اختُتمت الأحد الماضي، الدورة الثالثة من مهرجان «الأسطى» للفكر والفنون. المهرجانُ الذي كنتُ أتتبّع أخبارَه صبيّا، وأتلمّس آثاره فتيّا، وما خطر ببالي قطّ يوما، أن أشارك فيه. وهاهي «تجريدة نجيب» تتكرّر من جديد.
كان مهرجانا استثنائيّا، بحضور كثيف نساء ورجالا وأطفالا، بعيدا عن التقليديّة، قريبا من المشهديّة، يباغت حرّاسَك من حواسك. وإن كان أ. عمر اْلِكْدَي وصف المهرجان في دورته الأولى، عام (2009) في مقال له: بأنّه يُعيد درنة إلى صِباها، فإنّي أصفه في دورته الثالثة بعد (14) عاما، بأنّه: يعيد إلى درنة بهاءها.
ما أظنّ الأقفاصَ مهما ادلهمّت
تمنع الطير لذّة الإنشادِ
أشرف على المهرجان «بيت درنة الثقافي» قلب المدينة النابض، والذي استقبل ضيوفه بحُلّة قشيبة بعد صيانة كبيرة، أعادت للبيت بريقه وسناه. أعضاء البيت خليّة نحل، إلا أنّ طنينَهم موسيقا، وعسلَهم نصف ابتسامة وأمل.
كان التنوّع عُنوانَ المهرجان الرئيس وسِمته الأساسيّة، كأنّه لوحة مفعمة بالألوان الناطقة. تنوّعٌ في المواضيع، بين الفكر والفنون؛ ورقات بحثية، ذاتيّة وموضوعيّة، ونقاشات حميميّة. وتنوّع في المكان، بين الفضاءات العامة (المدينة القديمة، التَجوال في الأزقّة) والمسارح (بيت درنة الثقافي، المسرح الوطني) والشلال الذي استعاد عافيته بالأشعار المنتظرة من «الطويبي».
وكذلك تنوع في الأنشطة، بين جلسات ثقافيّة (8 تجارب) ومحاضرات فكريّة (محاضرتان)، ومعارض (كتاب، فنون تشكيلية) وسهرة سينمائيّة (أفلام قصيرة) ومدايح نبويّة شريفة (فرقة البردة) وحفل موسيقي بهيج؛ على خبب الزمن الجميل.
عمود المهرجان التجارب الذاتيّة الثريّة، وما مثّلته من أفق مُتاح للحوار بين الأجيال. تجارِبُ عُمُرُها عقود، في مجالات مختلفة، اتخذ كلّ متحدّث منهم أسلوبا مُغايرا للتعبير عنها. تمايزت التجارب ولم تتفاضل، ولا تخلو -لطبيعتي الدرناويّة- من نَقَدات ووقدات. ولا يسع المقام التعليق على جميعها، وسأكتفي بالتقاط صورتين:
> الأولى: تجربة «زاهي المغيربي» الأكاديميّة؛ كانت تجربة ثقيلة، ومن أكثر التجارب عَرضا ونِقاشا. لم يخفّف عنّا دسمَها، إلا المشهد الجميل في إعلانه الشخصيّة الشرفيّة للمهرجان، وأحبّ أن أرسمه لكم بكلماتي.
ختم «المغيربي» تجربته وهَمَّ بالنزول، استوقفه «الحصادي» وأخبره أن يتريّث، ودعا بعض الضيوف إلى المسرح. لم نكن نعلم ما ننظر ولا ما الذي ننتظر. من الجانب الخلفيّ للمسرح خرج شخصان يحملان "بوستر" الإعلان عن الشخصيّة الشرفيّة للمهرجان، وتعمّدا ألا يراه المغيربي، فمرّوا أمامه، وجعلوه خلفهم، فلم يرَ شيئا.
للحظات، أصبح كلّ من في المسرح يعلم مكنون البوستر، إلا المغيربي، الذي فاجأه تصفيق الحاضرين بحرارة، لأمر ما، هو لا يعلمه. وما أن تأمّل البوستر، ووجد اسمه عليه؛ الشحصية الشرفية لمهرجان الأسطى للفكر والفنون؛ حتى غالب مشاعره وكبح دموعه وتوقف عن الكلام، وهو الذي كان قبل دقائق معدودات شلالا هادرا.
> الثانية: تجربة «سالم العوكلي» الشعريّة، كانت أكثر التجارب المطروحة -في تقديري- صِدقا ومواجهة للذات. قسا على نفسه كثيرا، ولم تخلُ قسوته ويأسه، من السخريّة والشاعريّة. وكان لتقديم «عاشور الطويبي» له، وتمازج روحيهما، وتمازحهما، سحرا إضافيا للتجربة، على المسرح.
أمّا دوري، فشاركتُ رفقة أخي الأعز د. أحمد جادالله، الحديث عن التجربة الصوفيّة. كان كلامي مركّزا على عالم هذه التجربة، التي وضعت لها 3 معالم، ثمّ أجبرني البوحُ على الحديث عن مدرسة شيخنا الأستاذ القطعاني الصوفيّة، التي أعدّها تجربة لم تتكّرر في ألف عام مضى، ويجهلها جُلّ من ينتسب إليه.
بعد الحفل الختامي البهيج للمهرجان، كنّا نشاوى، نطير في الأزقّة يحملنا الهوى والهواء. رافقت «د. عاشور الطويبي» للمشي من المسرح الوطنيّ إلى الفندق. مشينا أطول من المسافة، وهو الطبيب الذي انتظرته أكثر مما غاب. كانت مِشيتي سريعة، عادة اعتدتها منذ سنوات، وكان يقول لي كلّ 3 دقايق تقريبا: "تأنَّ، فإنّي أحبّ السير متمهّلا". كنتُ أظنّه يقصد نفسه، والآن، وأنا أكتب هذه الكلمات، فهمتُ مرامه. كان الله لي.
من لي بمثل سيرك المدلَّلِ
تمشي رويدا، وتجي في الأوّلِ.
04 من ذي القعدة الحرام لعام 1444هـ
راجع:
> مهرجان الأسطى للفكر والفنون.. جرعة ثقافية دسمة
> انطلاق مهرجان الأسطى الثالث للفنون والثقافة بمدينة درنة
> مهرجان الأسطى في دورته الثالثة
> #مهرجان_الأسطى_للفكر_والفنون