مقالات

وفاء البوعيسي

كرامة النبات (2/2)

أرشيف الكاتب
2022/11/22 على الساعة 12:57

ما الذي يجب فعله لكي لا نجرح كرامة النبات؟

الحقيقة أن منشأ الجدل بخصوص منح الكرامة للنبات والاعتراف به ككائن أخلافي كان بسبب أن الهيئة التشريعية ولجنة الأخلاق لاحقّا، لم يقدما من منظورٍ أخلاقي تجسيدًا واضحا للمصطلح الصادم وغير المسبوق "كرامة الكائنات الحية"، فظهرت الأسئلة حول المطلوب فعله بالضبط لتفادي جرح كرامة النبات: هل يجب على البشر التوقف عن أكل النباتات تحرجًا من أكلِ كرامتها أيضا؟ 

هل تحزن النباتات عند تشذيب أغصانها؟ وهل تشعر الشجرة بالإذلال حين تُجسد على شكل إنسان؟ هل تحقد علينا البطاطا عند نزع جلدها وسلقها في الماء؟ وما مصير النباتيين أصحاب القلوب المرهفة، ألا يجدر بهم التوقف عن تناول النباتات احترامًا لكرامتها؟ ما مستقبل الصناعات الغذائية؟ وتحت أي ظروف يجب أن تنمو الطماطم؟

لقد توسعت الأسئلة الوجودية والعلمية الصعبة في البرلمان وخارجه، وأغرقت النُكات الشارع السويسري والعالم كله، وبحلول عيد الميلاد ومع اقتلاع الأشجار وتزيينها وصلت رسالة من أميركا تقول: "هذا "إذلال" للأشجار بمعناه المجازي.

لكن كان على الحوار أن يهدأ وأن يركّز المتحاورين على مسألتين: الأولى كيف نستهلك النباتات مع الوضع المعنوي الجديد لها؟  والثانية إعادة التفكير في علاقة إنسان اليوم بالنبات، وهل يجوز أخلاقيا أن يُخضعه للاستغلال الكامل بزعم عدم امتلاكه وعيًا أو جهازا عصبيا؟ 

المعضلة الأولى: 

لا ينبغي أن تؤخذ الاستنتاجات الجديدة عن حجم معرفية النبات ومساهمته في استمرار جميع الكائنات بالحياة على أنها محفزاتٌ لليأس والشعور بالإثم لأكله، إن أكل الأخرين من أجل العيش هو الواقع الثابت للوجود الحيواني والبشري والبكتيري، والنبات هو المقصود دائما بهذه الممارسة الشنيعة التي لا يوقفها شيء عند الإنسان إلا التعاليم الدينية عبر الصيام تماهيًا بالملائكة، لكنها تظل محاكاةً استثنائية ليعود بعدها قانون الضرورة، إنه الافتراس. فهل يُسيء الافتراس البشري للنباتات ويجرح كرامتها؟ 

خطأ كبير اعتبار السؤال عدميَا وخطأ أكبر اعتباره دعوة لفقدان الشهية الجماعي وذلك لإشكالية العنف المتأصل في مجرد الوجود نفسه، فالإنسان كغيره من الكائنات لا يفتأ يحرق الأوكسجين ويقتل الحشرات في سيره على الأرض ويقاوم البكتيريا الضعيفة، لكن المتعة الحقيقية في فعل الأكل عبر القرارات الواعية المحيطة بما نأكله، تعني ببساطة أن تلكم الأفعال بعيدةٌ عن محض التزود بالوقود شبه الميكانيكي للكائن الحي، إنها معرفة قدرتنا على استخلاص العناصر الغذائية التي تبقينا على قيد الحياة من الطعام، وهي بالذات ما يتشاركه البشر مع الحيوانات والنباتات وحتى البكتيريا، إنها القدرة التغذوية بأثر النبات فينا عبر روحه الخُضَرية، ولعل أعظم ما في تناول النبات من فائدة أنه هو نفسه ممر للأخرين من بقية الكائنات التي تتغذى عليه، وأن الأخرين ممرٌ له هو نفسه في دائرة متسعة من العناصر المغذية تبدأ بالنبات وتنتهي به. 

المعضلة الثانية:

''الكائن الحي غير البشري" يتمتع بقيمةٍ متأصلة فيه، وهي قيمةٌ ذاتيه تخصه بغض النظر عن فائدته لأي شخص أو لأي شي. وبهذا يستحق أي كائن حي مكانةً أخلاقية وحصانة من التدخل في تكوينه لفائدة غيره. لكن عندما أجريت مقارنة بين كرامة الإنسان وكرامة الكائن الحي وأخلاقية كل منهما في الدستور وفي لجنة الأخلاق، اعتُبرت كرامة الإنسان مصونة وكرامة الكائن الحي تخضع للتوازن مع المصالح الإنسانية، بمعنى آخر عند موازنة المصالح مقابل الكرامة يجب تقديم مصالح الإنسان

أما فكرة الاختيار بين احترام النبات والقضاء على الجوع العالمي عبر التدخل في جينومه فهي فكرةٌ خطرة، فذلك تُحدده اعتباراتٌ إيديولوجية من قِبل الرأسمالية الزراعية التي أضرت بأشكال الحياة غير البشرية، ومن هنا فلا يمكننا تصور استمرار النضال من أجل التحرر البشري من وحشية الحاجات المادية مع تجاهل محنة الكائنات غير البشرية التي لا قيمة لها في منطق رأس المال وخارج أسعار السلع التي يحولونهم إليها كل يوم. 

وعطفًا على القيمة المتأصلة في النبات، فعلم الوجود النباتي يُخبرنا أن النباتات لا توجد من أجل الاستمتاع والاستهلاك البشري ولا من أجل أي شيء آخر هي فقط وُجِدت لنفسها، لكن بما أن النبات كان كريما معنا لعصور فيجب علينا أن نضع حدودا على زراعته بعدم تحرير جينومه بهدف تغيير خصائصه الطبيعية لصالح البشر، كالحد من تناسله المستمر أو تغيير لونه أو مذاقه أو التدخل في عمره طولا وقصرا أو دمجه بنبات آخر أو تشكيله على نحوٍ يخالف شكله الطبيعي ...إلخ. والحل ليس في تحرير الجينوم النباتي لستر أخطاء العابثين بالبيئة ومنحهم المزيد من الأموال ـ لأن العبث لن يتوقف ـ بل تحرير النبات من جشعهم عبر مقاطعة سلعهم المحوّرة التي لم تعد تنتمي للبيئة الطبيعية بل للمختبرات الصناعية وفرض غرامات وعقوبات جنائية أخرى على من يفعل ذلك.  

أما خلاصة ما انتهى إليه "قانون الهندسة الوراثية GTA" بعد 11 عاما على صدور الدستور:

1- يُعد التعديل الجيني عمومًا انتهاكًا للكرامة، والتعديلات الوراثية على الحيوان والنبات التي لها تأثيرات نمطية تُعد كذلك انتهاكًا لكرامة الكائنات الحية غير البشرية.

2- وجود خطٍ فاصل بين الحيوان والنبات من منظور الكرامة، مع وجوب مراعاة الفوارق بينهما حنبًا إلى جنب مع حقيقة وجود قانون لرعاية الحيوان بينما لا يوجد قانون لرعاية النبات.

3- يدعم GTA وجود تسلسل هرمي للكرامة بسويسرا إذ تتمتع الحيوانات بكرامة أكبر من النباتات في حين تُقدم كرامة الإنسان على الجميع.

4- في موازنة المصالح البشرية مقابل كرامة الكائن الحي، يقع التقييم وفقَا لكل حالةٍ على حدة، مع تقييم الضرر الذي يتعرض له الحيوان أو النبات، وفي تقييم المصالح يؤخذ في الاعتبار: مصلحة الإنسان والحيوان،  ضمان الغذاء الغذائي، الحد من الضرر اللاحق بالبيئة، تأمين فوائد اقتصادية أو اجتماعية أو بيئية كبيرة للمجتمع.

5ــ حظر زراعة المحاصيل المعدّلة وراثيا والمعدة للاستهلاك البشري في قطع الأراضي الصغيرة الميزة للرعي السويسري باعتباره انتهاكًا لمبادئ GTA.

الخلاصة...

الحكومات السويسرية تمتنع كليّا عن استيراد المحاصيل المعدلة وراثيا في أي مرحلة من مراحل الإنتاج، احتراما للنظام القانوني الذي رسخ مبدأ كرامة النبات ودافع عنها لسنوات، والشعب السويسري يدرك اليوم مسؤوليته الأخلاقية تجاه الكائنات الحية غير البشرية كما جاء بديباجة دستور 1999 المعدل، وفي هذا إشارةٌ بالغة النبل لتواضع الشعب السويسري أمام الكائنات الأقل منه ذكاءا أو وعيًا، مُنطلقه في ذلك نظرته للعالم، حيث النظام الطبيعي فيه ذا قيمةٍ أخلاقية في ذاته، وما مفهوم كرامة الإنسان وكرامة الكائنات الحية غير البشرية إلا جزءًا من ذلك النظام.  

وفاء البوعيسي

- راجع/ وفاء البوعيسي: كرامة النبات (1)

[1] The dignity of living beings with regard to plants, Report, Federal Ethics Committee on Non-Human Biotechnology (ECNH) Editor: Ariane Willemsen, P.3. 

[2] Jack Handey مرجع سابق. 

[3] Michael Marder, Is It Ethical to Eat Plants? Volume 19, 2013 - Issue 1, Published in 31 Jan 2013, P. 20 to P.32.  

[4] James Toomey,P.13. مرجع سابق 

[5] Ibid, p.13-14.

[6] Michael Marder, P.31-34. مرجع سابق 

[7] James Toomey,P.15-17.  مرجع سابق 

[8] Ibid, p. 17-8

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع