل يصاب بعمى من نوع غريب، عمى أبيض، يرى كل شيء أبيض ومشعا، مثل الذي يتطلع الى ضوء قوي فلا يتمكن من الرؤية. ثم سرعان ما ينتشر هذا النوع من العمى في أوساط المجتمع كله فينتقل للجميع إلا امرأة واحدة ظلت مبصرة، ربما لتروى لنا ما يجري من غرائب في بلد العميان.

إثر انتشار الظاهرة ينتاب الناس رعب حقيقي حول مصائرهم فتتراجع المعايير الأخلاقية بشكل مروع خلال فترة وجيزة وتعم الفوضى، فيتصارعون من أجل البقاء. تتلاشى أحلامهم وطموحاتهم ويغادر المستقبل اهتماماتهم ويصبح القوت اليومي والبحث عن المأكل والمشرب والأمن هو شعلهم الشاغل والوحيد.  وكالعادة في هكذا مناخ، يبرز أصحاب القلوب القاسية وتجار الأزمات وصانعيها، ليفرضوا سلطاتهم على العميان، فكل من لديه مسدس وعصابة اصبح قادرا على التحكم بمصائر الناس فيفرض مايشاء من القوانين ليخضع الجميع لخدمة نزواته ومصالحه الذاتية وغرائزه الحيوانية، وكل من يتجرأ ويخالف القانون يعاقب بحرمانه الطعام. يتفنن أهل السلطة في خلق الأزمات والنزاعات وفي الحرص على نظام ظالم لتوزيع حصص الغذاء خدمة لمأربهم.

(2)

وحدها المرأة كانت قادرة على رؤية كل هذا الانهيار في الأخلاق وبروز الانحرفات وتفشي الأمراض وانتشار الجثث والقذورات في كل مكان... وحدها كانت تتألم وتبكي بحرقة قائلة "ما أصعب أن يكون المرء مبصرا في مجتمع أعمى...!!".

(3)

الخيارات محدودة وقليلة أمام العميان، هم لا يملكون سوى السمع والخيال. الأثنان يتم التلاعب بهما بالكلمات والوعود والتهديد واستثمار الخوف الذي يسكن الأعماق. فالأعمي لن يرى أبعد مما تستطيع ان تلمسه عصاه.

(4)

يشعر الأعمي بالأمان عند كثرة الأصوات فيعشق الحشود والهتافات وينساق نحو أي تجمعات.. فهي فقط تمنحه الأمان.

(5)

العميان يخافون ويحسدون ويحتاجون المبصرين. أما "المبصر" فأمامه خياران لا ثالث لهما... أما ان تقوده غرائزه الى استغلال الموقف للتنفيس عن عقده ونزواته مخادعا نفسه بأنه ادرى بمصالح العميان منهم... أو أن يحس حقا بالأمهم ويتعاطف معهم ويبذل قصارى جهده  لخدمتهم.

(6)

بالطبع الرواية لا تتحدث عن العمى الذي يصيب العيون وانما عن ذاك الذي يصيب النفوس والقلوب والعقول. أي انها تتحدث عن "الجهل" والفقر الفكري وعن سهولة انتشارهما عندما يجدا الخصوبة في الأرض والمناخ الملائم... فالجهل هو الذي يحول الناس الى مخلوقات حانقة مذعورة عاجزة عن الادراك تتبع احط غرائزها لتقع في سلسة من المأزق لا يستفيد منها سوى المجرمون. الجهل هو الذي يجعلهم ينقادون وراء رجل أعمي مثلهم لأنه يمثل سلطة أو لأنه يغريهم بلسانه العذب أولتحريضه المستمر لهم... وما أتعس البلدان والمجتمعات التي تقع في فخ الجهل فيحكمها العميان...!!.. فالناس لو كانوا مبصرين لما انتهوا الى هذا الجحيم.

(7)

رغم قتامة المشهد.. فهناك دائما الأمل والخير ولحظات الانبعاث... هناك النور الذي يشع من القلوب التي تسكنها الرحمة. فيتحد أهل الخير... ويتفكك محور الشر.. ويعود البصر من جديد... يحترق السفاحين العميان في نهاية الرواية بينما الطبيب وزوجته والمجموعة الصغيرة الذين قاموا بتنظيم أنفسهم هم من يسترد بصره.

(8)

العيون ليست سوى عدسات، أما العقل فهو الذي يرى...!!!

عطية صالح الأوجلي

كلمات مفاتيح : مقالات ليبيا المستقبل،
الحارث ... | 03/09/2016 على الساعة 22:17
إسقاط رائع
إستحضار رائع لسردية الكاتب جوزيه ساراماجو وإسقاط أكثر من رائع على واقعنا الليبى الذى يعج بالعميان ... تحياتى للاستاذ الأوجلى .
المعتز بالله | 01/09/2016 على الساعة 13:07
العقل في سطور 2
العقل ينطلق بعيدا حيث الحقيقة يطير في علوم الخيال يرجع أحيانا إلي أحداث الزمان, ليضرب أطناب الجهل وليهزم السجان,العقل نور وسيف ومحبرتا وقرطاسا وقلم به عرفنا ملوكا لا بضيعتهم, بل بحمقهم وسوء تصرفهم وعدم تقديرهم للعواقب في سالف الزمان , العقل لا يخطئ ولا يوصف بأنه متهورا أو جبان, تلك أصول الصنعة لمن هم أهل الفهم والعرفان. قد تشغلك ظروف المعيشة والحياة ولكنها لن تغيبك إلا يوم قدرك,, رفع الله الظلم عن اللبيبين ووحد صفهم.
المعتز بالله | 01/09/2016 على الساعة 13:01
العقل في سطور
دكتور عطية حياك الله, لمقالتك بعدا أدبيا وفلسفيا, أردت من خلالها قرأت تلك السطور التي صاغها الأديب العالمي جوزيه ساراماجو والاستفادة منها, الحديث عن بناء مجتمع تعلوه الفضيلة والتسامح وتسوده القيم, مطلبا ظهر في كتابات العديد من الفلاسفة , لاشك إن هزيمة الطبيعة ومشاكلها قد تكفلت به العلوم من: حسابا وطبا وفلكا وفيزياء، أما أمراض النفوس والقلوب وهزيمة الحمقى والسفهاء والعميان, وناشرين الحرب حتى يُذل الإنسان, فتلك مهمة أهل الفهم والُكتاب وصناع البيان, والساسة الصادقين ومن هم مقربين للسلطان, ثم قلت: العقل تلك النعمة التي ميز بها الله الإنسان عن الحيوان, ووصفه بأنه خليفة الرحمان, فقال إقراء ولم يقول تهرطق ,قال تفكر ولم يقول تخبل, ولد العقل مجبولا بالفضيلة, موسوما بالحكمة موصوفا بالعفة لأنه لا تغره المناظر ولا تجذبه الأطماع ولا تنال منه الأبصار, العقل مرشدنا قائدنا لولاه ما عرفنا سر النبوة, ولا أنوار الوحي في التوراة والإنجيل والفرقان, حارب الدجالين في سنين الجهل و الظلام هزم أصحاب الكلام.
berkawe | 01/09/2016 على الساعة 05:41
Blind country
The writer shouldn't have to go far. In Libya we have a say that says" people fall in open holes as they walk with their eyes wide open", it service the same concept. We are so tired of the miss representation of who we are. To the 1st commentator, Atheism thinkers and writers (around the globe) were never against Mankind and Humanity well-beings, Your Culture,Tribal laws,and the miss-interpretation of religion lead to the atrocity that has been committed since 1400 years ago to this Date. It is about time, wake the $#@% up, we are so $%#%$ behind trailing now-a days The civil world. It is time people to reconsider!!!!
ايمن الورفلي | 01/09/2016 على الساعة 00:03
العقل
قال تعالى" قد جاءكم بصائر من ربكم فمن أبصر فلنفسه ومن عمي فعليها وما أنا عليكم بحفيظ " وقال " " فإنها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور". مع شكري للكاتب على هذا المقال.
ليبي ليبي | 31/08/2016 على الساعة 11:17
البصيرة
لقد اعمت بصائرنا وكثر اصحاب القلوب القاسية وتلاعب بنا المتلاعبون بكلمات صدقناها لسداجتنا ، فكم من سادج في وطننا الجميل ليبيا ،
ادريس المسماري | 31/08/2016 على الساعة 09:32
هات من يتدبر ....!!؟
روية عميقة ومتبصرة لنص رواءي عظيم . فقط هات من يقراء ويتمعن ويتدبر في عام عناء القلوب والارواح . احسنت صديقنا عطية الأوجلي .
ممتعض | 31/08/2016 على الساعة 08:46
بلد العميان
وعند ويلز في روايته ( بلد العميان ) حيث يسقط المستكشف نيونز في إحدى رحلاته الاستكشافية ليجد نفسه في وادٍ يستوطنه قوم من العميان ، ولتكون علاقته معهم اشكالية ، فعندما اخبرهم انه جاء من بوغوتا حيث الناس يبصرون لم يفهموا كلمة ( يبصر ) وعندما وقع في حب فتاة عمياء اشترطوا عليه أن يتخلى عن بصره ليوافقوا على ارتباطه بها الأمر الذي دعاه إلى الهروب منهم ... من بلد العميان نتعلم أن ( الأعور في بلد العميان ملك ) مثلما يقرر ويلز ، وما أكثر أصحاب البصر عميان البصيرة بيننا وما أشد تطفلهم على الشأن العام ، وما من مبرر لهم غير عمى أبصارنا وبصائرنا .
البهلول | 31/08/2016 على الساعة 07:59
البطون الفارغة تستيقظ مبكرا
تحية حب واحترام وتقدير لاستاذنا الفاضل عطية صالح الاوجلي الذي يقدم لنا دائما في مقالته ما يفيدنا وينمى قدراتنا الثقافية المحلية والعالمية ففي هذا المقال يقدم لنا قامة ادبية فذة انه الروائي والكاتب الصحفي البرتغالي "جوزية ساراماغو" الحائز على جائزة نوبل للادب وعلى الرغم من كون الاديب البرتغالي كان ملحدا الا ان له مواقف اسانية ونضالية حيال الشعوب المقهورة وخاصة الشعب الفلسطيني ، هذه الرواية االرائعة والتي قدمها لنا الاستاذ عطية تكاد تلامس واقعنا ملامسة اليد وهناك رواية اخرى للروائي "جوزيه " نأمل ان يقدمها لنا الاستاذ عطية لان فيها صورنا وواقعنا المزري (البطون الفارغة تستيقظ مبكرا ، شكرا للاستاذ عطية فقد ذكرتنا بهذا العمالق الذي طالما كنت اطلاع ادبه ومواقفه الخالدة التى تعكس شخصيته المتحررة .
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع