مقالات

منصور العجالي

الفلسفة في الألفية الثالثة (4 والأخيرة)

أرشيف الكاتب
2023/05/22 على الساعة 15:06

جون سيرل: آفاق الفلسفة في الألفية الثالثة (4 والأخيرة)

ترجمة: منصور العجالي

هناك أيضا تطور آخر هام في فلسفة القرن العشرين لست شخصيا واثقا منه، لكنه في النهاية قد يكون أهم نتائج فلسفة القرن العشرين. لقد استولى على الفلاسفة انشغال واحد عظيم طيلة ثلاثة قرون بعد ديكارت من منتصف القرن السابع عشر حتى أواخر القرن العشرين وهو معالجة قضايا ومشاكل المعرفة والإرتيابية. لقد جعل ديكارت من المعرفة- نظرية المعرفة- مركز اهتمام الفلسفة. لقد كان السؤال الأولى الأهم لديكارت هو ما هو الأساس والأرضية الراسخة التي يمكن أن نخلعها على مزاعمنا المعرفية في العلوم وفي مسائل الحس العام وفي الدين وفي الرياضيات ...الخ. وقد استشعر الفلاسفة اللاحقون لديكارت مثل لوك وبيركلي وهيوم وليبنتز وسبينوزا وكانت أن محاولة ديكارت للإجابة على الإرتيابية لم تكن كافية. غير أن مشكلة ديكارت ظلت أكثر وضوحا في أعمال هؤلاء. فقد اتخذ لوك على سبيل المثال من السؤال التالي سؤال الفلسفة الجوهري: ما طبيعة المعرفة البشرية وما مداها؟. وانتهى الأمر بهيوم إلى صيغة متطرفة من الإرتيابية فاقت كل تصورات ديكارت نفسه. لكن هيوم شعر أنه بإمكاننا التعايش مع الإرتيابية من خلال تبنينا لموقف طبيعي كامل تجاه أنفسنا والعالم. علينا أن نقبل بمحدودية معرفتنا وأن ندرك أننا لا نعرف الكثير وإن كنا نمضي وكأننا على دراية واسعة رغم أننا لا نستطيع تقديم تبرير لافتراضاتنا حول العالم. لقد قرأ كانت هيوم وشعر بضعفه من خلال "وسنه الجزمي". وهكذا بذل كانت جهدا بطوليا للتغلب على ارتيابية أو شكوكية هيوم لكن جهده باء بالفشل كما أظن. لقد تمثل اهتمام فلاسفة القرن العشرين الأوائل في اللغة والمعنى وليس في المعرفة وتبريرها. كان سؤال ديكارت "كيف تعرف؟" ثم عمل كل من مور و رسل فيما بعد على تغيير السؤال واستبداله بحيث أصبح "ماذا تعني؟" ومع ذلك فقد كرس كل من رسل ومور وفتجنشتاين وأوستن جهدا فكريا كبيرا ساعين من خلاله للتغلب على الشكوكية مستخدمين أساليب لغوية. ورغم أن الجهد الأساسي لتحليلاتهم عزّز اللغة والمعنى إلا أن كثيرا من هذه التحليلات كانت تهدف لإيضاح وتبرير مفاهيم الحقيقة والدليل والمعرفة. أعتقد بل وآمل صادقا أن تكون هذه الحقبة قد وصلت إلى نهايتها. من الطبيعي أن لا يختفي الشيء في الفلسفة فجأة والى الأبد، لكنني أتصور من خلال تفسيري للمشهد الفكري الراهن وما آمل أن يكون عليه القرن القادم، أننا سنتخلى عن هاجس الشكوكية ونمضي قدما باتجاه فلسفة تتصف بقدر أكر من السمات البناءة. لقد قاد هاجس نظرية المعرفة و هوسها الراسخ بالتغلب على الشكوكية إلى ظهور ملمح ثان في الفلسفة خلال القرون الثلاثة التي تلت عهد ديكارت. يربط كثير من الفلاسفة التقدم الحقيقي في الفلسفة بالاختزال. لكي نفهم ظاهرة ما ينبغي أن نختزلها إلى ظواهر أكثر بساطة. وهكذا فإن كثيرا من فلاسفة العقل الإمبريقيين يعتقدون أن الطريقة الوحيدة لفهم حالات الذهن البشري هو اختزالها إلى سلوك (السلوكية). وعلى نحو مماثل يعتقد كثير من الفلاسفة أننا لكي نفهم الواقع الإمبريقي، علينا أن نختزله إلى خبرات حسية (الظاهراتية). كانت النتيجة الطبيعية لهاجس نظرية المعرفة أن نرى حل إشكال الشكوكية متجسدا في الاختزال. وهكذا فإنني أرى أن خطأين سادا الفلسفة- آمل أن نكون قد تجاوزناهما الآن- هما الشكوكية والتوسع غير الصحيح للتيار الاختزالي. 

لا أخالني أتجشم المغالاة في تقدير أثر التحيز المعرفي على ممارسة الفلسفة قرابة أربعمائة سنة، ذلك أن السؤال المعرفي كان مركزيا حتى في المواضيع بعيدة الصلة بنظرية المعرفة. وقد كان هذا الأمر ظاهرا على نحو واضح في علم الأخلاق والفلسفة السياسية. قد تعتقد أن السؤال "كيف تعرف؟" لا يبدو بالغ الوضوح في مثل هذه المجالات، غير أنك ستجد في واقع الحال أن السؤال المركزي لعلم الأخلاق في هذه الحقبة كان "كيف يمكن أن تكون لنا معرفة موضوعية في علم الأخلاق؟“.. "كيف يكون لنا هذا النوع من اليقين المعرفي في أحكامنا الأخلاقية التي نكد من أجل الوصول إليها في أحكامنا العلمية؟". يبدو أنه لم يكن من الممكن أن يكون هناك سؤال جوهري في علم الأخلاق عند آبائنا وأجدادنا الفلاسفة بالقدر الذي كان عليه هذا السؤال. لقد كانت نتيجة التحليل الفلسفي لخطاب علم الأخلاق شكوكية بالفعل لدى من يقبلون بالتمييز بين الوصفي والقيمي. وبحسب وجهة النظر هذه، يستحيل أن تكون هناك معرفة موضوعية في علم الأخلاق، لأن الجمل الأخلاقية لا يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة موضوعيا. الفلسفة السياسية أيضا أصابها تحيز معرفي فجاءت صيغة السؤال مرة أخرى على النحو ذاته " كيف لنا أن نتأكد، وكيف تكون لنا موضوعية معرفية إزاء أحكامنا ومزاعم واجباتنا السياسية؟" وهكذا كما تأثر علم الأخلاق وقعت الفلسفة السياسية في شلل مماثل بسبب من الشكوكية ذاتها. لكن الفلسفة السياسية تطورت وسرت فيها الحياة مجددا مع نشر كتاب "نظرية العدالة" لجون رولز وهو الكتاب الذي سأعرض له لاحقا.

ليس ثمة مجال كان التحيز المعرفي صارخا فيه أكثر من فلسفة اللغة. لم يكن لدى فريجه قلق معرفي حيال المعنى، لكن لاحقيه في القرن العشرين أحالوا الأسئلة الخاصة بالمعنى إلى أسئلة خاصة بمعرفة المعنى. وقد كان هذا الخطأ المتوارث إلى أيامنا بمثابة كارثة في تصوري. هناك اتجاه وحركة كاملة في فلسفة اللغة تعتقد أن السؤال المركزي هو: ما نوع الدليل الذي يمتلكه المستمع حين يعزو المعنى إلى المتكلم في لغة ما؟ ما نوع الدليل الذي أمتلكه للقول بأنك حين تلفظ كلمة "أرنب" مثلا، تعني ما أعنيه أنا بالكلمة ”أرنب"؟

ولم تؤخذ الإجابة -التي أراها شخصيا خاطئة- على هذا السؤال على أساس أنها مجرد سمة معرفية حول الطريقة التي نقرر بها الأسئلة الخاصة بالمعنى، بل أخذت على أساس أنها بمثابة مفتاح لفهم طبيعة المعنى.

المعنى يُحَلّل بالكامل عبر أنواع الدليل الذي يمكن أن يمتلكه المستمع حول ما يعنيه المتكلم. لقد ظن كثير من الفلاسفة المبرزين أن السؤال المعرفي قد منحنا بالفعل جوابا للسؤال الأنطولوجي، أي أن الحقائق المتعلقة بالمعنى قد تشكلت بالكامل عبر الدليل الذي يمكن أن يكون لدينا حول المعنى. 

أعتقد أن هذه وجهة نظر خاطئة سواء كانت في فلسفة اللغة أم في العلوم والفلسفة عموما. الأمر يبدو وكأن المعرفة في الطبيعة -الفيزياء- يفترض بها أن تكون معرفة تختص كليا بالتجارب والقراءات القياسية، طالما أننا نستخدم التجارب والقراءات القياسية لاختبار معرفتنا الطبيعية بالعالم. على نحو مماثل يتجلى الخطأ في افتراض أن الحقائق الخاصة بالمعنى حقائق خاصة بالظروف المحيطة التي يتلفظ الناس فيها بالتعابير، طالما أننا نستخدم الظروف المحيطة التي نتلفظ فيها بالتعابير كدليل للحكم عم يعنون. أعتقد أن هذا التحيز المعرفي يمثل خطأ عصرنا الفلسفي ، وهو أمر سأعرض له بمزيد من النقاش في الجزء اللاحق. إنني أهدف فكريا إلى جعل ما أقترحه هنا يتعين في ضرورة تركنا الشكوكية والإختزالية. أعتقد أنه لا يمكننا التوصل إلى تحليل بنّاء مرض للغة والعقل والمجتمع والعقلانية والعدالة السياسية وغيرها حتى نهجر هوسنا بفكرة أن افتراضاتنا حول كل ما نقوم به من بحث وتحقيق يقدم تبريرا لإمكانية المعرفة. وأن التقدم الحقيقي في المعرفة الفلسفية عموما يتطلب تقليص واختزال المستوى الأعلى من الظاهرة إلى نزعة معرفية أوسع حيال الظواهر في الأساس. مقاربة الشكوكية ليست محاولة لدحضها من خلالها، إنما للتغلب عليها وتجاوزها على نحو يمكننا من المضي قدما بغية التعامل مع المسائل والمشاكل الراهنة. وكما قلت سابقا، فأنا لست واثقا من كوننا قد توصلنا إلى ذلك فعلا، لكنني واثق من أنني أخوض على صعيد فكري غمرات هذه المرحلة. وبحسب تفسيري للمشهد الفلسفي المعاصر أرى أن الشكوكية قد تراجعت عن أن تمثل الاهتمام الرئيسي للفلاسفة وأن الاختزالية قد أخفقت عموما. الوضع الذي نحن فيه الآن يشبه تماما حالة الانتقال من سقراط و أفلاطون إلى أرسطو في تاريخ مسار الفلسفة اليونانية. لقد انشغل سقراط و أفلاطون على نحو جاد بالشكوكية وناضلوا من أجل قضايا جزئية. غير أن أرسطو لم ينظر إلى المفارقات الشكوكية نظرة جادة تشكل تحد لمشروعه الكلي محاولا إيجاد فلسفة نظرية نظامية بناءة. أظن أننا الآن نمتلك العتاد للتحرك باتجاه طور جديد من الفلسفة الأرسطوية في القرن الواحد والعشرين. 

ترجمة: منصور العجالي

المراجع:

1- John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge: Harvard University Press 1972). جون رولز، نظرية العدالة (كامبريدج: دار نشر جامعة هارفرد 1972).

2- Searle J.R., Minds, Brains and Programs, Behavioral and Brain Sciences, 1980, Vol.3,pp.417-457 جي. آر. سيرل، العقول، الأدمغة والبرامج، علوم السلوك والدماغ،1980، مجلد 3، ص 457-417.

3- Searle, J. R., The Construction of Social Reality, New York: The Free Press, c. 1995. جي. آر. سيرل، بناء الواقع الاجتماعي، فري بريس، سي. 1995.

4- Thomas Kuhn, Structure of Scientific Revolution (Chicago: University OF Chicago Press 1962). توماس كون، بنية الثورة العلمية (شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو 1962).

* جون سيرل (1932): أستاذ فلسفة اللغة والعقل بجامعة كاليفورنيا- بركلي. اقترن اسمه مع أوستن بنظرية أفعال الكلام وهو يعد من أبرز فلاسفة اللغة المعاصرين وإن كانت انشغالا ته الراهنة تنحاز لفلسفة العقل ومعالجة ميكانزم الوعي.

راجع:

الجزء الأول

الجزء الثاني

الجزء الثالث

 

كلمات مفاتيح : فلسفة، منصور العجالي،
لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع