مقالات

إبراهيم محمد الهنقاري

ليبيا.. وفبراير الحزين.!

أرشيف الكاتب
2023/02/08 على الساعة 16:22

كلما حل شهر فبراير أجدني أسمع أنين الذاكرة وبكاءها وهي تستعيد الأحداث الاليمة التي عرفتها في هذا الشهر الحزين عبر سنوات العمر.!

لقد عرف الليبيون والليبيات الحزن والالم في كل شهور السنتين الشمسية والقمرية طوال كل سنوات القهر والاذلال وسفك دماء الليبيين والليبيات عقب ذلك الانقلاب العسكري المشبوه والغامض في الأول من سبتمبر عام ١٩٦٩ والذي لم يعرف الشعب الليبي حقيقته حتى لحظة كتابة هذه السطور المفعمة بالجراح وبالالم.

ولكن شهر فبراير بالذات لم يكن هو الشهر الوحيد والشاهد الرئيسي والأكبر على جرائم ايلول الاسود وجرائم مجنون ليبيا لا ينافسه في ذلك سوى شهر يونيو الذي شهد جريمة سجن أبو سليم في اليوم التاسع والعشرين منه وهو اليوم الذي قتل فيه نظام ايلول الاسود المجرم ذلك العدد المهول من ضحايا ذلك النظام الدموي البغيض وعددهم 1269 معظمهم من طلبة المدارس والجامعات ومن رجال الفكر والثقافة الذين كان الوطن في امس الحاجة اليهم والى مساهماتهم في نهضته الفكرية والثقافية والسياسية.. وسوى شهر ابريل الذي شهد اغتيال الشباب الجامعي الليبي على مشانق نصبت في ساحات الجامعة ونقل تلك المشاهد المروعة على شاشات التلفزيون الرسمي لدولة الحقراء كما اسماها الطاغيه الذي ينسب اليه كل ما جرى في انقلاب ايلول الأسود ولكن دون دليل سوى ذلك البيان الكاذب والسخيف الذي اذيع بصوته من محطة الاذاعة الليبية في بنغازي فجر ذلك اليوم الاسود والمشؤوم.!!

في ذاكرتي التي تمتلئ بالعديد من الأحداث الأليمة والموجعة منذ ايلول الاسود وحتى اليوم يأتي شهر فبراير هذا ليجدد فيها تلك الالام وتلك المواجع. في 21 فبراير 1973 وقع حادث الطائرة الليبية التي اسقطتها الطائرات الإسرائيلية فوق صحراء سيناء المحتلة. فقدت اسرتنا في هذا الحادث أيقونة اخواتي طالبة الطب بجامعة القاهرة الشهيدة باذن الله الآنسة سعاد محمد الهنقاري. ادعو لها بالرحمة والرضوان.

وفي هذا الحادث فقدت عددا من الأصدقاء والزملاء كان منهم ألأخ والصديق العزيز الشهيد الاستاذ صالح مسعود بويصير والزميل الكاتب الصحفي الشهيد الاستاذ عبدالقادر طه الطويل وغيرهما ادعو الله سبحانه وتعالى لهم جميعا ولكل ضحايا ذلك الحادث الاليم بالرحمة والمغفرة والرضوان.

وفي اليوم الرابع والعشرين من شهر فبراير عام 1973 تم اعتقال احد كبار المناضلين الليبيين وواحد من رفاق النضال من اجل ليبيا أفضل الاخ والصديق ورفيق النضال الاستاذ عامر الطاهر الدغيس الذي تم قتله بعد ذلك بدم بارد داخل احد معتقلات الطاغيه في اليوم السابع والعشرين من شهر فبراير من ذلك العام. ولعل من حقه ومن حق محبيه علينا أن أكشف لكم اليوم بعض ما جرى مع الاستاذ عامر رحمه الله قبل اغتياله.

قبل اسبوع واحد من اعتقاله تم اخذه الى مكتب أحد أعوان القذافي ولا داعي لذكر اسمه حيث طلب منه التعاون مع نظام ايلول الاسود فرفض الاستاذ عامر ذلك. وعندما قال له ذلك الشخص: ”ألست ثوريا.!؟“.. قال له الاستاذ عامر: "كنت ثوريا عندما كان ثمن الثورية هو السجن. أما اليوم فإن ثمن الثورية هو الجاه والمناصب. ولست راغبا في ذلك.“!!

سئل الاستاذ عامر عن لقائه في بيته بنائب الرئيس العراقي حينها الشهيد المرحوم السيد صدام حسين الذي كان في زيارة رسمية الى ليبيا. قال الأستاذ عامر إن ذلك اللقاء تم بعلمكم وعلم "الاخ قائد الثورة“.!! وقال أيضا للمحقق: "إن السيد صدام حسين جاء الى بيته في سيارة رسمية من سيارات "الثورة" وبحراسة أمنية مرافقة له. ولم يكن ذلك اللقاء لقاءا سريا.! ولم يكن لقاء بطلب من الاستاذ عامر.!" بل كان بطلب من السيد نائب الرئيس العراقي طيب الله ثراه وبموافقة مضيفه " الأخ قائد الثورة“.!!

وبعد ذلك "التحقيق" عاد الاستاذ عامر الى بيته واتصل بي على الهاتف وطلب مني القدوم الى بيته. ولم أكن أعلم بما جرى معه . ومن هناك اخذني في سيارته في جولة طويلة عبر تاجوراء وسوق الجمعة حيث روى لي تفاصيل ما جرى له خلال ذلك التحقيق على نحو ما ذكرت.

كان الاستاذ عامر يتوجس خيفة من نوايا نظام ايلول الاسود نحوه وكان يتوقع الاسوا بعد ذلك التحقيق الشكلي وغير المبرر الذي اجري معه. حاولت ان اقلل من تلك المخاوف ولكنه ظل شاكا في نوايا النظام نحوه.

وبعد ذلك اللقاء الاخير بيننا بيومين اي في السابع والعشرين من فبراير علمت بخبر اغتيال الاستاذ عامر رحمة الله ورضوانه عليه.!

توقعت الأسوأ انا الاخر وظننت ان اصحاب السيارة البيضاء التي كانت تلاحقني منذ سنوات لابد انهم قد علموا بتلك الجولة الاخيرة بيننا حول تاجوراء وسوق الجمعة ولكن الله سلم فأعمى بصرهم وبصيرتهم فلم يعلموا بتلك الجولة والله خير حافظا وهو أرحم الراحمين.

ان تلك الجريمة الكبرى والشنيعة في حق مواطن ليبي مسالم لم يمارس اي نشاط معاد للنظام القائم بل كان يمارس عمله كمحرر عقود وكأي مواطن عادي ولكن النظام الاسود كان ينقم عليه لسمعته الطيبة بين المواطنين الليبيين الذين يعرفون قدره ويعرفون نضاله وتضحياته من اجل الوطن. اللهم اغفر له وارحمه.

ولم يكتف ذلك النظام المجرم باغتيال هذه القامة الكبيرة بين المناضلين الوطنيين الليبيين بل إنه ارتكب جريمة اخرى اكبر حيث قامت لجان النظام الاسود "الثورية" باستخراج جثمانه الطاهر من قبره وإلقائه من إحدى طائرات الهيليكوبتر في مياه البحر الأبيض المتوسط ليكون طعما للاسماك ولكي لا يكون له قبر في وطنه يزار.!

وذلك بعدما شاهد راس ذلك النظام الاسود وعلم بحجم الجنازة الكبرى التي شيعت الشهيد عامر الطاهر الدغيس الى مثواه قبل الاخير.! كما علم بالخطاب الذي القاه الأخ والمناضل رفيق الدرب الشهيد الاستاذ محمد حمي طيب الله ثراه خلال مراسم الدفن في تأبين شهيد ليبيا الكبير الاستاذ المناضل عامر الطاهر الدغيس.

لم يعرف الليبيون والليبيات طوال تاريخهم مثل هذه التصرفات الاجرامية التي ارتكبها نظام أيلول الاسود.!! ولكن سيعلم الذين ظلموا اي منقلب ينقلبون.!! وقد علموا.!!

وفي منتصف فبراير عام 2011 انتفض الشعب الليبي لاسترداد كرامته التي داس عليها انقلاب ايلول الاسود المشؤوم وظن المتفائلون منا أن ساعة الخلاص قد حانت ولكن لم تمض سوى بضعة اشهر على تلك الانتفاضة الشعبية الوطنية حتى تحولت تلك الانتفاضة الى مؤامرة على الشعب الليبي من قبل المتاجرين بالدين والدنيا من الجماعات التي تدعي انتسابها للاسلام والاسلام الصحيح بريئ منها ومن أفعالها المنكرة والتي كان بعضها يدعي معارضته لنظام ايلول الاسود فلما قامت الانتفاضة كشفوا عن وجوههم الحقيقية وعادوا الى الوطن لينهبوا من خزينة الشعب الليبي ثمن معارضتهم للطاغية ونظامه ثم ليحولوا دون العودة الى الدستور الليبي والى حكم القانون. وليعودوا بعد ذلك الى البلاد التي تحصل البعض منهم على جنسيتها.

وكان هؤلاء فيما بعد هم وراء كل التشكيلات المسلحة التي يدعي أصحابها جميعا الانتماء لانتفاضة ١٧ فبراير بينما كان القصد من ذلك هو نشر الفوضى ومنع قيام الدولة في ليبيا لكي لا تتم محاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها ويرتكبونها.!

تلك هي الحقيقة القاسية التي لا يزال شعبنا يعاني من تبعاتها.! ولا يزال الوطن مع الأسف الشديد في قبضة هؤلاء حتى اليوم.!!

فكانت نتيجة ١٧ فبراير هي زوال الطاغية ونظامه وبقاء الفساد وأركانه.!! ولم تكن تلك النتيجة هي عودة حكم الدستور والقانون الى ليبيا كما كان الحال قبل نكبة ايلول الاسود.! وكما كان يتمنى الليبيون والليبيات.!

أما بعد.. فقد كان ذلك جزءا يسيرا من الذكريات الأليمة والموجعة لهذا الشهر ثقيل الدم علينا وعلى الشعب الليبي كله.!! شهر فبراير الكئيب.!

نسأل الله لنا ولكم حسن الختام. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

إبراهيم محمد الهنقاري

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع