كيف صنع "فيل" الهوية الليبية.. أو كيف صار الليبيون ليبيين؟
الحلقة الثانية من كتاب (من نحن؟)∗
استعرضنا معا في الحلقة الماضية أن الهوية في حد ذاتها ليست واقعا ثابتا، بل هي واقع "رومانسي" مُتخيل ومتغير يتم صناعتُه وفبركتُه عن طريق التلاعب في الأحداث التاريخية. على هذا الأساس، تلجأ غالبية شعوب الأرض إلى نحت هويتها "الرومانسية" الخاصة بغية تأسيس "سردية كبرى" تقوم عليها الأمة، وذلك وفقا للمصالح السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، التي تربط تلكم الجماعات البشرية المختلفة بعضها ببعض. وبما أن مثل هذه الظروف والمصالح متغيرة بتغير صروف الزمن والحوادث، فإن هوية الشعوب تدور مع المصلحة، أي "المنفعة" بتعبير ابن خلدون وجودا وعدما. ما يجدر التنويه عليه هاهنا، هو أن المشتغلين قديما في صنعة الهويات يعتمدون على "علم الأنساب"، ويُسَمَّون بـ"النسَّابة"، حيث يقومون بإرجاع أنساب الناس والقبائل والشعوب إلى أصولها العرقية والإثنية والثقافية. وهنا ينبغي علينا ألاَّ ننسى أن الخرافة والأسطورة تعد أول الركائز الأساسية، التي يقوم عليها "علم الأنساب"، ولسوف نأتي فيما بعد لكشف اللثام عن أن نظام أنساب أهل الكرة الأرضية المعتمد حاليا في أغلب دول العالم، قد تم تقعيده عن طريق الأسطورة التوراتية، التي أرجعت نسب الشعوب (على الأقل شعوب ما يُسمى بالشرق الأوسط الكبير) إلى أولاد نوح الثلاثة: سام، حام، ويافث. ونظرا لسهولة التلاعب بالأسطورة لصالح هذه الأمة أو تلك، فقد اختلق ولفق وفبرك وفصَّل كلُّ شعبٍ من "أسطورة نوح" التوراتية، باعتبارها الأصل، هوية على مقاسه الخاص، توهمه بأنه مركز الكون ومحور اهتمامه، كنظرية "شعب الله المختار"، ذلكم الشعب الذي اختارته العناية الإلهية حصريا من بين بقية شعوب الأرض. من هنا، أكدنا في الحلقة السابقة كذلك على أهمية إدخال "المقدس" في حلبة التاريخ؛ من أجل إخفاء عامل التلفيق، بهدف القضاء على كل فرص الاعتقاد بأنها من صنع الإنسان ونسج خياله، من جهة، ولكي يتحول التاريخ إلى إيمان وعقيدة مقدسة، من جهة أخرى. على سبيل المثال، يعتقد المؤلف الإسرائيلي، ديفيد ليمينغ (2004)، أن قصة "لعنة حام" الواردة في سفر التكوين، اختلقها اليهود لأول مرة، بقصد تبرير غزو العبرانيين للكنعانيين، إذ يمضي بالقول:
تشير الأساطير إلى أن هذا الإله، الذي تم تحديده لاحقًا على أنه يهوه، فضَّل العبرانيين، وبالتالي اليهود، على كل شعوب الأرض. لقد فضلهم كثيرًا لدرجة أنه على الرغم من أن أرض كنعان كانت مأهولة بالسكان من قبل شعوب أخرى - معظمهم من رفقاء الساميين - كان من الصواب أن يأخذوا ذلك لأنفسهم. كان هذا لأن الرب قد وعد بهذه الأرض لشعبه المختار في عهد مع (إبراهيم)، وأعيد التأكيد عليه مع إسحاق ويعقوب (إسرائيل) وموسى (ليمينغ، 2004: 88)
قبل نحو ألف عام ونيف، وفي نفس السياق، كان فعلا يمكن للطبري أو ابن كثير أو الكلبي وابن حزم وغيرهم أن يسردوا لنا بكل طمأنينة وسرور وفخر قصة البشرية كاملة من لحظة خلق الزرزور والبحار والمحيطات والجبال إلى السلحفاء والقرود والخنازير والإنسان، لكن بعد أن اقتنع العلماء اليوم، بأن الأجناس المختلطة هي ظاهرة طبيعية في تاريخ البشرية، منذ أن انتشر الجنس البشري (المنتصب القامة) من القارة الأفريقية في أرجاء المعمورة، قبل نحو مليوني عام، بحيث لم يُعدّ من السهولة بمكان التكهن أو التفرس في أنساب البشر وأصولهم العرقية على وجه الدقة، اعتمادا على الأساطير والخرافات الدينية والروايات المعنعة، انتقل "علم الأنساب/الهويات" إلى طور جديد، يختلف تماما عن الطور الأسطوري الخرافي القديم. بمعنى آخر، لم يعد بالإمكان اليوم استلهام أو استخلاص قصة أصل البشرية من التوراة أو الإنجيل والقرآن. كلا، إن من يحدد قصة البشرية وأنسابها اليوم، هو العديد من الأدلة التجريبية " empirical evidence" مثل: الحمض النووي أو DNA، علم الفلك والجيولوجيا، كصور الأقمار الاصطناعية مثل "غوغل" أو "ناسا"، والمحطات الفضائية والملاحظات الأنثروبولوجية، والأدلة المعمارية، وعلم البيولوجيا والجينات والحفريات الأثرية، والنقوش واللقى والألواح، والتقارير الإثنوغرافية، والهندسة الوراثية، إلخ.
حسنا، بالعودة إلى أصل التصور الهوياتي العربي، الذي تشكل وفق "علم الأنساب" القديم، فإننا ملزمون الآن بالإجابة عن العوامل التي يجب فحصها، لمعرفة كيف ربط الناس في الإسلام المبكر هويتهم بالعرق العربي، وكيف اخترع الخيال العربي سردية "الأمة العربية الواحدة"؟. إن الإجابة عن هذه الأسئلة ستقودنا حتما إلى معرفة كيف صنع "الفيل محمود" الهوية الليبية أو كيف صار الليبيون ليبيين؟.
تأثير الصراع المرير بين الأحباش "السود" والعرب "البيض" ما بين أعوام 525-570:
على الرغم من أن حملة "الفيل" المزعومة بقيادة "أبرهة" لم تنجح، حيث تم تدمير جيش أبرهة وفيلته، على حسب ما ورد من إشارات المفسرين في سورة الفيل الواردة في القرآن (105: 1-5)، فإن تخيل تأثير محاولة تدمير "الكعبة" على النفس المكية لابد أنه كان قد ترك أثرا عميقًا. انعكست أهمية هذا "الحدث التاريخي" في الذاكرة العربية، عندما ربطه المؤرخون المسلمون لاحقا بمولد النبي محمد، بالأخص بتلكم البشارة "اليزنية" التي بشَّر بها ملك اليمن "سيف بن ذي يزن" وفد العرب بقيادة عبد المطلب بقرب ظهور نبي من قريش. وعلى وقع هذه الخلفية المفبركة، اعتبرت هذه المناسبة بالذات في "الثقافة العربية الإسلامية" فرصة عظيمة للشعراء العرب للسخرية من الأحباش السود في قصائد طويلة مُعتقة (الطبري، 2: 135-6). كان الهجوم العربي الشعري والنثري يستهدف بالدرجة الأولى أبرهة وجنوده، متشمتا بهزيمته المهينة والذليلة على يد العرب. إذن، كانت حملة "أبرهة" المزعومة على مكة بمثابة نقطة تحول في العلاقات بين الحبشة والعرب، حيث صارت العلاقة علاقة عدائية، استمرت حتى هجرة أصحاب النبي محمد إلى النجاشي في بدايات القرن السابع الميلادي، ثم ما لبثت أن عادت من جديد مع بدايات الغزو العربي لأفريقية. لقد تُوِّج انتصارُ العرب المتخيل على أبرهة بطرد الأحباش من اليمن بقيادة "سيف بن ذي يزن"، الذي تحوَّل إلى أسطورة خالدة ضمت إلى جوقة "السرد العربي"، وقد أصبحت حياته حكاية شعبية شهيرة، مثل حكاية "ألف ليلة وليلة"، تُروى وتُقرأ على مسامع الجمهور "العربي" في المجالس والمقاهي والحفلات للترفيه والتسلية إلى يومنا هذا.
في هذا السياق، يؤكد مفكر مسلم من أصل فارسي من القرون الوسطى هو أبو عثمان الجاحظ (ت 869م)، في رسائله المعروفة بـ(رسائل الجاحظ) أن الجزيرة العربية كانت تتكون في الأصل من جالية أفريقية كبيرة قبل هذا التاريخ، متخيلا في ذات الوقت كيف تغيرت العلاقة بين القرن السادس والسابع الميلادي عبر حوار "مفبرك" بين حبشي وعربي بالقول:
وقد قالت الزنج للعرب: من جهلكم أنكم رأيتمونا لكم أكفاء في الجاهلية في نسائكم، فلما جاء عدل الإسلام رأيتم ذلك فاسدا، وما بنا الرغبة عنكم. مع أن البادية منا ملأى ممن قد تزوج ورأس وساد، ومنع الذمار، وكنفكم من العدو. قال: وقد ضربتم بنا الأمثال وعظمتم أمر ملوكنا، وقدمتموهم في كثير من المواضع على ملوككم. ولو لم تروا الفضل لنا في ذلك عليكم لما فعلتم (الجاحظ، 1964:197)
يكشف المقطع أعلاه عن ثلاث نقاط مهمة. أولاً، يؤكد أن الأحباش السود في شبه الجزيرة العربية كانوا مندمجين بطريقة ما ويحظون بتقدير كبير، وأن التمييز ضدهم ربما يكون تطوراً حدث بعد حملة أبرهة ضد مكة. ثانيًا، كان ظهور الإسلام عاملاً مساهماً في تغيير نظرة العرب للسود من الاحترام إلى الازدراء. ثالثًا، إشارة الجاحظ إلى "عدالة الإسلام" وليس "مساواة الإسلام" دليل على أن الأخيرة لم يكن من مبادئ الإسلام، حيث أقر القرآن نفسه بعدم المساواة بين البشر، كما سنبين لاحقًا. وبالتالي، فإن إدخال كلمة "العدالة" في النص لم يكن لها أي معنى. ببساطة لأنه إذا كانت العدالة تعني المساواة في هذا السياق، فلن يؤمن المسلمون بعدم كفاءة الزواج من الأحباش السود بعد ذلك. ومن النتائج الخطيرة لهذا الصراع، تردد العرب في الزواج من ذوي البشرة السوداء. في الواقع، لا يزال هذا الوضع قائما إلى حد ما دون تغيير في المجتمعات العربية "البيضاء"، حيث يندر زواج ذكر عربي "أبيض" من أنثى أفريقية "سوداء" أو العكس. في هذا السياق، ربما تكون حكاية رفض قبيلة عربية زواج ابنتها اشتهرت بـاسم "عبلة" من أشهر شاعر أسود هو "عنترة" مثالاً واضحًا على هذا التحول في العلاقات بين العرب والأحباش في أواخر القرن السادس الميلادي. وفقًا لملحمة "سيرة عنترة"، أشهر "الملاحم العربية"، كانت "عبلة" ابنة عم "عنترة"، الذي ولع في حبها كل ولع. تقدم "عنترة" لخطبتها، لكن والدها لم يرغب في السماح له بالزواج من ابنته بسبب لونه الأسود، ولمنعه من ذلك، طلب من "عنترة" مواجهة سلسلة من التحديات قبل المضي في الزواج (جوهر، 1964). في حقيقة الأمر، يشير الشعراء السود المشهورون في فترة ما قبل الإسلام في شبه الجزيرة العربية مثل عنترة (ت 608)، من بين شعراء آخرين، في أعماله إلى أن الجلد الأسود هو السبب الوحيد الذي منعه من الزواج من نساء عربيات "بيضاوات". ونتيجة لذلك، وظف قصائده للرد على مجتمع عنصري رفضه وحرمه من كرامته وإنسانيته. ومع ذلك، تُظهر المصادر المذكورة أعلاه، أن التحيز العنصري ضد السود، بغض النظر عن تعاليم الإسلام الورعةالمزعومة، يدين بالتأكيد بأول وأوضح تعبير أيديولوجي للمصادر الإسلامية. في هذا السياق، يرصد حلمي شعراوي هذه الحوادث والسرديات والملاحم بالقول:
إن عملية استحضار وعكس صور كل هذه الأحداث في ملاحم عظيمة مثل ملاحم "عنترة بن شداد" أو "سيف بن زي يزن"، بغض النظر عما إذا كان كتابة هذا قبل الإسلام أو بعده، تكشف بعمق هذه العلاقات المتضاربة حيث هُزم العرب. بدأ هذا العربي المهزوم في خلق صور دفاعية شجعتها هزيمة الأحباش في الصراع بين الرومان والفرس، وهو الصراع الذي سمحت نتائجه للعرب باستعباد الأحباش في أجزاء مختلفة من شبه الجزيرة العربية (شعراوي، 2008:98)
إذن، يمكننا القول بعد كل هذا، بأن أشهر الأحداث التي ساهمت في صناعة "المتخيل العربي" للهوية العربية بدأت من هذه اللحظة التاريخية المبكرة، لحظة الفيل "محمود" وهجومه المزعوم على الكعبة. لكن هل تثبت "سردية الفيل محمود" فعلا إذا ما تم التدقيق فيها تاريخيا وأركيولوجيا؟.
حسنا، حسب السردية الإسلامية، فقد ترك حدث "الفيل" الذي اختار له المؤرخون المسلمون اسما لطيفا هو "محمود" أثرًا كبيرًا على أهل مكة، لدرجة أن "العرب المسلمين" بدأوا يؤرخون تاريخهم عند هزيمة الأحباش المؤرخة لديهم بـ570م. فلو سألتَ شخصا "عربيا" وُلِدَ في ذلك الزمان؛ أي بين عامي 570م إلى 622، وهو عام الهجرة إلى يثرب؛ أي العام الذي اعتمده المسلمون في تأريخهم الجديد، لأجابك بكل أريحية بأنه وُلِدَ مثلا في العام الأربعين للفيل الذي يوافق 610م. ومهما يكن من أمر، فقد عجلت هذه الهزيمة بطرد الأحباش من اليمن، عندما استنجد أهل اليمن بالقوى الإمبريالية المجاورة لتحرير بلادهم من الاستعمار الحبشي. بعد عدة محاولات فاشلة، وضع اليمنيون ثقتهم في زعيم محلي اسمه "سيف بن ذي يزن"؛ لترتيب المساعدات الخارجية. وعندما لم تنجح محاولته الأولى في كسب ود ودعم الإمبراطور الروماني، سافر إلى خسرو، ملك بلاد فارس، طالبًا الشيء نفسه. ولأسباب سياسية واقتصادية وأخرى لونية (لأن سيف استعمل لون جلده "الأبيض" لإيهام ملك الفرس بمشاركة أهل اليمن لأهل فارس في عنصر اللون، حسب رواية المسعودي)، استجاب الفرسُ وقدموا له على الفور كل الدعم العسكري، الذي يحتاجه لطرد الأحباش، حلفاء عدوهم التقليدي، الرومان، من أجل السيطرة على طريق تجاري استراتيجي. بعد هزيمة الأحباش في اليمن، أشار الطبري في روايته، إلى أن الملك الفارسي نصَّب "سيف بن ذي يزن" ملكًا على اليمن. وبمجرد وصوله إلى السلطة، بدأ في ذبح أي حبشي أسود في طريقه. ومع ذلك، لم يمضِ وقتٌ طويلٌ قبل أن يتمكن عدد قليل من هؤلاء الأحباش المستعبدين بطريقة ما من اغتياله. انتقم الحاكم الحبشي الجديد من اليمنيين بقتلهم وتشريدهم. وعندما وصلت أنباء الهزيمة إلى كسرى، "بعث إليهم وهرز في أربعة آلاف من الفرس، وأمره ألا يترك باليمن أسود ولا ولد عربية من أسود إلا قتله، صغيرا أو كبيرا، ولا يدع رجلا جعدا قططا قد شرك فيه السودان إلا قتله". (الطبري، 1967، 2:148)
بالفعل، صُوّرت هزيمة الأحباش حلفاء الرومان في "عام الفيل" في السردية الإسلامية، التي دُونت بعد ذلك الوقت بنحو قرنين ونصف على الأقل، كشرارة أولى لتحقيق حلم "الوحدة العربية"، التي كانت ضرورية في ذلك الوقت، رغم أن ذلك لم يكن ممكنًا بسبب الصراع القبلي العربي على القيادة. ومع ذلك، فإن هزيمة الأحباش والرومان ساعدت في عملية التوحيد الأول من نوعه، والذي جعله ظهور الإسلام ممكنًا (شعراوي، 2008: 99). كما يمكن ملاحظة أن هزيمة الأحباش في اليمن (كما صورتها المصادر الإسلامية المتأخرة) أدت إلى بداية تطوير "هوية عربية" موحدة لأول مرة في التاريخ على أساس التفوق العرقي. عند ظهور الإسلام، وبالتحديد عند بداية عصر التدوين، ساعدت مثل هذه المصادر، على فبركة تشكيل "الهوية العربية"، التي بدأ فيها العرب المسلمون في ترسيم حدود هويتهم العرقية المتخيلة، من خلال فرض مصداقية الانقسامات العرقية القائمة على شرعية الخلاف بين العرب والأثيوبيين (سام وحام) والمسلمين والمسيحيين (مؤمنين وكفار). إن انتشار اللغة العربية والعقيدة الإسلامية لاحقا، وتطوير نماذج مفبركة مشتركة للأنساب والتاريخ والشعر العربي في عصر التدوين، كلها أمور ذات صلة، أصبغت بدورها على هذه "المجموعة العرقية" هوية محددة، خلقت من "الدم الطاهر النقي" الذي ساعد على جعل "العروبة" ملموسة، الأمر الذي ساهم في تشكيل ورسم الحدود العرقية لـ "لمجتمع العربي" في العصور الإسلامية الأولى.
ومع ذلك، يبقى السؤال المهم: كيف تسربت قصة "الفيل محمود" إلى السردية الإسلامية لتصنع "الهوية العربية"؟
في الواقع، كان اليمنيون والأحباش مجرد أدوات في الصراع الدولي القائم آنذاك، فقد قاموا بشن حربٍ بالوكالة نيابة عن الإمبراطوريتين القويتين الفارسية والرومانية. كانت واحدة من أكثر الحروب دموية، تلكم التي وقعت قبل وقت قصير من ظهور الإسلام معركة "الفيل". فوفقًا لمفسري القرآن، غزا أبرهة الحبشي المسيحي (نائب النجاشي على اليمن)، مكة عام 570 بعد الميلاد، مستخدمًا المحاربين الأحباش بمعية فيل حرب أفريقي عظيم اسمه محمود. ومن قبيل الصدفة أن يقع الغزو في نفس العام، الذي ولد فيه محمد. فشل الغزو، وفي عام 570 سقط جنوب الجزيرة العربية تحت السيطرة الفارسية (Mackintosh-Smith, 2019:90 & Ali, 2001, 6:213، الطبري، 2:135، الأزرقي، 1:146، ابن كثير، 6:337). وبصرف النظر عن الدواعي "المفبركة" من قبل المؤرخين المسلمين، التي دفعت "أبرهة الحبشي" على الإقدام لهدم "الكعبة"، فإن السؤال الأهم هو عن مدى صحة وقوع هذا الحدث تاريخيا واستخدام الفيل فيه. فوفقًا لآخر الأبحاث العلمية، التي أجريت حول "حملة الفيل" نستطيع تلخيص الآتي:
(1) يؤكد نقش سبئي يمني بأن حدث "حملة أبرهة" على بعض القبائل القاطنة في جنوب شبه الجزيرة وقع في عام 541م، وليس 570م، أي قبل نحو ثلاثين عامًا تقريبًا، حيث ينقل أحد الباحثين بأن: "جيش أبرهة كان يتألف من الأحباش والحميريين بالآلاف". (Hatke، 2020:316).
(2) يرد اسم أبرهة بانتظام في أدبيات التعليقات التاريخية اليمنية السبئية، أي أنه شخصية تاريخية حقيقية، لكن ارتباطه بالشكل الذي صُور فيه أعلاه يقتصر فقط على المصادر الإسلامية، لاسيما النصوص التاريخية والتفسيرية. (McAuliffe، 2001:45).
(3) تأتي الأدلة الخطية من مصدرين خارجيين، بروكوبيوس، المؤرخ البيزنطي الذي توفي عام 570 م، وهو معاصر للإمبراطور جستنيان، ومن نقوش المريغان (Murayghān Inscriptions) التي تم اكتشافها في المملكة العربية السعودية عام 1951، والتي يعود تاريخها إلى 552 م. يصف كلا النصين حملة أبرهة في غرب شبه الجزيرة، في مكان يبعد نحو 100 كم شرق الطائف. (David Penchansky، 2021).
(4) لا يوجد في أي من المصدرين الخارجيين أي ذكر لهجوم على مكة ناهيك عن الكعبة، أو أي فيلة حرب، أو أي طيور أبابيل، أو هزيمة نكراء لقوات أبرهة. بدلا من ذلك، تحتفل نقوش مريغان بانتصارات أبرهة، وليس بموته الرهيب. علاوة على ذلك، تصف هذه الأدلة "الامبريقية" المعركة بين مجموعتين من البدو في حرب بالوكالة، مع التأكيد على عدم وجود قوات حبشية فعلية على الأرض. (المرجع السابق).
(5) لا يوجد دليل على استخدام فيلة الحرب الأفريقية في المعارك لمدة ستمائة عام قبل هذا الوقت. كانت المرة الأخيرة، عندما استخدمهم السلوقيون في ثورة المكابيين، كما استخدمتهم قرطاج في الحروب البونيقية. (المرجع السابق).
(6) لم تشر آيات سورة الفيل صراحة إلى أي علاقة للفيل بأبرهة والحبشة، ولا لأبرهة بتحطيم الكعبة. وعليه، فإن قصة "الفيل" في القرآن "تغيرت من خلال التنقيح الأسطوري... [و] ربما تطورت إلى أسطورة كاملة بحلول الوقت الذي وجدت فيه طريقها إلى القرآن." (العظمة، 2014: 146).
(7) بناء على ما سبق، يمكن القول بعدم وقوع محاولة أبرهة لغزو مكة، لا بفيل ولا بغيره. لقد فبرك ابن إسحاق (باعتباره الناقل الإسلامي الأول) لهذه القصة بهدف تجسيد وتفسير ما جاء في سورة الفيل، وصناعة سردية إسلامية تأسيسية كبرى. إن توسع ابن إسحاق في تفسير سورة الفيل، ليس ريبورتاج لحدث تاريخي متذكر، ولكنه رد خيالي على المساحات الفارغة في السورة، التي يواجهها القراء. لقد شكّل ابن إسحاق روايته من الخيال ومعرفته بالتاريخ الحديث للمنطقة كإعادة خيالية، فهي قصة رائعة وجذابة،أصبحت لاحقا القاعدة السائدة للتفسير الإسلامي. (David Penchansky، 2021).
يمكن القول بعد كل هذا، إنه مع حلول عصر التدوين في نهايات العصر الأموي وبدايات العباسي، بدأت أكبر عملية فبركة لتأسيس"سردية إسلامية كبرى"، قام عليها تشكيل "هوية عربية" ارتكزت بالأساس على رواية "الفيل" الخيالية البالغة في الفانتازيا، وذلك بحكم العداء التاريخي المستحكم بين اليمنيين والأحباش.
لكن يبقى سؤال المليون: ما علاقة اليمنيين السبئيين بعرب قريش وقضاعة؟. إن الإجابة عن هذا السؤال ستمهد لنا الطريق لمعرفة علاقة الليبيين بعرب بني هلال وسليم. وهذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة...
* فصل مختصر من كتابي بعنوان "من نحن؟" سيصدر قريبا.
> راجع الجزء الأول