"أم الجمت فاك الخطوب وحرمت. .. اذنيك حين تخاطب الاصغاء"
الثورة فعل، وفعل قوى للغايه، والشعوب التى تجتاحها الثوراة ينقلب حالها رأسا على عقب، فأما الى الامام سر، واما الخلف در. وهكذا.
والليبيون شعب من هذه الشعوب، ابتلاها الله بثورة انتظروها نصف قرن او اقل قليلا.والابتلاء نعمة من الله، لذلك كان الاحتفال بيوم تحرير طرابلس مميزا فى مناسبتة الاولى وسنته الاولى. أنا وكثير غيرى لابد يتذكرون تلك الساعه التى توقفت فيها الطائرة الحاملة للوفد القادم من بنغازى، رئيس المجلس الوطنى الانتقالى واعضائه ومرافقيه والترحيب الذى لقيه من المنتظرين فى المطار، بعضهم من الفرحة او ماكان فى الجراب كما تبين فيما بعد، لم ينتظر حتى نزول الاعضاء وانما صعد الى الطائره. كانت هناك عدسات وفضائيات وصحفيون وصحفيات وعالم لااول له ولاآخر. والعين الخبيرة لابد وانها لاحظت كيف تدافع البعض على المقدمة على سلم الطائرة وهم نازلون لدرجة ان تم الدفع برئيس المجلس، وهو رجل على قد حاله ولاخبرة له فى مثل هذه الشكليات كما يبدو، دفعوه الى الجنب او حتى الى الخلف لولا الحشمه. كان هناك السيد الكيب بجسمه الضخم يغطى المستشار فاصبح لايكاد يبين. الواقع ان التدافع على الظهور كان سمة الاستقبال وكان مؤشرا بأن النوايا ليست صافية على كل حال.
لابأس فرح الليبيون بمن جاء وارتفعت الاعلام فى كل مكان يمكن ان يحملها وتصل اليه. ورأينا الاكواب والشالات والشعارات ملصقة على السيارات وعالم من الفرح كان مستحقا. فالثورة ازالت كابوسا حلم الليبيون وحتى الجيران بازالته منذ زمن طويل. وكان الاحتفال وكان شعار "ارفع راسك فوق، انت ليبى حر" وكان التبشير بالترخيص للزواج باربع، وكان الخطاب بداية خيبة الامال. وكأنما الثورة جاءت لتحقيق هذا الحلم: "الزواج باربع". اما رفع الرأس الى فوق فاصبح خفض الرأس الى الادنى.
على كل حال لم يهتم الليبيون واستمروا فى افراحهم، فتغير سلوكهم تجاه البعض فى تعاون ومرح وتقبل واحلام بمستقبل زاهر ينسيهم الايام العجاف فى جنة الله على الارض كما كانت تسمى الجماهيرية العظمى.
ولما كانت القاعدة العلميه التى تعلمناها زمان فى المدارس تقول "لكل فعل رد فعل، مساو له فى القوه، ومضاد له فى الاتجاه" كان لابد ان يكون للثورة الليبة رد فعل معاكس وهو اصطلاح اطلق عليه "الثورة المضاده". هو اصطلاح معروف ومتناول ويكثر استخدامه فى مناطق ثورات الربيع العربى وعليه فهو اصطلاح مفهوم ولكنه بتفصيله ماذا يعنى وكيف يتم تحديده لنعرف انما ما يجرى فى بلد ما اجتاحته ثوره، هو فعل ثورة مضاده.
وهنا... لايجاد تحديد دقيق رأيت ان استعين "بالنت" وهكذا كان. ومن حسن الحظ وجدت كاتبا مصريا كتب موضوعا بهذا العنوان كذلك وفيه يشرح مفهوم الثورة المضاده... يقول وانا اقتبس:
((الثورة المضاده هو المصطلح الادق فى وصف كل من يقف ضد مبادىْ الثوره. ولكن ماهى مبادىْ الثوره اساس؟ اذ بدت لكثير من الناس معانى غير مفهومه. وانا ارى ان المبادىء واضحه، وثابته، وهى شعار الهدم، "الشعب يريد اسقاط النظام" النظام بفساده وباحتكار ثرواته وبظلمه وقمعه وانتهاك كرامة المواطن. وشعار البناء "عيش وحريه وعداله اجتماعيه وكرامه انسانيه" وهى مبادىْ يقوم عليها الوطن المأمول... والثورة المضاده تتمثل فى كل مستفيد من عدم تطبيق القانون... وهو مبدأ استبدادى بامتياز، فهو يعلى من المحسوبيه ويمكن لاهل الثقه ويقصى اهل الخبره واصحاب الرأى، ويجعل اسافل المجتمع والجهلاء هم علية القوم. الثورة المضاده هى استخدام القوه للحصول على غير حقك بالسلاح والعنف وليس بقوة القانون. الثورة المضاده هى التجارة فى اقوات الشعب واحتكارها دون مراقبة او محاسبه. الثورة المضاده هى الحرص الدائم على تجهيل الشعب والهائه بتوافه الامور حتى ينشغل عن محاسبة من ظلموه واهدروا كرامته. هى التفريط فى استقلال الوطن للحصول على مكاسب ماديه ومن اجل البقاء فى السلطة والمحافظة عليها مقابل عدم المساءله. هى دويلات داخل الدوله لاتخضع للقوانين العاديه وانما تحركاتها وامتيازاتهاواعفاءاتها كلها استثناءات وخرق للقوانين. هى الحد من التفكير والتعبير عن الرأى بأسم الدين او باسم الحفاظ على النظام السياسى))... واخيرا وباختصار يقول: ((هى كل ما يقف ومن يقف ضد تمكين الشعب من ادواته وترواته وقدراته)). والى هنا ينتهى الاقتباس.
ولسائل ان يسأل، اليس هذا تماما، بالباء والتاء، كما نقول. هو ماهو واقع فى بلادنا منذ ثوره التحرير حتى اليوم؟ واظنه لاحاجة لليبيين للمراجعه فهم او السواد الاعظم منهم، الذين لم يسرقوا ولم يحكموا ولم يتغولوا ولم يكونوا اعضاء فى مليشيات او عصابات او تجمعات حزبية كانت ام قبليه وحتى لم يكونوا ثوارا واصبحوا من اصحاب العقارات والعمارات والمزارع يتنقلون بين ربوع العالم، او من الذين يهربون المال والنفط والبنزين والبضائع والاغنام، رزقهم حرام وأكلهم زقام، ليبيون عاديون سدت امامهم السبل ويكفى للدلالة على الحالة التى وصولوا اليها تلك الصور التى تعرضها مواقع التواصل الاجتماعى لمساكين كانوا اعزاء وكراما، وهم يفترشون الحصى ودرج المصارف الموصده انتظارا للحصول على جزء من اموالهم وحقوقهم. ام تلك العائلات التى تبحث فى القمامه عن مايسد الرمق. الى هذا الحد اوصلت الثورة المضاده بعناصرها المتعدده شعب ليبيا المسكين.
اليس حقيقة وواقعا ان هؤلاء اصبحوا يتمنون يوما من ايام ملك الملوك وابنائه سيف والساعدى ومحمد والمعتصم و الكابتن هانيبال والدكتوره عائشه وحتى السيده صفيه. اليسوا يتمنون يوما يعود فيه البغدادى و الصافى والزوى ودورده واحمد ابراهيم والشيخ الزناتى وشلغم وابجاد، واللجان الثوريه بما فيها من سوء والشعبيه وغير ذلك من مخلفات عهد قد اسقط لكنه يبدو الان انه ارحم من فوضى لاأول لها ولا آخر. وهوان مابعده هوان.
يجب ان يفهم هؤلاء الذين انضموا الى الثورة المضاده، بدافع من رغباتهم الحسية والمادية أنهم هم قصارى النظر. هم اصطفوا مع الجانب الخطأ. اصحاب الثورة المضاده الحقيقيون اصبحوا يتحركون على الملآْ ويمنون نفسهم بامانى العوده المظفره للحكم، بعد ان اختفوا لبعض من الشهور، فها هو الصافى والزائدى وحتى الزوى وهو ينادى بمبدء جديد "لا لفبراير ولا لسبتمبر". وآخرون هم ملىء السمع والبصر فى قراهم وبين نجوعهم ووسط قبائلهم تعظم من قيمتهم وكأنهم لم يكونوا الاداة التى استعملها النظام السابق لاذلالهم وعملوا المستحيل وقدموا آلاف الشهداءلآسقاطه والا حتفال بذلك فى شوراع مدنهم وقراهم. هؤلاء هو الثورة المضاده، من حقهم بالطبع ان يكونوا كذلك فقد ضاعت الامتيازات وضاع الجاه والسلطه حتى وان كانت سلطة معروف شكلها، ومن لم يعرف فليقرأ كتب السيد عبد الرحمن شلقم متعه الله بالصحه.
الواقع المر هو ان الثورة الليبية انتهت فعلا لاقولا... مايجرى فى بنغازى ليس ثوره ولاما يجرى فى درنه ولاحتى فى سرت. هذه ارتدادات الثوره وقد تطيح بها كما تفعل ارتدادات الزلازل بالبيوت الآيلة للسقوط. مع كل اسف فقد فرط الليبيون فى ثورتهم فاعتلاها اصحاب الثورة المضاده وهاهى النتائج تبدو مريرة كل يوم. ولعل من الامثلة مايحدث فى بنغازى المسكينه التى كانت قرية قبل انقلاب سبتمبركما نسب للسيد الزوى. وفى العاصمه طرابلس من مآسى لاقبل للسكان بها ارهقت حياتهم وحولتها الى جحيم لايطاق، من تغول للكتائب المسلحه وانقطاع دائم للكهرباء بدون امل فى علاج يلوح فى الافق، وانخرام حبل الامن، فالاختطاف من اجل المال اصبح ظاهرة يوميه والاعتداء على الناس وسلبهم سياراتهم واموالهم وحتى خطف اطفال صغار. تحولت العاصمة تماما الى وكر للجريمه والفساد والسرقات وانعدام الامن. والاغرب ان هناك مجلس رئاسه وحكومة وحرس وطنى وقوات ردع وكتائب تنسب لاجهزة رسميه. فماذا بعد الكفر الا الضلال المبين.
خمس سنوات مرت على التحرير سارت فيها الثورة الى الوراء، فهى لم تحقق شيئا من اهدافها باستثناء اسقاط رموز النظام، لاحرة حقيقيه ولا عدالة فى غياب القانون ولاكرامه فى وجود العناصر المسلحه المتغوله ولاتنميه ولاعداله ولادولة مدنيه ولاحتى دولة دينيه. غلبتها الثورة المضادة بعناصرها وافعالها، فهل هناك امل فى أن تنجو من النهاية المحتومه، والنهاية فى ليبيا خطيرة للغايه، اما تقسيم واما حرب اهلية واما دخول الاجانب واما اقتطاع اجزاء من البلاد لتكون تحت الجيران كل حسب قدرته واما امارات ودويلات ومدن تحمل اسم قبائل تستعد منذ مذة طويلة ليوم قادم.
فهل يستيقظ الليبيون لانقاذ انفسهم وتورثهم قبل فوات الاوان، الشاعر احمد شوقى طالبهم بشىء مماثل فى قصيدته التى رثى فيها الشهيد عمر المختار حيث قال:
يا ايها الشعب الكريم أســــــــــامع ... فأصوغ فى عمر الشهيد رثــاء
أم الجمت فاك الخطوب وحرمت ... اذنيك حين تخاطب الاصغاء
ذهب الزعيم وأنت باق خالـــــــــــد ... فأنقذ رجالك واختر الزعمـــاء
وأرح شيوخك من تكاليف الهوى ... وأحمل على فتيانك الاعبـــاء
ايها الشعب الليبى الكريم... عدد رجالك واختر الزعماء... وأسرع لانقاذ ثورتك من نهاية محتومة. لاقدر الله.
يوسف العزابى
22-8-016