مقالات

عبدالمنعم المحجوب

سجناء الجغرافيا

أرشيف الكاتب
2023/07/05 على الساعة 15:41

إن العالم يتقلّب ولا يتغير، ولا يجب أن ننسى أثناء ذلك أن عدم الاستقرار هو الثابت الأساسيّ في معادلات الجغرافيا السياسية التي قد تكون أداةً لتسريع الوتائر وتفاقمها، أو تصبح أداة لتهدئتها وتخفيفها. إن الأمر برمّته يعتمد على إدارة هذه الطبيعة المزدوجة، إتقاناً أو إخفاقاً. 

لكي تكون في عمق الجغرافيا السياسية يتعيّن عليك أن تتشبّه بـ«يانوس»، إله الزمن في الميثولوجيا الرومانية، أعني أن تكون ذا وجهين مثله، فهو ينظر إلى الأمام، ولكنه لا يكفّ عن النظر إلى الخلف، في الوقت نفسه. ومثل يانوس أيضاً، أنت في حاجة إلى أن تكون بأربعة أوجه في الكثير من الأحيان، إذا فكّرتَ في الاتجاهات الأربعة التي ينفتح عليها العالم. 

الإلتفات إلى الخلف يجعلك مؤرّخاً، نوعاً ما، تتحلّى بالقدرة على استخلاص العناصر القديمة التي ما زالت تعمل في الوقت الحالي، ودمجها بعناصر جديدة، مشتقة أو متوارثة أو مبتكرة. كما يجعلك التطلّع إلى الأمام متنبئاً خبيراً في دراسات المستقبل، فتستطيع رؤية الكيفية التي تتولّد بها الأحداث وتستجيب لها الأمكنة. أما التدقيق في الأرجاء، هنا وهناك، فإنه يضعك في «قلب الحدث» كما يحب المراسلون الحربيون أن يقولوا. 

لكن خللاً كبيراً يصيب هذا التسلسل ويعطِّل نتيجته، إذا اكتفينا بجزء واحد منه. العاملون في الجغرافيا السياسية ليسوا محللين سياسيين لا يرون أبعد من أنوفهم، كما يحدث في الكثير من الأحيان عندما نشاهد بعض وسائل الإعلام العربية والعالمية. إنهم قبل أن يبدؤوا النظر إلى الأمام والتطلّع إلى الأفق، يجب أن يكونوا قد اكتفوا من النظر إلى الوراء، فإذا أرادوا الذهاب إلى المستقبل - كما يجب أن يفعلوا حقاً - فإنهم يجرّون وراءهم عالماً قديماً لم يُستنفَد بعد، يساعدهم على رؤية ما يعتمل على سطح الأرض، وربما تحته.

حسناً، هذا تقريباً ما يمكن أن نصف به هذا الكتاب الذي لا يخلوا من الجديّة، والمتعة أيضاً، إذا استثنينا بعضاً مما يعمد المؤلف إلى إقحامه من رؤى أحادية، وتفسيرات موجّهة، أو مما يغفله في أحيان كثيرة من حقائق واقعية كان لها دور كبير في تأثيث المشهد العالمي الحالي. وباختصار، فإننا قد نتفق غالباً مع تيم مارشال في ما يذكره من معطيات مسبقة، ولكننا سنختلف معه، في أكثر من موقع، بالنسبة إلى الوجهة المختارة قُدماً. سوف أجمل وجهة نظري في الملاحظات والأمثلة التالية.  

قبل كل شيء، لعل أفضل ما قام به مارشال في هذا الكتاب أنه عمّم معرفة الجغرافيا السياسية بأن أخرجها من صرامتها المنهجية، ومنَحَها نبضاً حياً نستطيع أن نعيشه ونتنفّس هواءه الذي يتردّد في كل مكان حولنا؛ من الأحداث المتفاقمة التي تنقلها نشرات الأخبار فتشي دائماً بأن العالم صار أكثر جنوناً من أي وقت مضى، إلى الأمل الضئيل الذي يظلّ يحدونا في أن نرى هذا العالم أهدأ وأكثر إنسانيةً. نعم، نستطيع بنيّة حسنةٍ أن نتضامن مع المؤلف في إدانة الحروب والاحتلال ونهب الموارد وتحقير «الآخر»، ولكننا سنرفضه حتماً، دون تردّد، عندما نراه يستثني الحروب التي شنتها الولايات المتحدة والدول الغربية للسيطرة على موارد الآخرين أو دفاعاً عن مصالحها، أو يبرّر احتلال أفريقيا، مثلاً، ونهب ثرواتها، أو يعمد إلى تحقير غير الغربيين، من آسيويين وأفارقة وأمريكيين جنوبيين، أو يهين الروس أو الصينيين أو العرب أو غيرهم. إن المتابعات الدقيقة والذكية التي يقدمها مارشال تتلاشى أحياناً في ظل نبرةٍ من التشفّي لا يتردّد في إعلانها كلما تحدّث عن أعداء أو خصوم أوروبا و/أو الولايات المتحدة. فالعالم من منظوره هذا ينقسم إلى خيّرين وأشرار، ومتقدمين ومتخلّفين، وأذكياء وأغبياء... إلى آخر المتقابلات. ذلك يعني في خلفية أطروحته أن «الغرب أولاً، ثم تأتي بقية العالم... إذا أتت»، إنه النموذج القديم المستهلَك الذي ينعكس على الكثير من الأدبيات السياسية في الغرب، تلك التي أنتجتها فلسفة التمايز العرقي منذ البلينيين إلى الهيغليين، وما زالت تلقي بظلالها المريعة على بعض أنماط التفكير في الغرب المعاصر. 

أما من جهة الأهداف في سياق الكتاب العام، أو لنقل «رسالته»، فإن تيم مارشال «ينبش» مكامن الشرّ بين الأمم، ويزيح الغبار المتراكم طوال قرون عن المشكلات المتخلّدة بين البشر ضمن حدودهم القديمة. يستطيع أن يقنعنا بأن «جميع الدول الكبرى تقضي أوقات السلم وهي تستعدّ ليوم تندلع فيه الحرب»، ولكنه يفعل ذلك دون أن يشير إلى الأمل في التعايش والمشاركة والسعي إلى خير العالم، وجميع سيناريوهاته، الواقعية أو المتخيَّلة، لا تميل إلى استخلاص أي نتيجة إيجابية يمكنها أن تنقذ العالم من الانحدار. علينا أن ننتظر حتى خاتمة الكتاب لنقرأ فقرات قليلة عن مثل هذا الأمل، وهي في تقديري جمل إنشائية رومانسية عابرة لا ترقى إلى مستوى الرسالة التي أراد المؤلف استخلاصها من تحليلاته. سأكون أكثر قسوة إذ أقول: إنه كتاب ينتمي إلى عقلية قديمة عمادها الأثرة والفتنة وخراب العالم والتكالب على ما تبقى من موارد طبيعية لم تُحتَكر بعد. 

«سجناء الجغرافيا»، إذن، يدور في فلك الاستراتيجيات القديمة، وهو يتعامل في معظم الأحيان مع الجغرافيا العسكرية بوصفها تعالج سطحاً أفقياً ذا بعد واحد محدّداً مسبقاً، دون أن يولي مفهوم «الجغرافيا المرنة» أي قدر من الاهتمام، بل إنه لا يكاد يعرج على التقنيات الحديثة التي تدعم هذا المفهوم إلا لماماً، فهو يعترف بها في مقدمة الكتاب وخاتمته، دون أن يخصّص لها حيزاً يُذكر في متنه. 

لم يكن المؤلف كذلك  وفياً دائماً للمنهج الجغرافي، أو لنقل أنه انتقائيّ بالنسبة إلى عرض أفكاره! فقضايا مثل الحدود بين الأمريكتين الشمالية والجنوبية، مثلاً، يعالجها باستبدال الجغرافيا الطبيعية بجغرافيا الأنثروبولوجيا السياسية، دون أن يثيره هذا التصنيف كثيراً. الأمريكتان من الناحية الجغرافية الطبيعية تفصل بينهما أمريكا الوسطى بداية من بليز وغواتيمالا شمالاً حتى بنما جنوباً (ما لم نشأ أن نجعل شبه جزيرة أمريكا الشمالية وأمريكا الوسطى ودول البحر الكاريبي حسب رأي بعض الجغرافيين كتلةً واحدة تضم ثلاثة وعشرين بلداً)، ولكن التصنيف السياسي الغربي السائد، وهو ما يستخدمه مارشال، ينتهي بحدود أمريكا الشمالية مع بداية المكسيك شمالاً وشرقاً، بصرف النظر عن انثيال الجنوب الشرقي من الولايات المتحدة وراء جزء كبير من شمال المكسيك. وباختصار فإن المؤلف يصرّ على انتزاع المكسيك من خريطة أمريكا الشمالية ليلقي بها في أمريكا الجنوبية، دون أن يهمل تأكيد تبعية المكسيك سياسياً وخضوعها للولايات المتحدة (انظر الفصل التاسع). إن تصنيفه أنثروبوسياسيّ أساساً، وهذا ما يجنّبه في بعض الأحيان التصدّي بعمق لإشكاليات كثيرة في خريطة العالم، مكتفياً بترديد مفاهيم سياسية عامة منتقاة، الأمر الذي يُفقد الكتاب جزءاً واضحاً من صدقيّته. فبقدر ما يسعى المؤلف إلى إعادة استظهار قواعد الجغرافيا السياسية الأساسية وعواملها المؤسسة، إلا أنه لا يقوم في بعض الأحيان سوى بالتعبير عن آراء سياسية مؤقتة، أو هي نتاج أحداث غير مؤثرة سرعان ما تتغيّر ويطويها انسيان. إنه من هذه الناحية يتردّد بين استلهام دورس الجغرافيا السياسية الكبرى وبين التحليل الصحفي السياسي العابر، وفي هذه المنطقة الفضفاضة الواسعة يمكن تصنيف كتاب «سجناء الجغرافيا».   

وبالرغم من أن المؤلف يفرد فصلين متصلين للحديث عن الغرب، ممثلاً في الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، إلا أن هذه الكتاب موجّه أساساً ضد خصوم الغرب التاريخيين: روسيا، الصين، الهند، ثم بشكل أساسي العرب والمسلمون أينما كانوا، في أفراسيا (الوطن العربي) أو في أي مكان آخر من العالم (انظر الفصلين الخامس والسادس). ولكن تجب الإشارة هنا إلى أنه يكشف الكثير من الآليات التي استخدمها الفرنسيون والبريطانيون في بسط نفوذهم وهيمنتهم على أجزاء متفرقة من العالم (البلدان العربية والأفريقية أساساً)، ويشرح بوجهة نظر محددة تأثير المكوّنات الجغرافية السابقة على خلق وتنظيم الكيانات السياسية اللاحقة، ولكن مثل هذه المعايير لم تكن لتؤخذ بعين الإعتبار دائماً خاصة عندما نعرف المصائر الكارثية التي جلبها الأوروبيون بمجرد استخدام المسطرة والقلم لرسم الحدود الإقليمية، وخاصة بين الدول العربية في آسيا وأفريقيا، أو بين دول أفريقيا السوداء. 

هذا الكتاب من ناحية أخرى كتابٌ عن الصين! أو هو كتابان في كتاب، أحدهما عن الصين.  قد يتفاجأ القارئ بذلك، ولكنه سيقبل هذا الوصف عندما يواصل التنقل بين خرائط العالم العشر وهو يرى مدى الحيّز الذي تشغله الصين. سنرى كيف «يلاحق» مارشال الصين في مواضع كثيرة من تحليلاته، في جميع أنحاء العالم تقريباً، كاشفاً عن تدخلاتها واستثماراتها و«نواياها». إنها في جميع الفصول دون استثناء. وهو لا يتوقف عن لوم الصينيين على تعميم ما لديهم من «حقائق واقعية» وجعلها «حقائق عالمية»؛ حسناً، مَن يمكن استثناؤه من ذلك؟ الولايات المتحدة! أوروبا! روسيا! لا أحد في الواقع سيُحْجِم عن الإقدام على ذلك إذا كان الأمر في مصلحته. وبالنظر إلى توجّهه الغربيّ الصرف فإن المؤلف لا يتوانى عن إطلاق جرس الإنذار صراحةً منبهاً الولايات المتحدة و/أو الدول الغربية عمّا يمكن أن تؤول إليه الأمور في أصقاع بعيدة عنهم، لأن الصين حاضرةً دائماً هناك، وهي تهدّد أجنداتهم الخارجية أو تمس أمنهم القومي في أفريقيا أو آسيا أو أمريكا الجنوبية، وربما في أوراسيا التي تحصّنها روسيا ضدّهم! وتظلّ الصين في هذا الكتاب كتلة غامضة لم يستطع المؤلف تفكيك الديناميكيات الداخلية التي تتظافر في كيانها، والعوامل التي تساعدها على النمو والتقدم باضطراد، وبالرغم من أنه يلجأ إلى البحث عن تبايناتها الإقليمية، الجغرافية والديموغرافية والثقافية والاقتصادية، لكي يؤكّد إمكانية تقويضها واحتمالات  انهيارها من داخلها، إلا أنه لا يعثر على شيء يقيني يقدّمه أو يستطيع إثباته، فيعود إلى مقارنة الصين («القوة المنغلقة التي يتزايد نموّها») بأمريكا («القوة العظمى، اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، التي تتمتع بمرونة هائلة»)، ويجعلنا «نكتشف» أن المواطنين الأمريكيين يتمتعون بحقوق فردية وينظرون إلى حياتهم وحريتهم وسعيهم إلى الرخاء بمنتهى الجديّة لذلك يحرصون على اختيار حكوماتهم، أما المواطنون الصينيون فتغلب عليهم الجماعية التي تطغي على حقوق الأفراد وهم لا ينظرون إلى حريتهم وسعيهم إلى الرخاء إلا بما تمنحه لهم الدولة التي لا يستطيعون تغيير حكومتها، أو حتى مجرد انتقادها. إن ما لايريد المؤلف الاعتراف به هو اختلاف أنماط إدارة الحياة وتباين الاختيارات في بقاع الأرض، إذ لا شيء -من وجهة نظره- يعادل النموذج الغربي إنسانيةً، مثلما لا دولة باستثناء الولايات المتحدة تستحق الهيمنة على العالم! 

يستخدم الكاتب في أحيان كثيرة مفردات الجغرافيا السياسية كما استقرت في أدبيات الاستراتيجية الغربية، وكما تتردّد في وسائل الإعلام الغربية. هكذا - على سبيل المثال - فإن محاولة الأرجنتين استرداد جزر «مالفيناس» في جنوب المحيط الأطلسي، يسميها المؤلف «غزواً» أمر به «النظام الديكتاتوري العسكري الأرجنتيني» كما يقول، ولكن القوات البريطانية استطاعت دحره وسيطرت على الجزر! إن ما يسميه المؤلف «الغزو الأرجنتيني» عام 1982، مسألة ردِّ اعتبارٍ تاريخيّ بعد قرابة 150 سنة من الاحتلال، فمالفيناس التي تتكون من جزيرتين رئيسيتين تنتشر حولهما 776 جزيرة صغيرة، قد صارت تحت الاحتلال البريطاني منذ عام 1833، وما زالت حتى وقتنا هذا مسألة عالقة ينقسم العالم بشأنها إلى قسمين مختلفين، فهي تؤكّد تقسيماً جغرافياً سياسياً بديلاً هو «شمال-غرب» في مقابل «جنوب-شرق»، وهذا تصنيف غنيّ جداً بأدبياته في مختلف أرجاء العالم، لكن المؤلف ينسى هنا الأسس الجغراسياسية الطبيعية التي دافع عنها وطالب باعتمادها في الفصول السابقة، وأولها وحدة الحيّز الجغرافي، وذلك ما تمثله حقيقة أن جزر مالفيناس تبعد 480 كم عن الشواطئ الأرجنتينية، بينما تبعد عن بريطانيا حوالي 13000 كم. بالرغم من أن وحدة الحيز الجغرافي كان مبدأ تحليلاته في مثال آخر هو العلاقة بين الصين وتايوان، فهذه الأخيرة تقع على بعد 140 ميلاً من ساحل الصين فقط، بينما تبعد عنها الولايات المتحدة 6400 ميل، الأمر الذي يرجّح كفة الصينيين في مطالبهم «الوطنية»، ويجعل الأمريكيين مجرد دخلاء على نزاع حدودي إقليمي لا صلة فعلية لهم به. أما عندما يتعلق الأمر بالمملكة المتحدة، بلده، فإنه لا يكتفي بإهمال هذه القاعدة في التحليل بل يصدح بنبرة عالية من الحميّة الوطنية التي احتكر ادّعاءها ونزع حقها عن «الآخر»، وهي الأرجنتين في هذا المثال، ويعود بذلك إلى مهنته الأصليّة، فيتحوّل إلى مجرّد معلّق صحفي ينقل تطوّرات الأحداث، ثم لا يتردّد في السخرية من شعب بأسره والتهكم عليه، لأنه سعى إلى استرداد ما يعتبره حقاً طبيعياً منحته له الجغرافيا. 

على مستوى الاصطلاح، من الضروري أن ينتبه القراء إلى الدلالات المختلفة التي قد تعبر عنها المفردات نفسها في استخدامات المؤلف، ما ينتج تباعاً تقديرات مختلفة، وأحياناً متناقضة، في صلب القضايا التي يعالجها. فهو يمزج مثلاً بين مصطلحين من أهم مفردات الجغرافيا السياسية هما «الدولة» و«الأمة»، ولكنه يعني غالباً «كيان الدولة» كلما استخدمهما، ما لم يميّز شعباً أو عرقاً ما بمفهوم «الأمة»، أو يتحدث مباشرةً عن الدولة القومية أو الدولة-الأمة Nation state التي يمكن تمييزها عن أنماط أخرى في تشكّلات الدول، أما ما نعرفه بالقومية أو الانتماء القومي فلا يرد لديه إلا بصيغة واحدة هي العرق (أو الإثنية)، كما في حديثه مثلاً عن المنتمين إلى العرق الروسي، مؤكّداً أنه «مصطلح يصعب تعريفه». وفي كل الأحوال فإن مفهوم «الأمة» لا يحظى في الكتابات الجيوسياسية بتلك المسحة «الترانسندنتالية» المفارقة التي دأبت على إضفائها الأدبيات الإنسانية، بل يحل فيه مفهوم «الدولة» بحضوره الكيانيّ ذي الحدود الواضحة المعترف بها، فيتطابق المفهومان بالنتيجة. 

إن استعمال nationalism قد يدل على «الوطنية» أو «القومية»، بحسب السياق، ونلاحظ أن المؤلف إذا أراد التعبير عن القومية العربية، بمفهومها الشامل، فإنه يستخدم pan-Arab nationalism، أما حديثه عن «الدولة القومية» national state فإننا نحيله إلى «الدولة الوطنية» كلما تعلّق الأمر بالدول العربية. وفي هذا الباب، نراه يهمل الكثير من العوامل المؤسّسة للكيانات العربية الإقليمية (التي يسميها دولاً قومية)، مثل الانتماء القومي الواحد، والرابطة الاجتماعية التاريخية، واللغة والدين والتاريخ؛ إنه يهمل كل شيء يشير أو يدلّ على المعنى الأساسي في كلمات مثل العرب أو الدولة العربية. فلا عجب إذن أن يكون العرب من وجهة نظره أمماً شتّى، بينما نجده مصرّاً على أن البشتون أو الأكراد، على سبيل المثال، شعب واحد فصلت بينه حدود إقليمية اخترعها الغرب! ولكنه مع ذلك قد يكون أكثر دقّة في بعض الأحيان، حتى وإن لم ينتبه إلى التباين الذي ينتج عن استخدامه بعض المفردات، فنراه مثلاً عندما يتحدث عن أفريقيا (الفصل الخامس) يعيد الحروب والصراعات العرقية التي شهدها السودان والصومال وكينيا وأنغولا وجمهورية الكونغو الديمقراطية ونيجيريا ومالي وأماكن أخرى إلى اصطناع الخرائط السياسية كما رسمها الأوربيون ارتجالاً دون أن يقفوا كثيراً على حقيقة تركيبة أفريقيا السكانية، مؤكداً أن تلك الصراعات والحروب الأهلية تعود إلى أن «المستعمرين أخبروا الأمم (الاثنيات) المختلفة أنهم أمة واحدة في دولة واحدة، وبعد طرد المستعمرين ظهر شعب مهيمن داخل كل دولة وأراد أن يحكمها بأسرها، وتولّد العنف تباعاً»، وهكذا بالنسبة إلى الأمم الأخرى، والأقليات التي تنتمي إلى أمم مشتتة... إلا إذا جاء حديثه عن العرب فإنه يعمد إلى فرضيات وآراء لا معيار تستند إليه، وقد يذهب في تعميماته إلى أقصى الحدود فيقول: «إن البلدان العربية محاصرة بأحكام مسبقة متحيزة، بل هي في الواقع أحقاد وضغائن لا يعرف عنها الغربيون العاديون سوى القليل، إلى درجة أنهم لا يميلون إلى تصديقها حتى وهي أمام أعينهم ويستطيعون قراءتها»! أو «يعدّ التعبير الروتيني عن كراهية «الآخرين» أمراً شائعاً في العالم العربي حتى أنه لا يكاد يستثير التعليقات»! بل إن الكتاب ينقلب محتواه عندما يتحدث عن الشرق الأوسط العربي فيصبح مجرد آراء وتحليلات في الأوضاع الداخلية، لا علاقة لها بالجغرافيا السياسية الدولية كما هو متوقّع.  فضلاً عن تشويه بعض الحقائق التاريخية أو اجتزائها أو إعادة صوغها بطريقة مريبة (انظر الفصل السادس)، إلى آخر ذلك مما سيطالعه القارئ في هذا الكتاب. 

لقد سقتُ المثال الأخير وما تلاه من ملاحظات لكي أقترح على القراء العرب، وهم يتابعون حصيلة المؤلف مما يعرضه عليهم من معطيات (جغرافية وتاريخية وسياسية واقتصادية)، أن يكتفوا بتلك المعطيات (دون أن يتخلوا عن شكّهم فيها)، وأن يعيدوا ترتيبها بأنفسهم في تحليلاتهم الخاصة، أي دون أن يعتمدوا على تحليلات المؤلف، لأنه غالباً ما يوظّف تلك المعطيات ويقودها إلى ما يراه صحيحاً من وجهة نظره المسبقة، وهو أمر لا أنصح بالوثوق به دائماً. 

عبدالمنعم المحجوب

- تأليف: تيم مارشال

- ترجمة: أنس محجوب، يونس محجوب 

- نشر: دار صفحة 7 (الرياض)، 2023

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع