مقاومة الاحتلال حق مشروع لكل شعب تعرض للاحتلال الأجنبي يستوي في ذلك حق الشعب الفلسطيني الشقيق وحق أي شعب اخر تعرض وطنه للاحتلال والاغتصاب والغزو من قبل قوى أجنبية أيا كانت. وقد عاش الجيل ألذي أنتمي اليه قصة الاحتلال الصهيوني لفلسطين بكل تفاصيلها.
في بداية عملي العام في حكومة عربية هي حكومة المملكة الليبية المتحدة كما كان اسمها حينها كنت واحدا من المذيعين الليبيين الذين كانوا يقدمون "ركن فلسطين" من دار الاذاعة الليبية. وكان لي شرف تسجيل مقدمة ذلك البرنامج حيث كنت أنادي من وراء الميكروفون: "فلسطين عربية. أرضها أرض عربية. وشعبها شعب عربي“. وكانت الخلفية الموسيقية لذلك البرنامج هي أغنية: "أخي جاوز الظالمون المدى.. فحق الجهاد وحق الغدا..!!“. وكان الهدف من ذلك تأكيد و تسليط الضوء على الظلم الذي وقع في فلسطين وعلى حق الشعب الفلسطيني في الجهاد من أجل تحرير فلسطين.
ثم قدر لي أيضا أن أشاهد عن كثب كيف كانت حكوماتنا العربية تتعامل مع القضية الفلسطينية وكنت قد أصبحت حينها واحدا من كبار المسؤولين في الحكومة الليبية وكيلا لواحدة من أهم الوزارات في الحكومة وهي وزارة شؤون البترول، وذلك خلال مشاركتي في الوفود الليبية الرسمية خلال المؤتمرات واللقاءات العربية قبل و بعد نكبة الخامس من حزيران يونيو ١٩٦٧ ابتداءا بمؤتمر وزراء النفط العرب في بغداء يوم النكبة إلى مؤتمر القمة العربية الرابع في الخرطوم اواخر شهر أغسطس اب ١٩٦٧ وما بينهما من المؤتمرات واللقاءات في الكويت وفي بيروت وفي القاهرة.
كنت أشارك في تلك اللقاءات وأؤدي واجبي كعضو في الوفد الرسمي الليبي ولكنني كنت أتابع ما يجري في القاعات المغلقة وما كان يقال على لسان كبار الشخصيات السياسية العربية الرسمية، كنت أتابع كل ذلك كمواطن عربي يعيش الآلام الفلسطينية كمًا يعيشها ابناء شعبنا الفلسطيني وأتألم لتلك الآلام وأستغرب كثيرا أحيانا مما يقال ومما يجري في تلك القاعات المغلقة على لسان مسؤولين عرب كبار يعلمون ما يعانيه الشعب الفلسطيني ولكنهم يكتفون فقط بالشجب والتنديد ولا يفعلون ما ينبغي فعله لإنقاذ فلسطين وشعبها.!
ثم كان لي شرف المشاركة في مؤتمر وزراء الخارجية العرب في الخرطوم الذي مهد للقمة العربية الرابعة وأعد قراراتها وكان على رأسها لاءات الخرطوم الثلاثة المعروفة: لا صلح ولا تفاوض ولا أعتراف باسرائيل.!! وعودة التضامن العربي كما ينبغي له أن يكون.
وشاهدت عشرات الالاف من ابناء الشعب السوداني الشقيق يستقبلون الرئيس جمال عبدالناصر على طول الطريق من مطار الخرطوم إلى قصر الضيافة وهم يهتفون: الأنصار في خط النار.!!
ثم شاهدت دخول الرئيس جمال عبدالناصر وجلالة الملك فيصل بن عبدالعزيز ال سعود إلى قاعة المؤتمر وهما يسيران معا يدا بيد إعلانا بانتهاء القطيعة وعودة التضامن العربي كما ينبغي له ان يكون.!!
ثم عرفت كيف داس العرب على قرارات قمة الخرطوم واحدا بعد الاخر حيث تم الصلح وتم التفاوض وتم الاعتراف باسرائيل. وأصبح ذلك هو الواقع حيث تم فتح "سفارات اسرائيلة" في العواصم الغربية و فتح الأجواء العربية أمام "الطائرات "الاسرائيلية" وقيام القادة العرب بزيارات رسمية ”لإسرائيل" كان أسوأها تلك التي تمت لتقديم العزاء بعد اغتيال ورحيل أشد الصهاينة على الشعب الفلسطيني وأكثرهم إيذاء له كما للمواطنيين العرب في أكثر من بلد عربي.
كنت أتألم في صمت كمواطن عربي وأنا أشاهد وأتابع كل ذلك وأتذكر وأتحسر على تلك الساعات وتلك الايام التي عشتها وعاشها مسؤولون عرب كبار في مخاض سياسي عربي مفعم بخليط عجيب من اليأس ومن الالم ومن الأمل ومن الوطنية العربية لم يعرف العرب مثلها ربما في تاريخهم كله.!
تذكرت رجالا عربا كبارًا عرفتهم والتقيت بهم خلال الإعداد لقمة الخرطوم وخلالها كانوا يتنافسون من آجل قضية ألعرب الأولى قضية فلسطين والدفاع عنها. تذكرت الدكتور محمد أحمد محجوب رئيس الحكومة السودانية وقتها ووزير خارجيتها. تذكرت السيد عبد العزيز بوتفليقة وزير خارجية الجزائر. تذكرت الدكتور إبراهيم ماخوس وزير خارجية سوريا في تلك الايام. تذكرت الدكتور أحمد العراقي وزير الخارجية المغربي. تذكرت الدكتور أحمد عبدالرزاق البشتي وزير الخارجية الليبي. تذكرت السيد محمود رياض وزير خارجية مصر الصابر وما تحمله من الآلام قبل وفي الخرطوم. تدكرت الرئيس السوداني السيد إسماعيل الأزهري وهو يستقبل الوفود العربية ضيوف السودان ويطالبهم في تأثر وفي صدق ظاهر في كلماته بأن يجعلوا للمصلحة العربية العليا الأولوية في كل قراراتهم وان ينسوا خلافاتهم ويكونوا كالبنيان المرصوص كما قال. تذكرت السيد أحمد الشقيري ممثل فلسطين وهو يصول ويجول في تلك القاعة مدافعا عن فلسطين ومطالبا الدول العربية بدعم القضية الفلسطينية والدفاع عن الشعب الفلسطيني. تذكرت كيف كان لقاء الخرطوم العربي عقب النكسة العربية الكبرى الثانية في الخامس من يونيو ١٩٦٧، تذكرت كيف كان ذلك اللقاء مختلفًا عن كل اللقاءات العربية التي سبقته قبل وبعد. تذكرت كيف كان لقاء الخرطوم يوما من ايام العرب المجيدة بحق. ثم عرفت وشاهدت كيف ألقي بكل ذلك مع الاسف الشديد كما تعودنا ان نقول في "سلة المهملات العربية الصهيونية المشتركة“.!!
إن ما يجري حاليا من العدوان ومن الجرائم في حق الشعب الفلسطيني في غزة وفِي الضفة الغربية المحتلة وما شاهدناه خلال الأيام القليلة الماضية وخلال الاسابيع والأشهر الاخيرة من العدوان الصهيوني الإجرامي ضد المجاهدين الفلسطينيين، إن كل ذلك قد فرض كما أرى واقعًا جديدا على الأرض يتطلب إعادة النظر في المواقف الرسمية العربية من قضية فلسطين.
لقد آن الأوان لتغيير مجرى السياسة الخارجية العربية. لقد آن الأوان لتصحيح الاخطاء العربية. لقد آن الأوان للتوقف عن الشجب بالكلمات الغامضة معدومة الأثر والتحول الى الفعل العربي الجاد دفاعا عن الشرف العربي ودفاعا عن الشرف الفلسطيني. فأين نحن وأين الجامعة العربية وأين القادة العرب اليوم من كل ذلك.!؟
بلغ عدد الشهداء في العدوان الحالي على غزة حتى هذه اللحظة كما تقول وسائل الإعلام ٣١ شهيدا وما يقرب من ١٠٠ مصابًا. وهي أرقام كبيرة بكل المقاييس ولابد ان تحرك الضمير العربي الرسمي كما تحرك الضمير الفلسطيني والضمير العربي العام المتابع لما يجري في الأراضي الفلسطينية المحتلة.!!
لو خلصت النوايا وتم التخلي عن بيانات الشجب والإدانة وعاد العرب الى تنفيذ قرارات القمة العربية الرابعة في الخرطوم وألغوا كل أنواع ما يسمى بالتطبيع مع العدو الصهيوني بجميع أشكاله وصوره واستخدم العرب ما يملكونه من الإمكانيات المادية والسياسية استخدامًا صحيحا فإنه سيكون بالإمكان تقديم الدعم الحقيقي والمطلوب للشعب الفلسطيني يتجاوز مجرد الشجب والتنديد.!!
إن أقوى سلاح يملكه العرب اليوم هو سلاح النفط. وقد أزدادت قوة هذا السلاح الرهيب الان بسبب الأحداث الجارية في اوكرانيا والعقوبات الاقتصادية المفروضة على روسيا وعلى رأسها توقف صادرات روسيا من النفط و الغاز إلى اوروبا والولايات المتحدة.
يبلغ متوسط صادرات البترول العربي من النفط الخام وحده اليوم ما يزيد عن خمسة وعشرين مليون برميلًا في اليوم بإلاضافة الى الصادرات العربية من الغاز المسال ومن المنتجات البترولية.
ولكم أن تتصوروا ما يمكن إن يحدثه توقف شحن النفط العربي ومشتقاته والغاز المسال ما لم يعترف العالم بحقوق الشعب الفلسطيني في أرضه والعودة السلمية لكل المهاجرين الاسرائيليين الى البلاد التي قدموا منها ولا يبقى في.فلسطين إلا من كأن مقيما في فلسطين قبل الاحتلال الصهيوني في ١٥ مايو من عام ١٩٤٨ ليكون مواطنا في دولة فلسطين وليس في ”اسرائيل".
نعلم أن هذه الصواريخ الفلسطينية محلية الصنع التي يتم إطلاقها من قطاع غزة لا ترقى الى مستوى الترسانة العسكرية الصهيونية ذات التقنية العالية والقدرة الشديدة على التدمير وزيادة عدد الشهداء والجرحى من أبناء الشعب الفلسطيني ولكننا نعلم أيضا أن تلك الصواريخ الفلسطينية تزرع الخوف والرعب في قلوب المغتصبين لفلسطين خصوصا وأن تلك الصواريخ أصبحت قادرة على الوصول الى تل ابيب والقدس وتحدي ما يسمى بالقبة الحديدية وبث الرعب والخوف في نفوس المقيمين فيها بمن فيهم رئيسهم نتنياهو وجيشه وحكومته.
ولكن لا ينبغي على الدول العربية مجرد متابعة ما تبثه وسائل الاعلام العربية وغير العربية حول الحرب الاسرائيلية العدوانية على الشعب الفلسطيني. والاستمرار في إصدار بيانات الاستنكار والتنديد. بل يجب على الأمين العام للجامعة العربية ان يبادر بالإتصال بالقادة العرب لعقد قمة عربية عاجلة لدعم المقاومة الفلسطينية الدعم الحقيقي والمطلوب والدفاع عن الشعب الفلسطيني بكل الوسائل المتاحة بما في ذلك النظر في الوقف التام لكل الصادرات العربية من النفط والغاز حتى يسترد الشعب الفلسطيني وطنه المسلوب. ويتوقف العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني. وبما في ذلك توفير ما يلزم لإعادة اعمار غزة ورفح ومدن الضفة الغربية التي تعرضت وتتعرض للدمار على يد العدو الصهيوني.
ولعله من المناسب في ختام هذا الحديث المؤلم إن نذكر الجميع بما جاء في خطبة الحجاج بن يوسف الثقفي حين ولي أمر العراق سنة ٧٥ هجرية:
قد شمّرتْ عن ساقها فشُدّوا
وجدَّتِ الحربُ بكم فجِدّوا
والقوس فيها وتَـرٌ عُرُدُّ
مِثلُ ذِراع البَكرِ أو أشدُّ
لا بدَّ مما ليس منه بُـدُّ
نعم وأجل أيها العرب. لابد مما ليس منه بد.. وهو تحرير فلسطين ونصرة الشعب الفلسطيني والدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة لدى الأمة العربية اليوم. اللهم هل بلغت. اللهم فاشهد. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
12 مايو 2023