مقالات

منصور العجالي

آفاق الفلسفة في الألفية الثالثة (3)

أرشيف الكاتب
2023/05/20 على الساعة 20:34

جون سيرل: آفاق الفلسفة في الألفية الثالثة (3)

ترجمة/ منصور العجالي

تتناول فلسفة اللغة بعض السمات العامة في اللغة مثل الحقيقة والمعنى بينما تستخدم الفلسفة اللغوية أساليب التحليل اللغوي لحل المسائل أو المشاكل التقليدية. 

وهكذا يتبين على سبيل المثال أن المشكلة التي ذكرتها سابقا المتعلقة بطبيعة العلاقة السببية قد تمت معالجتها من قبل فلاسفة القرن العشرين كمسألة لتحليل استخدام مفهوم السببية في العلم والحياة . ما المقصود تحديدا من قولنا أن (س) تسبب في ظهور (ص) وهل بإمكاننا التوصل إلى تحليل العلاقة السببية بسمات أساسية أفضل؟. هذا الأمر لم يعتبره كثير من فلاسفة القرن العشرين تغييرا جذريا في الفلسفة، إنما مجرد محاولة لإيجاد نماذج وأطر تحليلية كانت موجودة أصلا في الفلسفة على نحو أكثر وضوحا ودقة. وهكذا فإن هيوم حاول تحليل مفهوم السببية باختبار الأفكار المتعلقة بالسببية في ذهنه. وكذلك فعل فيلسوف القرن العشرين مواصلا التحليل، لكنه عوضا عن أن يحلل الأفكار المتعلقة بالسببية في ذهنه أخذ يحلل اللغة التي نستخدمها في تقرير حقائق سببية حول العالم.

إنني لا أرغب في إعطاء انطباع مفاده أن الفلسفة أصبحت موضوعا موحدا. هناك الكثير من المدارس والأساليب والمقاربات في الفلسفة، وهذه الفلسفة التي وصفتها سابقا غالبا ما تعرف بـ (الفلسفة التحليلية). إنها ليست الطريقة الوحيدة لمقاربة الفلسفة، لكنه ما من شك في أنها أصبحت الطريقة السائدة لمقاربة الفلسفة، والاتجاه الغالب في أبرز الجامعات في بريطانيا وأمريكيا وبعض البلدان الأخرى الناطقة بالإنجليزية. حتما هناك اتجاهات ومقاربات أخرى مثل الوجودية والظاهراتية. تعد الظاهراتية وما تبعها من مناهج فلسفية أكثر تأثيرا في بعض البلدان الأوروبية خاصة فرنسا.

ليس المقام هنا مقام شرح الفروق والاختلافات بين ما عرف بالفلسفة في القارة الأوروبية والفلسفة التحليلية، لكن أحد أبرز الاختلافات الهامة التي يتوخى هذا المقال إيضاحها هو أن الفلاسفة التحليليين أكثر اهتماما وانشغالا بالعلم، فهم يرون أن الفلسفة تهدف تحديدا للوصول إلى نمط الحقيقة الموضوعية الذي نجده في العلم. غير أنني من خلال معرفتي وتجربتي أجد الفلاسفة الأوروبيين -مع بعض الاستثناءات المعروفة- يميلون لاعتبار أن الفلسفة لا تشابه العلوم، وهي أقرب لأن تكون فرعا من الأدب أو أنها على الأقل أكثر التحاما بدراسة الأدب والنظريات الأدبية. 

هناك سمة أخرى لفلسفة القرن العشرين ينبغي ذكرها هنا. لقد قلت أن الفلاسفة في القرن العشرين أظهروا تعلقا خاصا باللغة لكن دراسة اللغة كحقل مستقل شهدت تطورا وتحديثا هاما مع نعوم تشومسكي وغيره منذ بداية أواخر الخمسينات. لقد كانت الإضافة الرئيسية ولازالت في طرح تشومسكي تتعلق بتصوره لنحو اللغات الطبيعية. ما هي القواعد المحددة التي يستخدمها البشر لبناء جمل في اللغات الطبيعية المختلفة؟ وما هي القواعد المشتركة بين كل اللغات الطبيعية، قواعد" النحو الكوني“؟.

غير أن الفلاسفة كانوا دائما أكثر اهتماما بعلم الدلالة و علم البرجماتية أو التداولية منهم بعلم النحو. ويُعنى علم الدلالة وفق التعريف السائد بتناول شروط الحقيقة في الجمل: أي تحت أي شروط تكون الجملة صادقة أم كاذبة؟ وأما علم البرجماتية فهو العلم الذي يعنى بدراسة استخدام الجمل في سياقها البشري الفعلي، كاستخدام الجمل لإعطاء الأوامر أو لتقرير حقائق أو إعطاء وعود... الخ.

يبدو لكثير من فلاسفة اللغة -أنا من بينهم- أنه علينا السعي للتوصل لوجهة نظر موحدة فيما يخص نحو تشومسكي من خلال الأبحاث التي تواصلت في علمي الدلالة و البرجماتية. أعتقد أن هذا الجهد أثبت فشله وإخفاقه. ورغم أن تشومسكي استطاع أن يطور موضوع اللسانيات إلا أن النتائج الثابتة التي يمكن الاعتماد عليها عبر هذا التطوير ظلت وحتى نهاية هذا القرن غير واضحة لنا. أستطيع القول أنه لا توجد قاعدة واحدة بإمكان كل اللسانيين أو حتى السواد الأعظم منهم الاتفاق على كونها تصلح أن تكون قاعدة. 

وصل التفاؤل في استخدام المنطق واللغة كأدوات جوهرية أولى للفلسفة أقصى مداه في منتصف القرن العشرين، تحديدا في العقود التي عقبت الحرب العالمية الثانية. وقد بدا لي بالفعل أن قدرا كبيرا من النجاح تحقق خلال تلك العقود. كان الكثير من التفاؤل والثقة بالنفس قد استمدا من الاعتقاد بالتوصل إلى تمييزين لسانيين:

> أولا/ التمييز بين القضايا التحليلية والقضايا التركيبية. 

> ثانيا/ التمييز بين الأقوال الوصفية والأقوال التقييمية.

إذا قبلت هذين التمييزين في صيغتهما الخالصة- وهو الأمر الذي يقبله كثير من الفلاسفة- تبين لك كيف يبدو أنهما يعملان على تعريف طبيعة الفلسفة بل وتحديد برنامجها البحثي الخاص.

يتعلق التمييز الأول بالجمل التحليلية والجمل التركيبية أي أنه يميز بين الجمل من حيث كونها صادقة أو كاذبة بموجب التعريف كالجمل في المنطق والرياضيات وجمل الفهم المشترك التوتولوجية مثل: (كل العزاب غير متزوجين) وبين الجمل التي تصدق وتكذب بموجب حقيقتها في العالم الخارجي كالجمل في العلوم الطبيعية وكالجمل المتعلقة بحقائق محتملة الحدوث في العالم الخارجي مثل: (كل العزاب يشربون الجعة). وأما التمييز الثاني فيعنى بالتمييز بين الجمل الوصفية والجمل التقييمية، أي بين الجمل التي تصف أوضاعا في العالم الخارجي والتي تصدق وتكذب بموجب معناها اللفظي، وتلك التي تترجم مشاعرنا ومواقفنا وتقييماتنا والتي لا تخضع وفق النظرية لمبدأ الصدق والكذب. وللتدليل على الجملة الوصفية نمثل بقولنا: (حوادث جرائم العنف ارتفعت في العقد الأخير) ونمثل للجملة التقييمية بقولنا: (من الخطأ أن يسلك المرء سلوكا إجراميا). النمط الوصفي يشمل الجمل التحليلية والتركيبية.

وهكذا يتضح لنا أن من يقبلون بهذه النظرية يعتبرون الجمل في العلوم والرياضيات جملا وصفية لأنها تصف مسائل ذات حقيقة موضوعية، بينما يعتبرون الجمل في علم الأخلاق وعلم الجمال جملا تقييمية لأنها تستخدم للتعبير عن المشاعر والمواقف وتوجيه سلوكنا أكثر منها لتقرير حقائق.

ويرى هؤلاء الذين يقبلون بهذه التمييزات وهم يمثلون التيار السائد في العقود الوسطى من القرن العشرين أن هذه التمييزات قد عرّفت طبيعة الفلسفة. ينشد الفلاسفة الحقيقة ولهذا السبب هم غير معنيين باتخاذ تقييمات من أي نوع. ليس عمل الفيلسوف أن يخبر الناس كيف يعيشون. لكن الحقائق الفلسفية ليست حقائق تركيبية محتملة من النمط الذي نجده في أي من العلوم الطبيعية. إنها بالضرورة حقائق تحليلية حول المفاهيم. فمهمة الفيلسوف كمهمة المنطقي والرياضي تماما تكمن في تقرير الحقائق التحليلية الضرورية. إنها حقائق مفاهيمية تفسر المفاهيم الفلسفية المحيرة مثل السببية والمعرفة والعدالة والحقيقة نفسها. لطالما تم فهم الفلسفة وتعريفها على أنها تحليل مفاهيمي، ولقد استمد الكثير من التفاؤل في العقود الوسطى من القرن العشرين إذ كان هناك اعتقاد راسخ بأنه قد صار للفلسفة حينئذ مشروع بحثي محكم التعريف، وأيضا أساليب ومناهج محكمة التعريف توصلها إلى النتائج.

لقد تضعضعت الثقة الآن في هذه التمييزات. لم تعد اللغة تبدو سهلة ومنتظمة بحيث تمكننا من تقسيم الملفوظات فيها إلى هذه التصنيفات البسيطة من الجمل التحليلية والتركيبية والوصفية والتقييمية. وذلك راجع جزئيا لفقد الثقة في كفاية هذه التمييزات كما غاب التفاؤل العام إزاء إمكانية حل كل أو حتى أغلب المسائل والمشاكل الفلسفية من خلال استخدام أساليب ومناهج التحليل المفاهيمي. وكانت النتيجة أن غدت الفلسفة أقل ثقة بنفسها مما كانت عليه في الخمسينات والستينات، ولكنها باتت أكثر أهمية وجاذبية. ذلك لأن كل الأسئلة التي كان ينظر إليها على أساس أنها ليست أسئلة فلسفية حين كان التحليل اللغوي في أوجّه باتت اليوم أسئلة ممكنة، وهو الأمر الذي سأعرض له تباعا.

يتبع....

ترجمة: منصور العجالي

المراجع:

1- John Rawls, A Theory of Justice (Cambridge: Harvard University Press 1972). جون رولز، نظرية العدالة (كامبريدج: دار نشر جامعة هارفرد 1972).

2- Searle J.R., Minds, Brains and Programs, Behavioral and Brain Sciences, 1980, Vol.3,pp.417-457 جي. آر. سيرل، العقول، الأدمغة والبرامج، علوم السلوك والدماغ،1980، مجلد 3، ص 457-417.

3- Searle, J. R., The Construction of Social Reality, New York: The Free Press, c. 1995. جي. آر. سيرل، بناء الواقع الاجتماعي، فري بريس، سي. 1995.

4- Thomas Kuhn, Structure of Scientific Revolution (Chicago: University OF Chicago Press 1962). توماس كون، بنية الثورة العلمية (شيكاغو: منشورات جامعة شيكاغو 1962).

* جون سيرل (1932): أستاذ فلسفة اللغة والعقل بجامعة كاليفورنيا- بركلي. اقترن اسمه مع أوستن بنظرية أفعال الكلام وهو يعد من أبرز فلاسفة اللغة المعاصرين وإن كانت انشغالا ته الراهنة تنحاز لفلسفة العقل ومعالجة ميكانزم الوعي.

راجع:

> الجزء الأول

> الجزء الثاني

 

كلمات مفاتيح : فلسفة، منصور العجالي،
لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع