مقالات

رضا بن موسى

كتاب: "الثورة الليبية ـ مساهمة في تحليل جذور الصراع وتداعياته"

أرشيف الكاتب
2023/03/08 على الساعة 10:47

عرض وقراءة في كتاب: "الثورة الليبية ـ مساهمة في

تحليل جذور الصراع وتداعياته" للدكتور مصطفى عمر التير

يمهد الدكتور مصطفى عمر التير في بداية مؤلفه إلى الصعوبة التي تواجهه كباحث عند تصديه للكتابة حول ثورة لاتزال تداعياتها تتشكل، بسبب تعدد المليشيات المسلحة، نازعا عنها روابطها بالقوى التي تمثلها بمحمولاتها الطبقية والاجتماعية والأيديولوجية، والتي سيطرت، بعد فترة حراك الحالة الثورية الشعبية، على المشهد السياسي الليبي، وتسببت في تعثر مشروع بناء الدولة. ومن جهة أخرى تزداد الصعوبة بإصراره على الإقامة في وطنه، رغم المحاذير الأمنية التي قد يواجهها في هكذا ظروف غير مستقرة.

وأعتقد أيضا أن ثمة صعوبة أخرى تكمن في أن الباحث المسؤول، مثل الدكتور التير، قد يتنازعه النهج العلمي الموضوعي المحايد، من جهة، والخلفية الفكرية التنويرية التي قد تدفعه إلى التحيز وإصدار أحكام قيمية وأخلاقية من جهة أخرى. 

ويحدد المؤلف الغرض الرئيس من الكتاب، بأنه محاولة ـ يأمل أن تكون ـ مفيدة لرسم صورة واقعية للثورة الليبية، عبر الاهتمام بمكوناتها المتعددة، والتي شكلت الأسلوب الذي ظهرت به تداعياتها وطبيعة نتائجها المباشرة، ومن أهمها: الشباب ، خصوصا الذين ليس لهم أجندات ولا انتماءات خارجية؛ قدامى العسكريين والموظفين في الدولة؛ جماعات المعارضة بتنوعات أيديولوجياتها؛ القوى الخارجية وأهدافها السياسية والاقتصادية؛ والكيفية التي ردت بها السلطة الرسمية؛ والتدخل العسكري الدولي وآثاره المباشرة وتداعياته على مستقبل بناء الدولة...إلخ.

ويرى أن كل واحد من هذه المكونات يصلح لأن يكون موضوع بحث مستقلا، ولذا فإن جمعها معا، في الدراسة تبقى محاولة محدودة وقاصرة، يأمل أن تثير، بقصورها، الملاحظات والانتقادات، بما تكون حافزا لآخرين على المساهمة في البحث لتطوير فهم عميق لما حدث، يقود إل استشراف مستقبل ليبيا السياسي والاقتصادي.

عليه، تشكل "يوميات الثورة" موضوع الكتاب، التي يصف حوادثها بغير العادية، بدء من انطلاقها من 15 فبراير 2011 وحتى 8 أغسطس 2012؛ اليوم الذي سلم فيه المجلس الوطني الانتقالي السلطة إلى أول هيئة تشريعية منتخبة بعد نجاح الثورة، وهي الفترة التي اتسمت بالصراع اللفظي العنيف والمادي الدموي بين طرفي النزاع: طرف الثوار الذين انتفضوا رفضا لاستمرار نظام الاستبداد، وطرف النظام متمثلا في قيادته وأجهزته السياسية والإدارية والأمنية والعسكرية. 

 ولأن جذور الصراع تعود إلى زمن طويل، وأصبح مع انفجاره، محمولا بتداعيات هامة، ارتأى المؤلف أن المنهج الوصفي ـ وأضيف الوصفي التحليلي، هو الأنسب لوصف الصراع ومحاولة فهمه، ومن داخل المنهج يختار نموذج دراسة حالة، لمزيد من التركيز على الموضوع المراد دراسته والتخصيص لتحديد الحالة الليبية، مع تحليل اهم المتغيرات التي قادت إلى انطلاق الثورة ووقائعها ومراحلها، عبر تقديم بانوراما تفصيلية، كذلك يتم  تسليط الضوء على بعض أسباب الصراع الموجودة في الثقافة والتاريخ، وطبيعة القوى الاجتماعية الفاعلة، وبالخصوص دور القبيلة وأثر الولاء القبلي، عبر حقبة تمتد إلى المئة والخمسين سنة الأخيرة، ولما لها من انعكاسات على سياسة الدولة، بالإضافة على الدور الذي لعبته الدول الإقليمية العربية و الدول الغربية في مساندة أطراف الصراع وتهيئة الأسباب للتدخل الأجنبي وتقويميه في مسألة حماية المدنيين. 

وحتى يتم توصيف الحالة وتحليل موضوع البحث على نحو أكثر صدقية وموضوعية، كانت الدراسة مدعومة بالبيانات والمعلومات والمراجع والملاحظات، وتصنيفها وتنسيقها، حسب طبيعة البحث التجريبي الأمبيريقي، بالاستناد إلى الواقع المحسوس، مع توضيح العلاقات بين كل المتغيرات عبر وضع الفروض وطرح الأسئلة ومناقشة الكتابات التي تناولت الثورة الليبية ويومياتها في مدى كونها مؤهلة وصحيحة لفهم المشهد العام، والوصول إلى استنتاجات علمية بشأنها.

ويرى التير أن الثورة في ليبيا لم تكن حدثا فريدا أو غريبا في محيطها الجيوسياسي، حيث تهيأت "الفرصة التاريخية" في تونس ثم في مصر، للتحرك وتحقيق " الهدف رقم واحد" بإسقاط الرئيس، لتنتقل بحسب نظرية " تأثير الدومينو" أو ما أطلق عليه بحاث آخرون اصطلاح "الانتفاضات المتراصة " إلى أقطار عربية في صورة انتفاضات واحتجاجات.

ويعتبر التير أن سلسلة الانقلابات العسكرية العربية، التي استهلها الجيش العراقي في أواخر ثلاثينيات القرن العشرين، كانت الموجة الأولى التي اجتاحت المنطقة وأحدت تغييرات سياسية حادة، وتمكنت عبرها قوى اجتماعية بقيادة النخبة العسكرية من السيطرة على مقاليد الحكم في بعض أقطارها، لتقود عمليات التحول السياسي الاجتماعي. وفي ليبيا كان الانقلاب العسكري في العام 1969 مستهدفا اسقاط نظام ملكي، يرتبط بمعاهدات أمنية عسكرية لتكون صمام أمان للدولة حديثة الاستقلال وداعما لضعف مواردها الاقتصادية، من جهة، ومن جهة أخرى جدارا أمام المد الشيوعي الذي مثل أهم الأخطار التي احتاطت ضدها الدول الرأسمالية الغربية ما بعد الحرب العالمية الثانية. 

ولكن تلك الانقلابات العسكرية أو الثورات، كما يسميها الدكتور التير أحيانا، تجاوزا أو اضطرارا بسبب ما اشتهرت به في كتابات محلية وخارجية، ورغم شعاراتها البراقة، تحولت إلى أنظمة مستبدة متكلسة، مع فشل ذريع في برامج التنمية والنمو، وانتشار واسع للفساد، بل وتوجهت قياداتها إلى بناء أسر حاكمة وراثية، يسميها البعض بالجمهوريات الملكية ـ جملكيات، ضاغطة بسطوتها المطلقة على المواطنين بالتأقلم مع تلك الظروف السيئة، غير عابئة بظهور مؤشرات تنامي الإحباط والغضب.

وأضيف من جانبي، لتبيان البعد الطبقي الذي قد يتوارى وراء تمظهرات اجتماعية أيديولوجية، أن تلك السلطات رغم التفاف الجماهير المدنية حولها، وخاصة ـ في بدايات عهدها ـ كما في بلادنا، بتحقيقها مطلب إجلاء القواعد الأجنبية، والشروع في توسيع مجالات التحديث المادي بسبب ارتفاع الدخل القومي، جراء انتاج النفط، إلا أنها بالمقابل لم تتمكن من توسيع مجال المشاركة الديمقراطية الذي يحقق شرعية وجودها على رأس الدولة، بل ضيقت الفضاء العام، وتوجهت نحو تأميم الانتماء الوطني، وتعاملت مع ثروات البلاد كغنيمة خصت حصتها الأكبر دائرة الحاكم وأبنائه وأعوانه، لتصبح طبقة برجوازية كومبرادورية حاكمة، كما تكشف تحليلات سمير أمين عن وضعها الطبقي الحقيقي، وتتميز عن أغلب المواطنين الذين دفعوا إلى خانة طبقية، فضل الدكتور التير أن يطلق عليها اصطلاح "مستورة" توصيفا لحالة ذوي الدخل المحدود، الذين سلب حقهم الوجودي في العمل والإنتاج إلى جانب منعهم من التعبير الحر، خشية أن تتشكل من صفوفهم تشكيلات سياسية مستقلة تهدد سيطرتها وتنتقد تجاربها المضطربة في إدارة البلاد سياسيا واقتصاديا، وتفضح تبديدها للثروات في مغامرات غير مجدية. 

إن هذه الأنظمة، ومهما تعددت أقنعتها ومسمياتها بالشعبية والجماهيرية والقومية والممانعة والصمود إلخ، ومهما تبجحت بحفاظها على السيادة الوطنية، إلا أن اقتصادها ظل مرتبطا ومرهونا بالاقتصاد الرأسمالي ـ النيوليبرالي العالمي، مما يضعها في حالة تبعية، كطبقة وسيطة لنهب الثروات، وبالنسبة لبلادنا، ظلت تؤدي دور الحارس الأمين للنفط شريان حضارة الغرب الصناعية من جهة، وإيقاف عجلة التقدم لمجتمعاتها، بسبب خطواتها الفوقية العرجاء، وتدخلاتها المجحفة في التخطيط، التي تبعد الكوادر التكنوقراطية العلمية عن إدارة شؤون التنمية، وتتجاهل مجهوداتها ورؤاها التي تنشد الفكاك من قيود التخلف والاستبداد والتبعية.  

وأيضا بإصرار هذه الأنظمة على اعتماد نمط الاقتصاد الريعي القائم على توزيع الصدقات واشتراكية الاحسان والهبات، وعدم إخضاع ثرواتها للاستثمار في خطط تنموية رشيدة، بل وأقصت البرجوازية الوطنية عن العمل والإنتاج لصالح ما يعرف بـ"رأسمالية المحاسيب" والمتشكلة من شرائح جديدة من أعوانها تمتهن نشاطات السمسرة والنهب مقابل الولاء السياسي، الأمر الذي دفع بأغلب فئات المجتمع وحتى طبقته الوسطى إلى التهميش والبطالة العامة.

ولهذا يتطلب النظر إلى مسألة الصراع الطبقي، وعلى المستوى العالمي والمحلي، المزيد من الاهتمام، لما يضيفه لنا من إدراك يساعد على تحليل أوضاعنا القائمة وفهم طبيعة القوى المسيطرة في مجتمعاتنا وعلاقاتها بالمراكز المسيطرة على النظام العالمي سياسيا واقتصاديا. 

وإذا كان الدكتور التير يرى أنه ليس من الملائم استخدام مفهوم الطبقات الاجتماعية لتحليل الحراك الاجتماعي أو العلاقة بين القوى والفئات في المجتمع الليبي، وحيث لا يصلح مفهوم "فقراء" بالمعنى الاقتصادي للاستعمال في مجتمع يوفر لكل فرد فيه دخلا مهما كان متواضعا، إلا أنه من الضروري عدم إغفال بأن الصراع الطبقي أو حول الثروة قد يتلبس أشكالا مواربة أو يتمظهر في صراعات غير مباشرة كالتهميش أو الجهوية أو القبلية.   

ويركز الدكتور التير على ثورات الاتصال والمعلوماتية، عند تناوله للعوامل العامة التي أدت إلى الثورة، بسبب ما أتاحته لليبيين، والشباب على نحو خاص، من سبل مختلفة للمعرفة بالعالم، خارج أبواق الدعاية الموجهة والإعلام المضلل من قبل النظام، والتي في نظري قد ساعدت، على نحو خاص، على تقويم برامج النظام الديكتاتوري، بعقد المقارنة مع البلدان التي تعيش أوضاعا مشابهة أو بالأحرى التي تمتلك إمكانيات مادية مشابهة كالبلدان العربية النفطية. 

وبذلك توضح بجلاء، وكما جاء في الكتاب، بأن حياة الليبيين لا تتلائم مع متطلبات العصر، ولا يوجد مبرر كي لا يعيشوا عصرهم، بل وان تتجاوز المطالب الجوانب المادية إلى مجالات أخرى كقضايا توافر الحريات الشخصية والعامة، والحق في الاختلاف في كيفية إدارة الدولة، والتخلص من اللاءات التي يرفعها النظام في وجه معارضيه، بحيث تتصالح الدولة مع المجتمع، وتتوقف عن بث الوعود الخيالية الكاذبة، وألا يختصر الوطن في شخص.

وهنا علينا أن نذكر بأن النخب الليبية وبمختلف انتماءاتها الفكرية والسياسية قد ساهمت، عبر نضالاتها في الداخل والخارج، وبما أتيح لها من وسائل، أدبية وإعلامية ونقابية، في كشف القناع عن الوجه القبيح للنظام المستبد وممارساته القمعية وتخبطاته الإدارية والسياسية اللامجدية. 

 وبفعل التراكم التاريخي، يتفتح أمام الليبيين طريق التغيير، والذي سيتحول في لحظة نوعية، وبفعل الفرصة التاريخية إلى حالة ثورية، تتحدد مهامها، وبسبب انسداد الأفق الديمقراطي، في شعارها الرئيس: الشعب يريد اسقاط النظام.

ويشير الدكتور التير إلى أنه قد حاول أكثر من مفكر وباحث عربي حصر العوامل المباشرة للانفجار، الذي تمظهر في مشهد احتجاجي لم يشهده الشارع العربي منذ زمن. وقد تختلف العوامل، في قراءاتهم، من قطر إلى أخر، حسب الشروط الاجتماعية والسياسية لكل كيان، حيث توافرت في حالتي تونس ومصر عوامل لم تتوافر في الانتفاضة الليبية، التي عانت مشكلات معقدة، فلم يستطع الثوار الليبيون تحقيق الهدف رقم واحد إلا بتدخل أجنب مسلح. 

ويستبعد التير، من جانبه، الرأي القائل بنظرية المؤامرة، لأن هذا النمط من الاستنتاج يغلق الباب للتفكر في عوامل أخرى قد تكون الأهم، ويرى أن النموذج الذي اقترحه عزمي بشارة هو الأفضل. والذي يتألف من تسعة عوامل، شملت: الطابع الاحتجاجي، والشعبية التي تجمع العفوي والمنظم، والطرح السياسي الكامل، واللاعنف، واستعمال وسائل الاتصال البديلة، وتأكيد المواطنة، وغياب قيادة واضحة، والجيش، والأحزاب. 

ويخالف الدكتور التير النموذج في العاملين الأخيرين، باعتبار أنهما لم يكونا في الثورة الليبية، ويضع بديلا لهما وهو عامل القبيلة كملجأ وضامن وداعم، حيث يراها لاتزال عاملا مؤثرا في المجتمع الليبي فهي تحتفظ بمكانة عالية وتأثير في سلوك الفرد وقرارته.  وبالرغم من أنه يشير إلى أن الشباب عند بداية نشاطهم الذي قاد إلى تفجير الثورة، لم يراجعوا قبائلهم، ولم يشكلوا الميليشيات على أساس قبلي، بل بحكم الجيرة، وإما بسبب انتماء سابق كالجماعات الإسلامية. ولكن مع انتشار الثورة برزت القبيلة بوضوح. 

وفي عرضه المختصر لمحطات من التاريخ السياسي الليبي، يشدد الدكتور التير على الدور المحوري للقبيلة، خلال مختلف العهود، التي مرت بالمجتمع الليبي، مع أنه يلاحظ أن حالة تشظ وشرخ حدثت داخلها بسبب طبيعة تغير نمط الاستقرار، أفقدها بعض عناصرها تماسكها، فما عادت بعد دخول المدينة وحدة اجتماعية متماسكة، بالإضافة إلى ما أحدثة التعليم من تغييرات، إلى جانب الانتماء السياسي، على نظامها التراتبي، ولكن ـ حسب رصد الدكتور التيرـ فان القبائل لا تتساوى في درجة التغيير، حيث لاتزال البنية القبلية لدى البعض قوية. 

ومنذ منتصف السبعينيات، تغير الأمر، فبعد المحاولة الانقلابية من أعضاء في مجلس القيادة عام 1975، ونضيف أيضا ضغوطات العزلة الدولية التي فرضتها الدول الغربية في الثمانينيات، توجه العقيد القذافي نحو الاستفراد بالسلطة، وبعد إجراءات التفكيك للهياكل القبلية باستبعاد شيوخ القبائل والأعيان الموالين للعهد الملكي، وتيني القومية العربية كأيديولوجيا للنظام، نجد العودة إلى القبيلة من طرف رأس النظام، متبنيا تعزيز مكانة قبيلته وتقوية علاقاتها بالعودة إلى نظام قديم يضم تحالفا من مجموعة قبائل أخرى، مستهدفا بذلك الحماية الأمنية الاجتماعية من جانب، ومن جانب آخر تفكيك أية روابط أو انتماءات أو ولاءات سياسية أو نقابية قد تمهد لبناء قوى سياسية خارج القبلية أو خارج السلطة. بالإضافة إلى العمل على تقوية ظاهرة "الترييف" أو كما يسميها البعض "البدونة" والتي عنت المراكز الحضرية المدينية نتيجة الهجرة الداخلية والتي تسارعت بعد اكتشاف النفط ثم الانقلاب العسكري. 

وفي هذا الصدد نشير إلى عدم الاتفاق مع وجهة النظر، التي يعرضها الدكتور التير في سياق مناقشته لهذه المسألة، والقائلة بان هناك خصائص في الثقافة الليبية ـ ويعني القبيلة ـ قد استعصت على التعليم، فأضعفت قدرته على التأثير. فالقبلية ليست سمة طبيعة ثابتة للمجتمع الليبي، كما يحاول باحثون ترسيخه، بل هي ظاهرة اجتماعية تاريخية ترتبط في وجودها وأثرها بشروط اقتصادية ثقافية سياسية. ولذا يتوجب النظر إلى السياسة التي انتهجها النظام المستبد في طبيعة ومحتوى المناهج التعليمية، وخاصة بإضعاف محتوى مواد العلوم الاجتماعية، وربط بنية المؤسسة التعليمية بالتدريب العسكري العام على غرار برامج الثكنات العسكرية، مع إشراف اللجان الثورية إداريا وثقافيا بفرض دراسة الكتاب الأخضر وما يسمى بأطروحات الفكر الجماهيري، كل تلك الأسباب أضعفت من فاعلية التعليم في خلق عقول مستنيرة، تساهم في تفكيك هذه البنية المعتمدة على روابط الدم والقرابة الأولية، بما يجعلها عائقا أمام التحديث والتطوير في إعادة تشكيل المؤسسات على معايير تعتمد الجدارة والكفاءة، بالإضافة إلى العديد من الإجراءات التي عملت على تقوية الولاء القبلي، كالاختيار للمناصب العليا، وقانون تجريم الحزبية وإضعاف دور النقابات والروابط المهنية والثقافية، واستخدام وسائل القمع والإرهاب ضد كل النخب المثقفة المهتمة بالشأن الوطني العام.

وهكذا فإن تحليل جذور الصراع وتداعياته يحلينا إلى موضوعة الثقافة السائدة، فهل بالإمكان أن تدخل بلادنا، وغيرها من الأقطار العربية، زمن الحداثة، دون أن تتخطى مرحلة الانتفاضات باستكمال مسار الحالة الثورية نحو دولة الديمقراطية والعلم والقانون وحقوق الانسان. 

ولسنا بغافلين عن أثر القبيلة في الاجتماع الليبي، إلا أن بعض الأدبيات المكتوبة عن ليبيا، بشكل عام، ومابعد ثورة فبراير، بشكل خاص، ضخمت من دورها السياسي ولم تميز بين دورها وقوتها الفعلية وبين توظيفها من قبل القوى المتصارعة على السلطة، الأمر الذي يدفع إلى التنبيه لخطورة آراء المراقبين والباحثين وخاصة في قضايا الهوية والقبلية والمناطقية وغيرها وتقديمها وكأنها متأصلة في مكونات تركيبة المجتمع الليبي وغير قابلة للتغيير.

 والحقيقة أن الدكتور التير أيضا قد أشار إلى أن الشباب قد تصرفوا في بداية الثورة محمولين على ثقافة عالمية فرضتها العولمة، ولم ينتظموا في الفرق العسكرية على أسس قبلية بل بحكم الجيرة أو المساكنة، وإما بسبب الانتماء إلى جماعات سابقة كالفرق التي حملت دلالات دينية، كذلك لم تستجب القبائل لأوامر قيادة النظام للهجوم على المدن التي تحررت من سلطته، ولا ننسى بأن معظم رموز الثورة لم يكونوا شيوخا ولا أعيانا، بل كانوا من المحامين والقضاة والصحفيين والكتاب والنشطاء وضباط منشقون، وبالطبع شباب مواقع التواصل الاجتماعي. 

لكن بعد انتشار الثورة، نلاحظ بدء التوظيف للانتماءات القبلية والجهوية، وحيث برزت الفرق المسلحة التي توحدت في مجالس عسكرية وحملت أسماء قبائل أو جهات أو مدن. 

وفي اعتقادي أن عوامل عسكرة الثورة مع انتشار السلاح والدعم الخارجي للفرق المسلحة ثم سقوط النظام الذي لم يعمل على ترسيخ تقاليد مؤسساتية في الحكم والإدارة، وعدم إمكانية وضع قواعد لإرساء بديل في الوقت المناسب، والرجوع بالتالي إلى وضع يشبه ، كما أشار الدكتور التير، ما قبل ظهور الدولة، وغير ذلك من العوامل التي قد ساهمت في تشكيل الجغرافيا الليبية بما يسمح للقبلية والجهوية وحتى للأثنية بالفاعلية، مثلها في ذلك مثل المليشيات المسلحة، تستمد من التمزقات التي حدثت في النسيج الاجتماعي القوة، فهي ملجأ ـ كما يقال ـ للولاءات التائهة والمتصارعة على الغنائم بنشاطات غير مشروعة، والتي يشرعنها الفساد، ومما يجعل مكوناتها في الجوهر هشة لارتباطها بالمنفعة المباشرة.

ويرى الدكتور التير أن الكثير من الإجراءات والبرامج التي قام بها النظام، قد عملت على انتشار الخوف بين الليبيين، بدرجة قوية، وكان لها أثرها إلى درجة أن الكثير من المراقبين للشأن الليبي لم يتوقعوا أن الليبيين قادرون على تحطيم جدار الخوف. وبالتالي فقد تفاجأ النظام المستبد والمراقبون بانطلاقة الربيع العربي، التي ستهيئ الفرصة التاريخية لانفجار مخزون الغضب التاريخي، والذي لم تزده أفعال السلطة العنيفة إلا تصميما على اسقاطها.

وبالنسبة لمسألة أو نظرية المفاجأة، أتفق مع رأي د. خالد حدادة، الذي يعتبر "أن البناء على عنصر أو فعل المفاجأة واعتباره ثابتا ولا نقاش لبديهيته، يمنع من الدراسات الجدية للانتفاضات بل وقد يشكل خطرا على الانتفاضات نفسها وعلى مستقبلها.  فالاستعجال في تبني هذه النظرية وكأن العلم بالحدث الثوري، واعتباره هو المحدد لتفسير الثورة، يلغي البحث في جوهر الحالة الثورية. ويستدل برأي لينين بأن لا أحد يستطيع توقع تاريخ الثورة، لأن لها تعقيداتها ومسارها الخاص. فهل كان يكفي لإشعال الثورة شرارة الشاب التونسي،" أو بالنسبة للحالة الليبية اعتقال محامين نشطاء في ليبيا، "أم لابد من نضوج التناقضات السياسية الاجتماعية والوطنية، وتواجد الحاضنة الطبقية الاجتماعية الشعبية، كي تأخذ الأمور مداها" وأبعادها الذي تمظهرت في شعاراتها التي تنادي بإسقاط نظام الحكم المستبد والدعوة إلى مجتمع الكرامة والحرية.

وقد حاول نظام القذافي، تزين صورته في الخارج، بإيجاد حلول ترضي الدول الغربية، عن طريق وسطاء عرب وغربيين، وعن طريق ولي العهد غير المعلن رسميا، الذ عمل أيضا في الداخل على استمالة الشباب بإغداقه بالوعود البراقة، وكذلك التواصل مع أطراف من المعارضة في الداخل والخارج... إلا أن تلك الخطوات كانت محاولات متعثرة، بحكم كونها إجراءات فوقية، متذبذبة، وسرعان ما تكشفت عن وجهها الحقيقي بالسعي لتأبيد النظام بالتوريث العائلي.

ولذا لم تستطع إيقاف مخزون الغضب الذي سببته، حسب ما يحدده الدكتور التير، مجموعة من القرارات والممارسات والأحوال منها التضييق على حرية الرأي، الأحكام القاسية على المعارضين، تأميم أوجه نشاط الاقتصاد الخاص، انشاء اللجان الثورية، الظلم في توريع الثروة، تزايد انتشار الفساد بسب شريحة فوق القانون على رأسها أبناء الحاكم، خيبات الأمل بسبب الوعود الوهمية. وفي المقابل كان للتطور التكنولوجي أثره بالغ في توعية المواطنين بالحالة المتردية التي يعيشونها.

ثم كانت اللحظة التاريخية... في مدينة بنغازي ليلة 15 فبراير وبعد أن وقف الشباب احتجاجا أمام مبنى الأمن من أجل إطلاق سراح محامي رابطة سجناء بوسليم، قرروا السير إلى وسط المدينة، وعند وصولهم إلى ميدان الشجرة، انفجر الغضب التاريخي بهتافات وأفعال ضد رمز السلطة حيث مزقوا صورته بعد أن رشقوها بالحجارة، ومن وسط التظاهرة أعلن الكاتب الصحفي ادريس المسماري للعالم عبر المحطات الفضائية: إنها الثورة.

ولم يكن مستغربا أن تبادر الفواعل الاجتماعية إلى المشاركة، بالعمل على استمرار الحالة الثورية، والتي تشكلت من قوى وفئات متعددة حول هدف رئيس، هو اسقاط النظام. ويعبر عنها الدكتور التير بالعامل الداخلي: النخبة المثقفة، رجال الدين أو المشايخ، القبيلة والولاء القبلي، شباب مواقع التواصل الاجتماعي وشبكات الفيسبوك.  

أما الفواعل الأخرى التي توفرت للثورة، والتي يعبر عنها الدكتور التير بالعامل الخارجي، فد كانت لها مساهمة كبيرة في استمرارها ونجاحها في اساط النظام. ومن أهم مكوناتها: الاعلام في تطور حوادث الثورة، مع أن المبادرة كانت من الداخل، مثل قناة الجزيرة وفضائيات أخرى، والصحافيون. ثم الهيئات الدولية كمنظمة التعاون الخليجية، وجامعة الدول العربية ومجلس الأمن بالأمم المتحدة. وأخيرا الدول الغربية أو الموقف الدولي من الثورة الليبية والذي انتهى بتدخل عسكري ساعد الثوار في حسم الصراع لصالحهم.

ويختتم الدكتور التير كتابه الذي صدر في مارس 2020 بأن الخطوة الأولى تمت بنجاح، وستبين الأيام الأتية ما إذا كان الليبيون سيتمكنون من البناء على تلك الخطوة، أم أن عملية التحول الديمقراطي ستتعثر، وتدخل البلاد في حالة من الفوضى العارمة.

ولكنه يبدي المخاوف حول النمط الذي أخذتها الثورة الليبية، وكذلك ما تمر به سورية واليمن، عندما تحولت إلى حرب أهلية، ألحقت أضرارا كبيرة في النسيج الاجتماعي إلى جانب دمار كبير في البنية التحية، قد يبعث إلى الشباب في أقطار عربية أخرى إشارات سلبية، فينحاز إلى القبول ببرامج الإصلاح حتى لو كانت متواضعة. 

ويضيف، بأن البيانات التي توافرت عن متابعة حوادث الثورة لا تساعد في الإجابة عن معظم الأسئلة التي يقترحها في هذا الكتاب، لكنها تصلح لأن تقود نشاطات بحثية تالية تتوجه نحو فهم التطورات السياسية والاجتماعية التي حدثت في المجتمع الليبي نتيجة انخراط ليبيا في ثورات الربيع العربي وتفسيرها. 

وعلى ضوء التجربة الإنسانية، وعلى سؤال الدكتور التير، بخصوص ليبيا الى أين، أعزز الآراء التي تشير إلى أن حراك الثورات وتداعياتها ومآلاتها ليست مثالية أو ناجزة، فهي تتعرض، وليبيا مثال، إلى عقبات وتحديات من الداخل والخارج، مستهدفة عدم استكمال أهدافها، مثلما تحاول الجماعات المتطرفة ركوب أمواجها لاختطافها، وسدنة النظام السابق المستبد في زرع الإحباط في نفوس فواعلها، وقوى عسكرية مسلحة بالسيطرة على ساحات حراكها، وطبقة الكومبرادور من نهب مقدرات شعبها وأفشال مشروعها التنموي، والدول الامبريالية بالعمل على ترسيخ ضعف كيانها البنيوي، والدول الإقليمية بإدخالها في أتون الفوضى وحتى لا تمتد رياح الثورة إلى مجتمعاتها. 

وهكذا يضيف عالم الاجتماع الدكتور مصطفى عمر التير هذا الجهد العلمي إلى مجموع الدراسات الليبية في مجال العلوم الإنسانية الاجتماعية، متبنيا وعلى نحو متواصل النظر في مسألة (التحديث والتنمية)، مساهما بمقارباته العلمية الرصينة، بعيدا عن الإغراق في الانشاء والتنظير، في اثارة الأسئلة سعيا لإيجاد حلول للمشاكل وعلى رأسها مشكلة التخلف الاجتماعي التي تواجه هذا المجتمع وتعرقل مسيرته نحو التقدم.  

واللافت في هذا الكتاب مدى اقتراب الدكتور التير من التماس مع الابعاد التاريخية والسياسية، والتي لا غنى عنها لتعميق الفهم والادراك للظواهر الاجتماعية، وعدم الاكتفاء بقراءة وتحليل الوقائع المباشرة كما يغلب على الدراسات والمناهج الوضعية. 

والمعروف أن جامعاتنا، ومراكزنا العلمية، والمؤسسات الفكرية الثقافية على نحو عام، قد عانت، بسبب الاستبداد، من التضييق على القيام بالبحث العلمي باستقلالية وحرية، خشية أن تؤدي مثل هذه البحوث والكتابات ونتائجها إلى تشكل وعي مستنير، يثير الجدل والأسئلة حول اشكاليات جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية، بالإضافة الى التجاهل المقصود من السلطة للجهود التي تبذل في هذه المجالات.

ولعل الثورة، وما يترتب على حراكها من اتساع لأفق الحرية، قد كشفت عما تعانيه الدراسات العلمية وعلاقتها بالتغيير والتحول عن مدى اغترابها عن حركة القوى الاجتماعية وتطلعاتها، ولتكون محفزا إيجابيا نحو المزيد من البحث الذي لا يشيح النظر عن الصراع الاجتماعي السياسي، وحتى تتمكن، مستفيدة من الرؤى والمناهج والوسائل والأدوات العلمية، التي انتجها العقل الإنساني، من قراءة واكتشاف القوانين والشروط الموضوعية الخاصة بمجتمعنا، والانتباه الى النظريات الجاهزة، لأن الحياة في ظل السيطرة الامبريالية لاتزال مجالا للصراع والتنافس، وحيث تقدم الكثير من الأفكار على ضوء توجهات وقيم قوى دولية تحاول الاحتفاظ بأوضاعها المتميزة والمتفوقة.

رضا بن موسى

> راجع: ندوة حول كتاب (الثورة الليبية.. مساهمة في تحليل جذور الصراع وتداعياته)

 

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع