أربعون عاما اليوم تمر على رحيل الرجل الكبير. والعالم مزاجه متقلب وتشويه الصراعات والحروب. وليبيا تراوح في مكانها كالعادة. تسمع هدير البحر القريب وتتكئ على الصحراء البعيدة. ولاشئ جديد. لم يكن إدريس السنوسي حدثا عابرا في تاريخ ليبيا المعاصرة. ليبيا بأحزانها وعقدها وتطلعاتها وأحلامها المبتورة. لم يكن عارضا بدون مطر مضى وانتهى.
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
![]() |
لم يكن قائد إنقلاب. لم يكن رئيس عصابة. لم يكن رئيس حزب أو جماعة. لم يكن زعيم مليشيا تخطف وتنهب وتقتل وتنال من الأعراض. ولم يكن ظاهرة طارئة في حياة ليبيا على الأطلاق. كان رجلا مثل رجال ليبيا المخلصين ولد في احدى واحاتها وامتزج بسيرة الوطن الذي سعى بمهارة في بنائه وتشييده. كانت الأرض قاحلة وكانت عوامل الخوف والشكوك تنهض من كل مكان وتعقر الأقدام التائهة عن الطريق..ثم عندما نجح الحرث والزرع ونما كثرت عوامل الحسد ووضع الفخاخ.
لم يكن إدريس السنوسي إسطورة خيالية أو بطلا فوق التصور أو خارقا للعادة. كان إنسانا ومعه كانت ليبيا على الدوام. لم يخن بلاده كما توهم البعض. لم يتأمر ضدها. كان يمسك بخيوط اللعبة المعقدة ويمتلك مهارات سياسة الوقت الذي عاش فيه وعاصره.. ولذلك عبر الصعاب ونجح ولم يخفق!
وحين رحل منذ أربعين عاما في المنفى الذي أختاره أو فرض عليه بعيدا عن الوطن الذي عشقه وأحبه..لم ترحل ليبيا معه. بقت أنفاسه تعبق بحرها وصحراءها وبدوها وحضرها وشمالها وجنوبها وتاريخها. بقى إدريس السنوسي يطل بقوة خلال ذلك كله. ولئن صار النكران والجحود في فترة مخجلة من تاريخها ومايزال لجهوده وجهود الرواد المخلصين معه على طول الدرب من أجلها فأن الرجل وتاريخه يتذكره الجميع..المتفقون والجاحدون والمختلفون والطاعنون والمحبون بعاطفة وحماس. رجل لايغادر ذاكرة ليبيا رغم جحود الأجيال..ذلك أنه لم يكن مجرد حدث عابر في تاريخ ليبيا المعاصرة. أضحى قطعة أصيلة ونبيلة تبرق مثل الذهب في تجاويفها وجدرانها وخطوط رمالها وأبعادها وأمواج سواحلها وكل أطيافها. كان يعتبرها أمة تضم شعبا عزيزا وغاليا على نفسه وقطعة منه أيضا. امتزجت الأمة بالرجل في تفاصيلها بكل مسافات التجربة والخطأ والصواب والمحاولة والأقدام والتردد. ذلك هو إدريس السنوسي الذي فشلت كل مسائل التنكر له والإساءة إليه. ظل أصلب من هذا كله بلا إنقطاع.
ويحسب للرجل إنجازات وأعمال عديدة..فقد وحد الليبيين في غمار محاولات التفرقة والتشظي. ووحد بلادهم أمام العواصف بميزان الحكمة والتعقل والتشاور والرأي السديد. وجعل من تلك البلاد دولة تأسست في الفترة المعاصرة في الفراغ ومن لاشئ في ظروف هي أيضا أكثر قتامة وإظلاما. وأدار الدولة بالمنطق والسياسة والمواطنة وليس بالعائلة أو التعصب أو القبيلة أو القرابة. كان ثمة فهم لديه لهذه الخطوط المتشابكة والتقاطعات. وأضفى سلوكه الشخصي ونزاهته وأخلاقه وأسلوب معيشته على موضوعه السياسي نقاطا لامعة تتجاوز العديد من الزعامات وأصحاب المناصب والرتب وصار عنوانا فريدا في المنطقة وماحولها لهذا السلوك وتأثيره في صفحات التاريخ. ومع ذلك كله وغيره ظل يرتبط بنشوء ليبيا الحديثة أمة بدستورها وكيانها تتواصل الأجيال معهما رغم مايحدث من خلافات وأخطاء. ظل إدريس السنوسي مرجعية ومصدرا لمسيرة الدولة ترتاح إليه وتأنس لبعد نظره. وتلك علاقة مطردة تلازمت مع التاريخ إذ يكفي أن الرجل توافقت عليه الأمة الليبية في عدة بيعات وإعترافات بدوره المهم ومقدرته. توافق بدأ منذ حكومة إجدابيا عام 1916 ثم تعزز في الثاني والعشرين من سبتمبر 1922 في مؤتمر غريان ليستمر هذا التوافق والثقة معا في شخصه في إكتوبر 1939 ثم أغسطس 1940 في ديار الهجرة. ثم أيضا بالجمعية الوطنية التأسيسية في ديسمبر 1950. ثم برفض محاولات إستقالاته أعوام 1954 و1964و1966و1967. هذا التوافق من جهة شعبية في جانب أخر ظل يتوكد عبر الشعور البسيط لدى الناس. كان في منظورهم (سيدي إدريس)فقط وليس مجرد سلطان أو ملك. وبلغ الأمر مداه حينما ظلت الغالبية البسيطة تحلف به في لازمة معروفة (وحق سيدي إدريس). وذلك شئ لم يحدث فيما أعلم في المخيال الشعبي لدى شعوب أخرى. وفي الغناوة الشعبية التي لها قوة الكلمة البليغة خوطب من خلالها :(معاك نشهدوا بالزور يابال قول الصادقة)!
ومع تلازم الترادف الرسمي والشعبي العاطفي بمفهومه البسيط جدا كان لابد أن يحدث الإختلاف رغم هذه الإجماعات وظل أيضا بمقدور الشاعر العامي أن يقول له :(قيادة السفينة يا ادريس أرعاها.. أصحى م الجماعة يخربوا مسعاها)ترادفا مع قول الشاعر الفصيح :(أدرك بحكمتك الباقي من الرمق.. أن السفينة أشفت على الغرق). والإختلاف من طبيعة الأشياء ومن نواميس الحياة ذلك كما أشرت أن إدريس السنوسي لم يكن شيئا مقدسا تحيطه الخرافات والإلتباسات أو ملائكة منزهة. أنه بشر أولا وأخيرا ولابد من حدوث نقاط الإختلاف معه وهذه أيضا من سنن التاريخ الطبيعية. بشر يعرف حدوده ويؤمن بالإنتماء وضرورته للوطن. كان إدريس السنوسي ملكا منتميا لوطنه في كل الأوقات والظروف.
في الأربعين تلوح وتظهر شهادات الجانب العاطفي والإنساني والسياسي للرجل الذي مضى قبل رحيله ثم خلال ذلك الرحيل الذي وقع وبقت سيرته لاتختفي عن الأنظار. والشهادات تاريخ ينطق ويتحرك.
(1) رشاد الهوني:
يوم السبت عشرين إبريل 1968 وفي العدد الأسبوعي من صحيفة الحقيقة نشر مديرها رشاد الهوني مقالا في بابه المعروف (من يوم ليوم) كان صدى للإستقبالات التي غمرت بعض المناطق والمدن الليبية للملك إدريس تلك الأيام. لخص فيها رشاد رؤيته للواقع بشفافية ومحبة وأشار في نهاية المقال للملك بقوله أنه أبانا الذي لم نعرف أبا سواه. إبتعد عن النظرة السياسية له وأعتبره أب الجميع. هذا المقال كان من ضمن الأدلة ضد رشاد في محكمة الشعب في قضية إفساد الرأي العام التي شملت رشاد وغيره بالأتهام. كان ذلك في يناير 1972. دافع رشاد عن رأيه بقوة وأشار بأنه كتب المقال دون نفاق أو تهريج فقد نقل ماحدث من مشاعر الشعب حيال الملك وأكد أيضا بأنه عاش في أسرة تحترم الطريقة السنوسية منذ القدم فوالده الشيخ البشير رجل سنوسي. وأن شقيقيه سمتهما الأسرة إدريس والسنوسي وبهذا فأنه لم يجاف الواقع أو يبتعد عنه. ويقول رشاد في مقاله الشهادة :(توارى في بيته المتواضع ليواصل كفاحه دون توقف. لم ينزل إلى الشوارع طلبا للهتاف والتصفيق ولم يزاحم ساسة العالم في الإجتماعات الدولية إستدرارا لزعامة خارج بلده ولم يزحم بيته المتواضع بأكثر من حاجته الشخصية القنوعة. كانت رسالته ذات متن وذات أهداف وذات أسلوب خاص ومتميز. رسالة لاتخدم الراعي بقدر ماتخدم الرعية. وتسهر على مصالحها ولهذا بقى الإدريس زاهدا في المتاع كزهده في الدنيا وبهرجها. ولذلك بقيت ليبيا وطننا مأمولا ومستقرا في حين أن مثيلات ليبيا من البلدان التي مرت بأنتقالة شبيهة وقعت فريسة الرفاهية والموت بالتخمة والضنك والموت بالجوع. ففي حين ضجت الدنيا بالمعارك الحزبية والإنقلابات العسكرية والتمزق الداخلي كان الشعب الليبي يعيش أمنا مطمئنا داخل أرضيه وكانت مسيرته نحو المستقبل مصحوبة بالأستقرار والحب والتعاون. لم تعد كلماتي قادرة على ترجمة معاني اللقاء).
كان المقال صورة إنسانية لملامح الملك تأثر بها رشاد مثل الكثيرين وظل في دفاعه عن رأيه وعن الملك في مقدمة الشهادات الرائعة المماثلة عبر قاعة المحكمة من السيدين حسين مازق وعبدالعزيز الشلحي. وكان المحامي الشهيد محمود نافع رجلا شجاعا في دفوعه القانونية عن رشاد وعن الحقيقة في وجه المحكمة بمن فيها.. المحكمة التي سخرت من رشاد ومن التاريخ ومن الرجال ووضعت عهد الإستقلال بكامله في قفص الإتهام. ولكن التاريخ يبقى رغم الأقفاص والأغلال والزيف والإدعاء.
(2) محسن محمد إدريس بن أحمد إدريس:
كان صديقا ومايزال منذ سنوات الطفولة والدراسة. ثم عاش أغلب حياته ومايزال في ديار الغربة. التقيت السيد محسن بعد غياب في القاهرة يوم الثلاثاء الخامس والعشرين من ديسمبر 2007. وفي هليو بوليس كانت جلسة جميلة إمتدت ساعات. كان قريبا من الملك في إقامته ولم ينقطع عنه إلى لحظات وفاته. تحدث قائلا:
(شعر الملك بالراحة والأطمئنان لوجوده مقيما في مصر بعد وصوله إليها في إكتوبر 1969. أكرم عبدالناصر وفادته وإستقباله. وقد حضر إلى القاهرة مع زوجته الملكة ثم لحقتهما السيدة سلمى أبنتهما. وصل الملك خاوي الوفاض من متاع الدنيا وتكفل للأمانة عبدالناصر بكل شئ بدء من توفير الإقامة اللائقة حتى إحضار البطاطين والأغطية فقد كان الوقت شتاء. أن عبدالناصر رغم كل شئ كان يحترم الملك ويجله ولم ينس مواقفه معه وخلال السنة التي قضاها عبدالناصر حيا إلى وفاته في سبتمبر 1970 كان يتصل هاتفيا بأستمرار بالملك ليطمئن عليه ويتابع أحواله وبهذه الطريقة أيضا إستطاع أن يجعل الملك تحت بصره ومتابعته بطريقة ما لعيون الثوار الجدد. ثم عومل الملك وزوجته الملكة معاملة كريمة طوال عهد السادات الذي ظل أيضا يحترم الملك ويقدره ويرعاه ويستفسر عنه ويشيد بمواقفه الكبيرة مع مصر عقب حرب 1967 ومقابلاته له موفدا من عبدالناصر وأذكر أنه في حفل عقد قران إحدى بنات السادات على خطيبها أحد أبناء سيد مرعي الوزير المعروف فوجئ الجميع بحضور الملك إدريس وقد خرج السادات شخصيا من قاعة الإحتفال إلى باب السيارة وساعد الملك في الخروج منها ودخلا معا وكان ذلك مفاجأة للجميع. وللتاريخ فأن المصريين في الغالب ظلوا يقدروننا ويحترموننا لسمعة الملك إدريس ومواقفه مع مصر.
إبتعد الملك عن السياسة والخوض فيها وطلقها وتركها وقدم إستقالته كما هو معروف وظل يبتعد عن مناقشة أمورها مع ضيوفه سواء كانوا ليبيين أو غير ليبيين وقد تحفظ في السنوات الأولى من وصوله إلى مصر في المقابلات واللقاءات ولم يشأ أن يرهق أحدا بذلك وكان يردد عبارته المشهورة : للملاقاة أوقات ثم ظل يقابل السيد عمران العابدية الذي يأتيه خصيصا من ليبيا ويجلسان معا ويحتسيان الشاي الأخضر وكان يتردد عليه أيضا السادة عمر الشلحي ويحي عمرو وعبدالحميد البكوش ومحمد الصيفاط ورفض من جهة أخرى مقابلة الرائدين عمر المحيشي وعبدالمنعم الهوني في فترة لاحقة. وقد حاولت السلطات المصرية التأثير عليه أيام خلافها مع القذافي بأجراء المقابلات والتصريحات لكنه أمتنع ولم يتدخل وكذا الملكة. كان الملك يعرف أصول اللعبة ومجريات الأمور والإبتعاد عن المهاترات وقد ظل أيضا يتابع أخبار ليبيا ويستفسر عن إخوان الطريقة السنوسية ومن يعرفهم ويعلم بوفايتهم وكان يتابع أخبار راديو لندن.. القسم العربي والنشرة الأخيرة لتلفزيون مصر وكان دقيقا جدا في مواعيده مثل دقته وهو ملك. لم يتغير على الأطلاق والساعة التاسعة ليلا يخلد إلى الراحة وكان يتابع ماتنشره الصحف وتصله بأنتظام وتقرأ له وأذكر أنه علق على موضوع تجييش كبار السن في ليبيا عندما شاهدهم في التلفزيون قائلا :هؤلاء سوف يحاربون من. الطليان وطلعناهم وخلاص. مازلوا طامعين في الشياب. ويضحك بمرارة.
في السنوات الأولى من إقامته في مصر كان يذهب إلى منطقة الحمام حيث إقامته القديمة ولوجود الزاوية السنوسية هناك ويتذكر والملكة معاناتهما أيام الثلاثينيات خلال متابعة القضية الوطنية وهما يقضيان الليالي على ضوء الفتيلة ويجبدان الماء شخصيا من الماجن. كان يشعر بالراحة هناك ويتجول مشيا في الخلاء تملؤه السعادة. كان معه ياور خاص من مصر إضافة إلى سائق إيطالي أسمه إتالو حضر معه بعد سبتمبر 1969 ورفض أن يترك خدمته وكانت زوجته الإيطالية وقد شكره الملك وأمره بالعودة إلى بلاده وعدم مجاملته فليس لديه مصروف أو ميزانية لكي يدفع له راتبه لكنه أصر على البقاء وفاء له. وللملك بريق عجيب في عينيه يعرفه الجميع فأحيانا تشعر بأنهما عسليتين أو خضراوتين وإذا التقت عيناك بعينيه فلا يمكن أن تواجهما لتوهج هذا البريق (يعني لابد أن تواطي نظرك)!. وكان متابعا لقراءة أوراده وأذكاره اليومية والتسبيح والمحافظة على الصيام كل أثنين وخميس وكذا الأيام الثلاثة البيض من كل شهر عربي الثالث عشر والرابع عشر والخامس عشر منه. لم يصرح بأية تصريحات ضد بلاده أو مسؤوليها ممن سارعوا بالأساءة إليه وإهانته مرارا وكان يردد بأنه وجيله أديا دورهما لوجه الله ووفقا للضمير وعلى الجيل الجديد أن يجرب. وقد أحسن كثيرا في إبعاده للعائلة عن الدخول في غمار السياسة ومشاكلها وكان يوصي بذلك على الدوام كما أنه أحسن فعلا وعملا عندما كفل وجود دخل مستمر لجميع أفراد العائلة كبارا وصغارا بعد بيعه عقارات الوقف السنوسي في السعودية وهو الذي نعيش عليه الأن ولامصادر مالية أخرى... ثم إقتربت لحظات الرحيل الأخيرة في ساعات ذلك الفجر).
يتبع...
الصور:
1. الامير ادريس في شبابه.. صورة نادرة وقديمة بالبدلة والطربوش عام 1914.
2. الامير في لندن. يوليو 1949 زيارة قابل الملك جورج السادس وتشرشل وغيرهما. كان يلبس لكل حال لباسا ويدرك مقتضيات العصر.
3. في جلسة نادرة يتناول طعاما أثناء إستقباله للمسيو بالاي مندوب فرنسا وعضو مجلس هيئة الأمم المتحدة في ليبيا. في دار اليمن. البيضاء. إكتوبر 1950. تنشر لأول مرة.
4. في زيارته إلى طرابلس مايو 1951 وقد لقب تلك الفترة بالملك العتيد قبل توليه سلطاته الدستورية. حديث باسم مع الشيخ محمد الهنقاري عضو الجمعية التأسيسية ولجنة الدستور في حديقة قصر الخلد بحضور السادة علي أسعد الجربي ومحمود المنتصر وعمر فائق شنيب. تنشر للمرة الأولى.
5. في القاهرة في سنوات الاخيرة من العمر مع سائقه الايطالي إيتالو الذي رفض ترك خدمته.
6. صورة لعدد الحقيقة الصادر في بنغازي يوم 20 ابريل 1968 يحوي المقال الشهير لرشاد الهوني عن الملك وعنوانه (توارى في بيته المتواضع).