ركنت السيارة بالمصادفة أمام سوق صغير ومطعم في الآن نفسه لبيع وتقديم السمك أو (الحوت) بالليبي، ركنت السيارة مكرهاً وراضخاً لحاجة ارتفاع درجة حرارة المحرك، تركتها لتبرد في ذلك العجاج ولمحت لوحة الدكان وصور الأسماك، فقلت لعلي ألقي نظرة على هذه الزفرة إلى أن يبرد المحرك، وربما أشتري من السمك شيئاً للمنزل.
دخلت- الأجواء خانقة في الداخل، كل أزفار البحار متداخلة ومتمازجة مع روائح الناس، تخنقك مثل جنّي الجثامة فور أن تطأ المكان، الأرض مبللة وزلقة رغم عناية الشاب (العوامي) الجاهد في سحب المياه المتقاطرة من السمك المعروض والمنقول من العرض إلى المطبخ أو إلى أكياس الزبائن، بينما كان الخارج حيث تركت السيارة لتبرد، عجاج برتقالي مثل (ماندالينه) عملاقة تجثم على سماء المدينة، رياح جنوبية وجنوبية شرقية غاضبة تطير الأتربة وتحذف بها وجوه الناس وتغلق بها خياشيمهم، تصفق القمامة وتعيد تشكيل مجموعاتها، ثم تعيد نثرها طولياً وعرضياً على امتداد الشوارع والمخططات والمعسكرات والميادين المغلقة بالسيارات منذ أن (شم الليبيون رائحة الحرية) قمامتنا تطير وتلعب، طالما أنها لم تجد حتى اليوم، دولة تجمعها على مدار اليوم- مضافاً إليها: لا وعياً يمنع عادة رمي البواقي في الشارع كيفما اتفق، كما تفعل فصيلة الزومبي المنتشرة بكثرة بين نسمة الليبيين.
دخلت، وكما أخبرتكم لا عاصم للداخل من كبوة الزفرة الخانقة، فالداخل مغبوق والخارج مختنق من العجاج، لكنني دخلت وفور أن لمحت خيرات البحر المعروضة قابلتني سمكة فروج ضخمة فاتحة أشداقها مثل مؤذن، وحين رحت أنظر إلى حجمها توهمت أنها غمزتني، لم ألقي بالاً لهذا الوهم لأني أعرف أن هذه أحد أعراض الجفاف العاطفي في بلد ومجتمع يجرم الحب ويزدريه.
تركت الفروجة الغامزة ورحت أستطلع المعروض، خير وفير وكثير: سردينا، قاجوج، حمرايا، بالطي، سردينا، بطاطا، فروج، سيبيا، مناني، وأصناف أخرى حولها قرانيط وفواكه بحر وجمبري وشحاذَين وكائنات بحر أخرى لا أعلمها، الغريب في المكان، أني لم أرى قطاً واحداً كعادة أسواق السمك في كل مكان!
الصخب حاضر حضور العجاج في الخارج، حاضر بقوة واتصال، لأنه –الصخب- أو ما نسميه في محكيتنا (هرجة) هو لازمة وجودية لكل جماعة ليبية زاد عددها عن الإثنين، أما في حالة الفرد الواحد القادر بمفرده على إحداث هرجة، فنسميه في بنغازي (بالحكية).
الحكية هي الإناء المعدني الذي يكون بحجم كف اليد أو أكبر، وهو بطبيعته المعدنية وتصميمه الأنبوبي، قادر بذاته على إحداث ضجيج مزعج، فقط إذا ما توفرت له بعض الريح أو دافع أو راكل.
عوداً على الهرجة الليبية، كان المكان صاخباً لكنه في هذه المرة كان صخب عمل، مجموعة من الشباب والرجال الليبيين يعرضون ويبيعون السمك، وفي الوقت نفسه يتلقون اتصالات من زبائن يطلبون وجبات السمك، وكان كل متصلٍ منهمً، لا يسمع ما كان يقوله البائع، فكان على كل بائع حين يفرغ من زبائنه الوجاهيين، أن يرفع أحد الموبايلات ويجيب على الزبون بصوتٍ مرتفع، ويعيد تكرار العبارة الواحدة ثلاث وأربع مرات:
أيوا… أيوااا.. مشوي وإلا مقلي.. مشوي ي ي ي ي وإلا مقلي ي ي ي.. مشوي وإلا مقليـــــــــي ي ي ي...
وفي خضم هذا الصخب الحادث أسفل غيمة الزفرة وفوق مستنقع ماء السمك، يمر الشاب المراهق (بالسياقة) لسحب الماء ودفعه باتجاه أحد البالوعات في وسط الدكان.
الزبائن: رجال، ونساء، وأطفال، وشباب ليبيون بالغالبية، أما الباعة في ذلك الدكان المطعم، كلهم ليبيون، وكان عمال تنظيف السمك من الجنسية المصرية، وأحد الطباخين الذي خرج من المطبخ وتكلم مع أحد الباعة كان سورياً، في وسط هذا الصخب المشابه للوقوف في صالة وول ستريت، مع اختلاف الرائحة (هنا زفرة حوت) و(هناك رائحة عرق وأفواه كريهة) وقفت بملاصقة الجدار بعد أن أخذت بعض أسماك القاجوج ووضعها البائع على الميزان ومررها إلى عامل التنظيف، وقفت لمراقبة هذا الصخب وهذا الانشغال الإنساني بالحياة، وانتبهت إلى أن أحداً لم يكن يهدرز، أو يشعر بالملل، أو حتى يراقب -ما عداي- البقية سارحون ومنشغلون ببيع الحوت، وبين قادم وذاهب، ودافع بالنقد أو عبر الموبايل، كان هذا الجمع الصاخب أمام هذه الزفرة يثبت بشكلٍ ما، أن نظريات الأخ القائد عن أن الليبيين (مش متاعين شغل) أو نظريته الأخرى (عن أن التجارة هي أحد أشكال عبودية العصر الحديث) أو الأخرى التي قالها يوماً إلى أحد عساكره المبتعثين إلى درنة، قال (الليبي خواف وطماع وامسخ) كلها نظريات كاذبة أمام هذا التفنيد العملي، ولا تقوى على الوقوف في هذا المكان الزلق، فالليبي إنسان يسري عليه ما يسري على بقية البشر، وبحكم ثقافته ومعيشته البسيطة، فهو كريم ولا يرفض أن يزاحمه في رزقه أي قادم من بعيد، وهم بالغالبية، يبحثون عن الحياة، ويعيشونها بشغف، متى استطاعوا إليها سبيلاً.
محمد سحيم