الثورة في مضمونها... حركة تَمرّد خَلّاق... يَنتج واقِعـَاً جديداً... ويفتح أفاقاً أرحب للحرية... تتغير معه الظروف والمعطيات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية تغيراً إيجابياً... إذ ما توافرت سُبل النجاح... والثورة ليست هدف في ذاتها... بل وسيلة للعبور نحو التغيير المنشود... وتنتهي حال حدوثه... وهي ليست مجرد حدث عابِر في حياة الشعوب... إنها أكثر عمقاً وأشد تعقيداً وإثارةً للجدلِ حول نتائجها ومآلاتها... فالشعوب بانتظار أنْ تجني ثمار ثوراتها... وأَنْ تعيش التغيير واقعـاً ملموساً لا شعاراتٍ براقة... في مجتمعات عانت لعقودٍ طويلة من القهر والقمع والتخلف... كالمجتمعات العربية... الحالمة بالتغيير... والمُتَلَهِفَة للنهوض والخروج من غُبن ومرارة الانتكاسات المُتَتَالِيَة... ونجاح الثورة مرهون بالوعي والإدراك... والحرص على التغيير.. فكلما ساد التخلف والجهل وبرزالفساد تعثرت الثورة... وابتعدت عن مقاصدها... فالثورة مسيرة كفاح وتضحيات وآلام ومكابدة.. وسعي حثيث لغدٍ أفضل... وهي عُرضَة للعرقلة أو الإجهاض بفعل مؤامرات أنظمة الاستبداد المنهارة... التي استمرأت استعباد الشعوب ونهب ثرواتها... ولا ترضى لها بَدِيلاً غيرها.
المؤامرة على الثورة:
الكل لا زل يتذكر تلك الكلمة الشهيرة... التي وجهها سيف القذافي بتاريخ الأحد 20/02/2011 للشعب الليبي إِبَان إندلاع ثورة فِبْرَاير.. والتي هَدَدَ فيها ولوّحَ بِسَبَابتِهِ... بالويل والثبور وعظائم الأمور... إنْ استمرت المدن الثائرة في انتفاضتها ضد حكم أبيه البائس... وكان من ضمن ما ذكره في تلك الكلمة... الكثير من الأحداث المؤسفة التي ستقع فيما بعد... والتي أصبحت... بقدرة قادر... تتجسد اليوم بشكل واضح وملموس... وتتطابق مع الواقع الذي نعيشه... منها إندلاع حرب أهلية بين الليبيين... وانعدام الأمن والآمان... وصعوبة الحياة المعيشية... وتوقف إنتاج النفط... واحتلال الموانئ النفطية من قبل بعض الجماعات... وانقسام الوطن شرقاً وغرباً... وظهور إمارة إسلامية متطرفة في ليبيا... الأمر الذي دفع ببعض عوام الناس من ذوي التفكير المحدود... وبعد مرور خمس سنوات على تلك الكلمة.. للمنادةِ به مُنقِذاً لها مما تمر به البلاد من فوضى وصعوبات معيشية جَمّة... ضناً منهم إنه صاحب رؤية وحِكمَة وفكر ثاقب... وإنه قادر على قراءة المستقبل ومعالجة الأزمات الحاصلة... هذا في الحقيقة يدفعنا للتساؤل... هل يا ترى كل ما ذكره سيف القذافي من وقائع... كان تنبؤات وتوقعات... بحيث من دقتها لم تخطي إحداها الواقع الذي نعيشه اليوم؟؟... وكأن الأمر "نسخ ولصق" بين قَولٍ فائت وحَدَثٍ قائم... أم إن الأمر لا يعدو كونه ردة فعل بائسة... وتصادف حدوث ما أشار إليه مع ما نشهده اليوم من أحداث ؟... في واقع الأمر... كل ما ذكره... لم يكن تنبؤات ولا توقعات ولا مجرد مصادفات... وإنما تشير الدلائل إلى أنه كان ضمن مخطط لسيناريو "ما بعد الإنهيار"... تم رسمه والإعداد له من قِبَل أركان النظام السابق... وربما بمساعدة أساطين المخابرات الدولية... كآخر بديل للمقاومة ولاسترداد الأنفاس... وتم الشروع في تنفيذ ذلك المخطط بمجرد إنهيار ذاك النظام... أمام زخم الثورة وبفعل ضربات الثوار... فكان المشهد سريالياً مرسوماً بدقة... فهذا لاعب أساسي تم اختياره بعناية ضمن ذلك السيناريو... ليقوم بدوره التخريبي على أكمل وجه... مُدَثّراً برداء الثورة والثوار... أو بالحرص الوطني... أو بممارسة الديمقراطية وحق التعبير... أو بالدفاع عن حقوق الإنسان... أو بالدعوة للمصالحة الوطنية.. أو بممارسة مهنة الإعلام أو بغيرها... لتكون كل دعواته "حق أريد به باطل".. وفِعلَهُ مِعوَل هدم وإنقسام وزرعٍ للفتن بين أبناء الوطن... وذاك "كمبارس" يتفاعل مع المشهد بعفوية تامة... ويمارس نَزَقه وجشعه ورعونته.. ويساهم في صناعة مشهد الفوضى دون إدراك منه لأبعاده ومآلاته.. والشواهد التي نعيشها اليوم خير دليل على ذلك... والهدف في نهاية المطاف واحد...الإساءة لفِبْرَاير ولتضحياتها وإخراجها بصورة بشعة.. حتى لا تجد من يساندها أو من يتفاعل معها بإيجابية.. وتفقد بذلك زخمها.. ويؤول الأمر بالتالي إلى حالة من الأستياء العام... بسبب الفوضى العارمة التي تشهدها البلاد منذ اندلاع تلك الإنتفاضة.. وصولاً لتهيئة الرأى العام المحلي والدولي لما هو قادم من تسويات سياسية قد تصب في مصلحة نظام الجماهيرية البديع !!... وربما تعيد له شيئاً من أنفاسه الضائعة... ذاك النظام الذي اتحفنا طيلة أربعين سنة بشطحاته وهرطقته المعهودة... التي كانت سبباً رئيساً لما عشناه ونعيشه اليوم من تخلف وجهل ودمار لفكر الإنسان وتهديم لبنيان الدولة.. ولتنعكس المؤامرة على الثورة من قِبَل ذلك النظام في صورة... إما أن أحكمكم... أو أقتلكم... أو اجعل أيامكم من بعدي نار وجمر "حَمَر".
في ذات سياق التآمر... لعبت الدول العظمى دوراً هاماً في الإطاحة بنظام القذافي... ليس تعاطفاً مع الشعب الليبي في إنتفاضته ضد الاستبداد والظلم... أو لِغِيَرةٍ على حقوق الإنسان التي انتهكها ذاك النظام أثناء الثورة وما قبلها.. ولكن تنفيذاً لمخططات تآمرية... استغلت الثورة... لتحقيق مكاسب مشبوهة... ولإغراق ليبيا ومثيلاتها من دول الربيع العربي في مستنقع فوضى مُختَلقَة... ذات أبعاد استراتجية لا يمكن إدراك حيثياثها على المدى المنظور... وكأن لسان حال تلك الدول... من وراء دبلوماسيتهم المصطنعة... يقول... أيها العرب... لن نسمح لكم ان تجنوا ثمار ثوراتكم وتحققوا أهدافها... لن نترككم تنهضوا وتصنعوا مستقبلكم كما تشاؤون... دون تدخل منا في رسم مصائركم واقداركم... أيها العرب... إما أنْ ترضوا بالحُكّام الطغاة الذين نَصّبْنَاهم عليكم... والذين خدموا مصالحنا بدلاً أن يخدموا مصالحكم... وشوهوا تاريخكم ونسفوا أمجادكم... وقتلوا أبنائكم ودمروا أوطانكم وأهدروا ثرواتكم... ونجحوا في جعلكم رُكَام بشري مستهلك لمنتوجاتنا... تعيشون على هامش التاريخ.. لا وزن لكم بين الأمم... ولا تساهمون بشيء قَـيـّمْ يُذكَر... وإما أن نحيل حياتكم إلى جحيم الفوضى والإنهيار.. والتَحَسّر على ما فات.
العقلية الليبية:
لعل الاشكالية القابعة في عمق العقلية الليبية... تكّمُن في الإصرار على ربط ثورة فِبْرَاير ومخاضها العسير... بسلوك وانحرافات البشر... فالثورة حركة تغيير نحو الأفضل... تحمل في مضمونها مبادئ وقيم نبيلة سامية.. تنادى بها الأحرار عند مقارعتهم للاستبداد والظلم... وحاولوا ترسيخها على أرض الواقع... فصطدموا بالتخلف والجهل والفساد وبالتآمر على الثورة... أما سلوك الناس فهو نِتَاج تراكم تجاربهم عبر السنين... فالمتسلق منحرف بطبيعته...استغل مناخ الحرية الذي أتت به الثورة... فزاد من نفاقه وتسلقه من أجل تحقيق مكاسبه الشخصية على حساب الثورة والوطن... فهل رأيتم يوماً شعارات أثناء انبلاج ثورة فِبْرَاير نادت بـ " مطلبنا الفساد"... "مطلبنا تقسيم البلاد"... "مطلبنا نهب المال العام"... أو بأي مطلب يتنافى والقيم الإنسانية.. قطعاً لا.. بل على العكس فعند انطلاق فِبْرَاير... رُفِعَت عديد الشعارات... الكل يعرفها ولازال يتذكرها... "مطلبنا الحرية"... "مطلبنا دولة القانون والمؤسسات"... "ليبيا وحدة وطنية"... "ليبيا عدالة اجتماعية"... وغيرها من الشعارات النبيلة الرائعة... التي كانت بمثابة المبادئ التي دعت إليها الثورة... والتي تأسس بموجبها الإعلان الدستوري المؤقت... إذا فلماذا تُلَام فِبْرَاير؟.. على ممارسات سيئة لم تنادي بها ولم تدعو إليها ولم تكن طرفاً فيها.. فالثورة غير مسئولة عن أفعال الناس... بل إِنَّ من محاسن الثورة إنها كشفت معادن البشر... فالكثير... كانوا دون مستوى الوعي والإدراك... ودون مستوى الثورة وتضحياتها... وكانوا غير قادرين على استيعاب مبادئها... وتجسيد أهدافها... والتفاعل مع قيَمْهَا وثوابتها.. وعاجزين عن المشاركة في إحداث التغيير المنشود... والإنتقال من مرحلة الثورة إلى مرحلة الدولة.
إِنَّ التجربة المريرة التي عشناها طيلة أربعة عقودٍ عجاف... لا يمكن أن ننسلخ منها بسهولة... فهي راسخة في عقولنا الباطنة وفي تفكيرنا وفي سلوكنا وفي تعاملاتنا... وتجسدت واقعاً ملموساً في ثقافتنا... ونحصد نتائجها اليوم في ممارسة مناحي حياتنا... وفي تعاملنا مع واقعنا السياسي ومع تجربتنا الديمقراطية الوليدة.. شعبٌ... بكل مرارةٍ... ينحصر تفكير أغلبه... إلا من رحم ربي... في تدبر شئونه المعيشية... ماذا يأكل؟... وماذا يلبس؟... وماذا يركب؟.. وفي ماذا يسكن؟... وربما لا يهمه مصدر كسبه بمقدار أهتمامه ماذا يكسب؟... وقد يتم أستهوائه بملذات زائلة... لا تطلعات له... ولا مبادئ ولا قيم يتشبت بها ويدافع عنها... ويسعى لترسيخها واقعاً ملموساً... ولا حرص له على المصلحة العامة بقدر الحرص على المصالح الشخصية... فلن يكون ذاك الشعب بالطبع... قادراً على مجابهة التحديات التي تواجه الثورة والوطن... ولن يكون أهلاً لبناء الدولة.. ومن المفارقات أن نجد اليوم... من يحقد على الثورة ويصفها "بالنكبة".. ولا يتوانى عن رميها بأقدح العبارات.. ويُلبِسهَا مسئولية كل الإخفاقات الحاصلة... ضَناً منه إنها السبب في كل ما يجري... متناسياً بأنه... هو النكبة في ذاتها... بممارساته الشائنة وسلوكه المنحرف وعقليته البالية المتخلفة التي أعاقت مسيرة الثورة وشوهتها.. وكان دون تطلعاتها... وربما لَعِبَ دوراً ضمن دائرة التآمر عليها... فلا تجترئوا على الثورة وتحمّلوها شيئاً من خطاياكم وأوزاركم... فالثورة بريئة من أفعالكم كبراءة الذئب من دم يوسف عليه السلام.
خِتَاماً... لعل قريحة الشاعر حينما استلهمت روح الإنتفاضة... وتنفست عِبقَ شذاها.. عكست مشهداً جميلاً ينساقُ رقراقاً.. يروي حكايةَ ثورةٍ مضت... وتضحياتٍ جِسامٍ قُدِمت... كانت للأحرَارِ إِلهَماً ونبراسَ... فأنشد بذلك يقول...