مقالات

د. أبوريمة عبدالله غيث

قطاع النفط الليبي بين مطرقة الرقابة المسبقة وسندان التمويل

أرشيف الكاتب
2023/05/21 على الساعة 18:16

كانت ليبيا تعرف بصندوق الرمال لعدم وجود أية مصادر للدخل فيها، بل كان المجتمع الليبي على رأس أكثر المجتمعات فقرا وجهلا ومرضا.  ومنذ اكتشاف النفط في بداية الستينيات من القرن الماضي واقتصاد البلاد يرتكز على هذا القطاع الحيوي.  

وخلال فترة الستينيات كان استكشاف النفط وانتاجه وتسويقه تقوم به الشركات الأجنبية وفقا للصيغة المعروفة لعقود الامتياز التي كان دور الجانب الليبي فيها مقصورا على مراقبة العمليات النفطية لأن طبيعة هذه العقود، عقود الامتياز، تقتضي أن يقوم صاحب العقد بكامل العمليات النفطية وعلى نفقته ومسؤوليته مقابل دفع الضرائب والاتاوات وبعض الالتزامات الأخرى المنصوص عليها في تلك العقود.

وفي بداية السبعينيات تم تأميم حصص الشركات النفطية العالمية العاملة في البلاد واستبدال عقود الامتياز بعقود مقاسمة الإنتاج وأصبحت العمليات النفطية وإدارتها ونفقاتها وتسويقها تتم بالمشاركة مع الشركات الأجنبية بموجب اتفاقيات المقاسمة التي تطورت حتى وصلت إلى ما يعرف بالجيل الرابع التي تم العمل به منذ 2008م.

وبموجب اتفاقيات المقاسمة الجيل الربع ارتفعت حصص الجانب الليبي من النفط المنتج إلى ما يزيد على 80% في بعض الاتفاقيات كما تضمنت بعض النصوص التي تصب في مصلحة الجانب الليبي ومنها حق الشفعة. وترتب على زيادة حصة المؤسسة الوطنية للنفط في مقاسمة الإنتاج تحملها العبء الأكبر في نفقات التشغيل الأمر الذي جعلها تواجه من حين إلى آخر صعوبات في تمويل خطط وبرامج العمل المعتمدة.

إضافة إلى إشكاليات التمويل واجهت شركات القطاع إشكالية كبيرة أخرى مع الأجهزة الرقابية تتمثل في شرط الرقابة المسبقة على التعاقدات التي تبرمها وعلى الصرف والتي كانت منصوصا عليها في القانون رقم 19 لسنة 2013 في شأن إعادة تنظيم ديوان المحاسبة المعدل.

وحيث أن النصوص المتعلقة بالرقابة المسبقة  قد وضعت معيارا لتحديد العقود التي تخضع لهذا النوع من الرقابة وهو أن تكون إحدى الجهات المذكورة على سبيل الحصر طرفا فيها والتي لم تتضمن الشركات دخل القطاع في نقاشات طويلة ومضنية مع ديوان المحاسبة خلال الفترة من 2013 إلى 2022 تٌوجت أخيرا بصدور فتوى من إدارة القانون التابعة إلى المجلس الأعلى للقضاء تقضي بعدم خضوع العقود التي تبرمها شركات التشغيل بقطاع النفط  للرقابة المسبقة لكنها تخضع للرقابة اللاحقة لأن عقود شركات التشغيل تتسم بطابع الاستعجال مما يعني أن اخضاع عقودها للرقابة المسبقة سيترتب عليه خسائر كبيرة مباشرة وغير مباشرة.

ويبدو أن ديوان المحاسبة قد قبل على مضض فتوى إدارة القانون، إلا أن الإشكالية عادت من جديد بصدور القانون رقم 2 لسنة 2023 بشأن إضافة بعض الأحكام للقانون رقم 20 لسنة 2013 بشأن إنشاء هيئة الرقابة الإدارية والذي تضمن نصوصا جرى نقلها حرفيا من نصوص المواد 24 و25 من القانون رقم 19 لسنة 2013 في شأن إعادة تنظيم ديوان المحاسبة وهي المواد المتعلقة بفرض رقابة مسبقة على التعاقد مقتصرة على جهات حكومية محددة ليست من بينها الشركات.

وبالرغم من صدور تفسير إدارة القانون المشار إليه أعلاه في هذا الموضوع، وهو تفسير ملزم حسب قانونها، بل وأُلحق بفتوى أخرى حديثة من نفس الإدارة، أي بعد صدور القانون رقم 2 لسنة 2023م، انتهت إلى نفس التفسير وهو عدم خضوع الشركات للرقابة المسبقة إلا أن هيئة الرقابة الإدارية الموقرة يبدو أنها لم تأخذ بتفسير إدارة القانون السابق واللاحق للقانون رقم 2 لسنة 2023م الأمر الذي قد يترتب عليه تعطيل تنفيذ بعض العقود ذات الأهمية القصوى في استمرار العمليات النفطية والإنتاج والشحن.

غني عن البيان أنه بعد ثورة فبراير، دخل قطاع النفط اسوة بغيره من القطاعات في سياق التجاذبات السياسية الداخلية والإقليمية ووٌظف في الابتزاز السياسي والإداري والمنافع الشخصية وذلك باستخدامه كورقة ضغط لتحقيق تلك المصالح عن طريق إيقاف الإنتاج في فترات متعاقبة الأمر الذي حرم ليبيا من موارد كبيرة كان بالإمكان توظيفها لإعادة الأعمار والتنمية والازدهار وكان لتوظيف النفط كوسيلة لتحقيق غايات دنيئة آثارا كارثية على الاقتصاد الليبي لا زال يعاني منها حتى اليوم.

ومنذ ذلك الحين امتد الصراع السياسي إلى هذا القطاع الحيوي الذي بات حتى تقلد الوظائف العليا فيه ربما لا يتم وفقا لمعايير موضوعية تستند على الكفاءة وإنما تندرج في إطار معايير أخرى.

كما تأثر القطاع بالمناكفات بين وزارة النفط والمؤسسة الذي وصل حدا غير معقول وذلك لتداخل الصلاحيات بينهما وغموض بعض النصوص المنظمة لهما دون أن يتم الفصل فيها من الجهات المختصة وظلت الوزارة في وادي والمؤسسة في وادي آخر وأصبح القاسم الوحيد المشترك بينهما هو كلمة نفط أو النفط.

اكتشاف النفط في ليبيا لم يكن خيرا كله وإنما يعزى إليه كثيرا من الإخفاقات التي مرت وتمر بها البلاد منذ اكتشافه الأمر الذي طرح التساؤل هل النفط نعمة أم نقمة؟  كان المفترض أن يكون النفط نعمة تساعد في الرخاء والعيش الكريم للمواطن الليبي ودفع عجلة التنمية، غير أن الواقع المعاش على عكس ذلك، بل تحول النفط إلى لعنة بالاعتماد على الاقتصاد الريعي المعوق للتنمية اقتصاد جعل من المجتمع الليبي مجتمع مستهلك يعتمد على الغير في كل الشيء. واللعنة الكبيرة القادمة في المستقبل القريب عندما ينضب النفط أو عندما يفقد النفط أهميته حيث شرعت بالفعل الدول المتقدمة بتأمين مستقبلها عن طريق تأمين احتياجاتها من الطاقة بمصادر بديلة عن النفط مثل الطاقة الشمسية والاتجاه نحو تصنيع المركبات الكهربائية. 

النفط إذا أُحسن استثماره يصبح نعمة وإذا أسيء استخدامه يتحول إلى نقمة، ولعل أبرز مثالين هما النرويج وليبيا التي يتقارب عدد السكان فيهما، استطاعت النرويج بفعل النفط أن تصبح في مقدمة الدول من حيث مستوى المعيشة وتوفير الخدمات والرفاهية والاستقرار السياسي والاقتصادي كما عملت على انشاء صندوق ادخار وطني بثروة هائلة أما ليبيا التي تعتبر واحدة من الدول المنتجة والمصدرة للنفط والمؤسسين لمنظمة أوبك ومنظمة الأوابك فلك أن تنظر إلى وضعها الاقتصادي ومستوى الخدمات وعدم الاستقرار السياسي المرتبط أساسا بسوء استثمار النفط. 

في كتابه "الديموقراطية أولا" ذكر الكاتب السعودي عبد الرحمن منيف أن تدفق الثروة وسهولة الحصول عليها قد أديا إلى خلق فئات اجتماعية عاطلة وطفيلية وأصبحت القيم السائدة لدى هذه الفئات ترتكز على تكديس الثروة، والاقتناء، والاستهلاك، والمظاهر. فنتيجة لتدفق الثروة وزيادة الانفاق الحكومي في مشاريع غير إنتاجية زادت القوة الشرائية وتضخم الجهاز الإداري وأخذت الحكومات تقدم المعونات والمزايا والتي غالبا ما تكون لأشخاص لا يحتاجونها مما يعتبر شكلا من أشكال الرشوة غير المباشرة.. ومن ناحية أخرى استطاع البترودولار شراء بعض الأقلام والمثقفين وتوظيف عقولهم كما استطاع تدجين الخطاب الديني وتوظيفه وهو الخطاب المختبئ تحت عباءة مشايخ النفط الحامي لمصالحهم والمبرر لسلوكهم ولذلك تم توظيف الخطاب الديني والاقلام المأجورة في تمرير سياساتهم وتكميم الافواه المعارضة. ويتبع ذلك انهيار منظومة القيم وانهيار اقتصادي، وأزمات متفاقمة، وانسداد سياسي، وتشظي.

لن يستقيم حال قطاع النفط ما لم تتوافر له المبالغ المالية اللازمة وتحريره من القيود والمعوقات التي لا تتماشى مع طبيعة العمليات النفطية ذات المخاطر العالية والتكاليف الباهظة وابعاده عن التجاذبات السياسية والمحاصصة والابتزاز.  ولن يستقيم وضع الاقتصاد الليبي المشوه ما لم يتم التخطيط لإيجاد بدائل حقيقية عن النفط تنقله من اقتصاد ريعي استهلاكي إلى اقتصاد تنموي يعتمد على عوائد استثمارية تابته ويسهم في تحقيق الاكتفاء الذاتي للدولة وتحويلها من دولة مستهلكة إلى دولة منتجة.

د. أبوريمة عبدالله غيث

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع