مقالات

صلاح الحداد

الفيل والهوية الليبية (1)

أرشيف الكاتب
2023/05/20 على الساعة 21:02

كيف صنع "فيل" الهوية الليبية.. أو كيف صار الليبيون ليبيين؟ 

الحلقة الأولى من كتاب (من نحن؟)  

تشكّل الهوية "العربية" عشية ظهور الإسلام: 

تاريخيا، ينطلق أصل التصور الهوياتي العربي من سلسلة من الأحداث التاريخية والعلاقات المتضاربة في القرن السادس الميلادي مع بلاد الحبشة، أرض السود: (أ) غزو الحبشة لليمن؛ (ب) طلب الأمير الحميري سيف بن ذي يزن من الملك الفارسي خسرو المساعدة في التغلب على الأحباش؛ (ج) حملة أبرهة "أصحاب الفيل" لتدمير الكعبة؛ (د) هجرة المسلمين الأوائل إلى الحبشة. 

كل هذه الأحداث ساهمت في المتخيل والتصور العربي. ما يجدر ذكره هنا هو أنه ليس ضروريا أن تكون هذه الأحداث التاريخية المشار إليها قد وقعت بالفعل، لأن المؤرخين المسلمين الذين دونوا كتب التاريخ لاحقا في العصر العباسي (زهاء 250 سنة) تحت إشراف السلطة الحاكمة؛ لتلفيق سردية تأسيسية كبرى، لا تخرج حالاتهم عن ثلاث: (1) الاعتقاد بأن ما دونوه قد وقع بالفعل، (2) وَهْم الاعتقاد بأن ما دونوه  قد وقع فعلا، (3) دفع القارئ إلى الاعتقاد بأن ما دونوه قد حدث.

من المثير للاهتمام هنا، أن علاقات العرب العدائية مع الأفارقة السود تشكلت بشكل خاص في هذه اللحظة التاريخية المبكرة. ما تشير إليه هذه الأحداث التاريخية، هو أن تكوين الهويات الثقافية يعتمد أساسا على ظهور الوعي بدائرتين من دوائر الهوية المتخيلة: (1) السمات المميزة لكل جماعة والقواسم المشتركة المماثلة لكل منها؛ (2) اختلافات هذه الجماعات عن بعضها البعض فيما يتعلق باللون والعرق. سوف يظهر هذا واضحا عند العرب مع بدايات عصر التدوين، حين اكتملت صناعة الهوية بسرديات التاريخ الكبرى. 

يسلط هذا النقاش الضوء على أن الهوية -بادئ ذي بدء- ليست كيانًا موضوعيًا ولا واقعًا ثابتًا، بل إن الهوية تخلق واقعًا متخيلًا، يتم الحصول عليه من خلال عملية معقدة يسميها إدوارد سعيد بـ"التلفيق" (سعيد، 2000: 175-192) وفي مقام آخر بـ"الاختراع" (سعيد، 2003: 332) ، بينما يسميها بعض علماء الأنثروبولوجيا بـ"التكوين الرمزي للماضي". (كوهين، 2001: 97-8). 

بناءً على هذه الميول، غالبًا ما تميل الأمم لاختلاق أحداث تاريخية معينة، تُعرف بـ"السرديات الكبرى"، تكون أساسا لإثبات هويتها. التاريخ حافل بمثل هذه الأمثلة، من الإسرائيليين إلى العرب، ومن الأوروبيين إلى الأمريكيين. ومن أبرز الأمثلة، اختلاق تاريخ قديم لإسرائيل بعد إسكات التاريخ الكنعاني الفلسطيني. يجادل المؤلف، Keith W. Whitelam، الذي يسمي هذه العملية أيضًا بـ"الاختراع"، بأن "هذه الاختراعات أو التلفيقات عملت على إسكات واستبعاد تاريخ فلسطين القديمة. في هذه المرحلة، كانت إسرائيل هي فلسطين: فلسطين وتاريخها، الزمان والمكان الفلسطيني، ابتلعته إسرائيل بالكامل". (Whitelam، 2003101:). بالفعل، اختلق الأوروبيون أيضًا تاريخ الحضارة اليونانية والرومانية بقطع جذورهما الأفرو آسيوية ، وبدلاً من ذلك جعلوها أوروبية بيضاء خالصة.  في هذا السياق، يسلط المؤلف Martin Bernal (1987) المزيد من الضوء حول كيف ولماذا ومتى بدأت هذه أكبر عملية تزوير في التاريخ البشري في كتابه الموسوم بـ(أثينا السوداء: الجذور الأفروآسيوية للحضارة الكلاسيكية؛ المجلد الأول: صناعة اليونان القديمة 1785-1985). في كتابي المعنون بـ(الوهم العظيم، 2018) قدمتُ مثالاً آخر ساطعا على كيفية اختلاق الأمريكيين البيض لتاريخهم:

يقوم "التاريخ" الأمريكي، على سبيل المثال، على كذبة كبرى، لا تخبرنا كتب الأطفال ولا الكبار أن الولايات المتحدة قد نشأت عن طريق الغزو والسطو وسرقة الأراضي والإبادة الجماعية والعبودية؛ وهي في تأسيسها على هذا النحو تكون دولة "التفوق الأبيض" بامتياز. لكن بدلا من ذلك، تختلق كتب التاريخ الأمريكية لا سيما (mainstream textbooks)، التي تدرس في المدارس والكليات والجامعات سردية أخرى هي سردية تعتبر فيها "أمريكا" أرضا تجسد إعلان الاستقلال والحرية والعدالة والمساواة. (الحداد، 2018: 21)

تتضمن هذه العملية إخفاء عامل التلفيق من أجل القضاء على كل فرص الاعتقاد بأنها من صنع الإنسان، كانت قد تشكلت من خياله في لحظة تاريخية معينة. يساعد في إخفاء عامل التلفيق جلب المقدس إلى حلبة التاريخ؛ ليتحول التاريخ إلى إيمان وعقيدة. لكن صنع الكبسولة هذه لا يقفل بشكل دائم هوية الجماعة؛ لأن الهوية الثقافية ليست أمرا ثابتًا على الإطلاق، فهي لم تصنع خارج التاريخ والثقافة والسياسة. الهوية دائمًا ما يعتمد في بنائها على الذاكرة، والخيال، والسرد، والأسطورة، لذلك ثمة دائمًا ما تكون سياسة هوية، وسياسة موقف (Hall, 1994:226). 

إن هذا التشخيص للهويات قريب من تشخيص ابن خلدون للعصبية. فـ"العصبية"، حسب قوله، تتكون من ارتباط بالنسب أو ما تعنيه من حيث الولاء والتحالف والقرابة. ولا يقصد ابن خلدون هنا أن النسب هو رباط الدم أو السلالة؛ لأن النسب في رأيه "أمر وهميّ لا حقيقة له ونفعه إنّما هو في هذه الوصلة والالتحام"(ابن خلدون ، 1981: 161). ولو قمنا بإحداث تغيير طفيف وذلك بإحلال  مفهوم "الهوية" محل مصطلح "النسب" الخلدوني، فيمكننا الاتفاق مع ابن خلدون على أن الهوية هي مسألة وهمية وخيالية، بمعنى أنها لا تستند بالضرورة إلى أسس موضوعية، مثل روابط قرابة النسب والدم، بل بالأحرى. بناءً على أوجه التشابه والاختلاف المتخيلة فيما يتعلق بالآخرين. هذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي Bourdieu بـ"خلق وهم التماسك العالمي". (Bourdieu، 1991: 141)؛ لأن الهوية هي وهم خاضع لظروف تاريخية وسياسية. يشرح ابن خلدون بكلماته الخاصة أنه "وما زالت الأنساب تسقط من شعب إلى شعب ويلتحم قوم بآخرين في الجاهلية والإسلام والعرب والعجم" (ابن خلدون، 1981: 163). 

ونظرًا لأن الأجناس المختلطة هي ظاهرة طبيعية في تاريخ البشرية، فقد قام عالم الاجتماع الألماني ماكس ويبر بتفكيك النماذج العرقية الصارمة من خلال التأكيد على أن القرابة رمزية مصطنعة وليست بيولوجية، وأن مفاهيم الأصل المشترك بين الناس هي نتيجة للعمل السياسي الجماعي . (Raum،1995: 76). أعاد ويبر تعريف المجموعات العرقية باسم تلك الجماعات البشرية، التي تفكر في اعتقاد ذاتي في أصلها المشترك - بسبب أوجه التشابه في النوع المادي أو العادات أو كليهما، أو بسبب ذكريات الاستعمار والهجرة، بطريقة تجعل هذا الاعتقاد مهمًا لاستمرار القرابات ذات العلاقة غير المجتمعية، بغض النظر عن وجود علاقة دم أم لا (المرجع نفسه ، 76). أكد ويبر أيضا أن الجماعات العرقية كانت مصطنعة (أي مبنية اجتماعياً) لثلاثة أسباب: أولاً، الاستناد إلى اعتقاد عاطفي في مجتمع مشترك. ثانيًا، هذا الاعتقاد في مجتمع مشترك لم يخلق الجماعة، بل الجماعة هي التي خلقت هذا الاعتقاد الزائف. ثالثًا، ينتج تكوين الجماعة بسبب الدافع إلى احتكار السلطة والمكانة الاجتماعية المرموقة (المرجع نفسه ، 73-87). إن رفض ويبر للنموذج التقليدي للعرق كهوية ثابتة قد مكنه من التساؤل عن كيفية تشكيل الجماعات العرقية ولماذا. وهكذا تبدأ دراسة العرق الواحد بتحليل التكوينات والتغييرات في الحدود الفاصلة بين تلك الجماعة وجيرانها، مما يؤدي إلى تفاعلات بين جماعات مختلفة. 

ومع ذلك، ووفقًا لهذه الحجة، فإن الأساس الذي تقوم عليه القرابة بين الجماعات هو أساس وهمي، مما يجعل هذه القرابة قريبة مما يسميه بنديكت أندرسون "المجتمعات المتخيلة"، حيث "لن يعرف أبدا حتى أعضاء أصغر الأمم غالبية الأعضاء الآخرين الذين يقتسمون معهم الوطن، أو لقائهم، أو حتى السماع بهم، ولكن تعشعش في ذهن كل واحد من هؤلاء الأعضاء صورة رومانسية عن شركاء الوطن المزعومين". (Anderson، 2006: 6) في هذا السياق، يرى أندرسون الإثنية على أنها بناء فكري عاطفي وجداني ورومانسي، حيث تتميز الجماعات بالطريقة أو الأسلوب الذي تتخيله به. تأخذ الجماعات سمات موضوعية مثل اللغة أو الدين المشترك وتتخيلها على أنها "دليل أصيل" على تراث مشترك ، وذلك لإثبات أن جماعة معينة هي عرق "حقيقي ونقي" (المرجع نفسه ، 14-15).

وأيا كان الأمر، فإنه إذا كان هذا هو الحال، فما هي إذن العوامل التي يجب فحصها لمعرفة كيف ربط الناس في الإسلام المبكر هويتهم بالعرق العربي؟. كيف اخترع الخيال العربي سردية "الأمة العربية الواحدة". هذه الأسئلة ستقودنا بالضرورة إلى معرفة كيف صنع "الفيل" الهوية الليبية أو كيف صار الليبيون ليبيين. 

صلاح الحداد

فصل مختصر من كتابي بعنوان "من نحن؟" سيصدر قريبا.

كلمات مفاتيح : صلاح الحداد،
لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع