علي واحدة من صفحات التواصل الاجتماعى، نشر نعي بوفاة مواطن ليبي، من المقيمين في الولايات المتحدة الامريكية واعلن ناشر النعى آنه سيقوم بجمع التبرعات، والتي تقدر بمبلغ ثلاثة عشر الف دولار، لتغطية تكاليف الدفن فى المقبرة الاسلامية. هزنى الخبر، فالموت خارج الأوطان محنة، لا يشعر بها إلا من يكابدها،وثقافة الموت تختلف بيننا وبين الآخر فعندنا القاعدة الأساسية "اكرام الميت دفنه" وفى المهجر تختلف الأمور فالأحياء هم المطلوب منهم تجهيز قبورهم والتحضير للجنازة وتغطية كل التكاليف مسبقا وأعتقد أن اخوتنا من الذين اضطرتهم الظروف السياسية والاقتصادية على الهجرة لديهم الكثير من الحكايات ،عن احبة لنا رحلوا غرباء ودفنوا غرباء على ارض غريبة، فى قبور تتبع لديانات اخري ولن انسَ ما حييت، التصفيات الجسدية التي قام بها النظام ضد معارضيه فى الخارج، والبحث عن قبور لدفن الضحايا في بلاد الغربة، وما حدث لرجل الاعمال عبدالجليل عارف رحمه الله، الذي اغتيل في روما ونقل إلى طرابلس، ودفن فى مقبرة سيدي منيذر ، وبعد اربعة ايام تم إستخراج جثمانه واعيد إلى روما، وبقي فى ثلاجة الموتى ما يقارب من شهر. ليعاد دفنه في مقبرة مجهولة .انها حكايات حزينة عن احبة رحلوا غرباء على ارض غريبة،وتركوا لنا من ورائهم غصة ومرارة في الحلق والقلب ايضا. وانا اسوق هنا واحدة من تلك القصص. واعتذر عن الإطالة.
حكاية عبدالرحمن
![]() |
الصديق عبدالرحمن حويو رحمه الله، كان رجلا تحل البهجة اينما حل، ولد فى اجدابيا، وكان حلمه أن يكون ضابطًا فى الجيش، وتحقق الحلم ولكن لم يدم طويلا، إذ سقط النظام الملكي فتم تسريحه، فانتقل للعمل فى القطاع الخاص وتزوج من سيدة اسبانية. فى مايو 1984 وقع هجوم مسلح على معسكر باب العزيزية في طرابلس، وفى مفكرة الهواتف الخاصة بقائد المجموعة المهاجمة عثر على هاتف عبدالرحمن، فسحب منه جواز سفره، ومنع من السفر لأكثر من عام. فى اليوم الذى اعيد له فيه الجواز كان بصحبة صديق وحاملا لكيس بلاستيك به كيلو فلفل اخضر حار،سأله الصديق ماذا لو غيروا رأيهم؟ لم يفكر طويلا وأتجه لوكالة السفر وبصحبة شكارة الفلفل توجه للمطار وعبر مطارات روما ومدريد وصل إلى محطته النهائية مدينة زوجته "سيفيليا" التي استقر فيها الي يوم رحيله.
في قرية "فالينسينا" فى إقليم "اشبيليا" انتقل للعيش في بيت ريفي، تزامن وصوله وجودى فى مدريد كمراسل صحفي، تبادلنا الزيارات.. وفي "فالينسينا" تحول عبدالرحمن لواحد من مشاهير القرية، أجاد التكلم باللغة الأسبانية بلكنة اهل "سيفيليا"، وبالرغم من انني غادرت مدريد ولكن زياراتي لعبدالرحمن لم تنقطع، وكان اخر وداع بيننا اغسطس عام 2006 فى محطة القطار، كنت عائدا للقاهرة. في اليوم التالي اتصلت بي زوجته لتخبرني بمرضه وبعد يومين ابلغتني برحيله. باعجوبة حصلت علي مقعد للسفر متنقلا عبر ثلاثة مطارات، وساعد فى لحاقي بالجنازة تاخر الدفن ثلاثة أيام بسبب اشكالية رفض الدفن، في المقبرة الاسلامية علي اعتبار انه ليس عضوا في الجمعية الاسلامية بسيفيليا، ولقد نجح سكان القرية في الضغط علي عميد البلدية للضغط علي الجمعية بقبول الدفن.
من المطار ذهبت مباشرة للمقبرة، كانت القرية كلها فى وداعه. التقيت بأخيه المرحوم الأستاذ السنوسي حويو الذي تمكن باللحاق بعملية الدفن. استلمنا الجثمان أنا واخوه، وانتقلنا به إلى المقبرة الاسلامية، قطعة ارض مقتطعة ومتبرع بها من مقبرة المدينة. بعد ان اغلق علينا باب المقبرة، أكتشفنا أننا ثلاثة انا والسنوسي وعامل يقوم بحفر القبر، استفسرنا منه من سيقوم بمراسم التغسيل والتكفين والصلاة والدفن، اجاب: انتم. وعندما سألناه: كيف ذلك؟ قال: لأن الميت ليس عضو فى الجمعية فأنا مكلف فقط بحفر القبر.
كان الطقس حار، والرحلة مرهقة،. ألتفت للأستاذ السنوسي بعصبية قائلًا: والعمل؟ فرد بهدو شديد: هدي روحك يا مهيدي، ستفرج بمشيئة الله. لحظات وطرق باب المقبرة، وعندما فتح الباب كان هناك جمع من الناس،عرفنا فيما بعد انهم كانوا مجلس اعضاء الجمعية، برفقة وفد من إمارة الشارقة، فى زيارة للمكان بهدف التبرع لإقامة مسجد. وجهت كلامي لرئيس الجمعية، وكان مغربيا معاتبا له بعصبية زائدة، استفسر شيخ من جماعة الشارقة عن المشكل؟ فاخبرته، فكان رده موجها للجميع: يا سادة يا مسلمين إكرام الميت دفنه، والله عيب. وباوامر حازمة لرجاله تشكل فريق عمل، وطلب من بقية الحاضرين الوضوء، إستعدادا لصلاة الجنازة، مطالبا بالاكثار من تشكيل الرصفوف. عندما انتهت عملية الدفن تقدمنا انا والسنوسي بعيون باكية للشكر فكان رده: يا سادة.. إكرام الميت دفنه، ونأمل ان تكونوا قد اتعظتم.
رحم الله الرجال من الذين قضوا نحبهم، وماتوا غرباء على ارض غريبة، ودفنوا فى قبور مجهولة، بعيدا عن اوطانهم وذويهم واسكنهم فسيح جناته.
* الصورة: عبدالرحمن حويو رحمه الله.