(1)
في السادس والعشرين من سبتمبر عام 1962 وقع انقلاب عسكري باليمن بقيادة العقيد عبدالله السلال. الانقلاب كان كلاسيكيا حيث قامت القوات بالسيطرة على الاذاعة وإصدار البيان رقم واحد... وأستولت على قيادة الاركان ومعسكرات القوات المسلحة وقصفت قصر إمام اليمن... مرت عدة ايام قبل ان يكتشف الضباط ان صنعاء ليست دمشق او بغداد او القاهرة... فالإستيلاء على العاصمة لا يؤدي بالضرورة الى السيطرة على بقية البلاد... فالحكومة المركزية لم تكن تسيطر على القبائل المتواجدة خارج العاصمة... والتي رفضت تأييد الانقلاب وتمسكت بحكم الإمام... وللخلاص من هذا المأزق، اتجهت قيادة الانقلابيين الى مصر عبدالناصر... طالبة العون والتدخل والمساعدة العسكرية... ترددت مصر بعض الشيء غير انها حزمت امرها... وبدأت بارسال القوات للتدريب ثم للقتال... الى جانب قوات السلال الذي منح نفسه رتبة المشير... انقسم العالم العربي الى غالبية تؤيد التدخل المصري وترى فيه مساندة لثورة شقيقة... وأقلية كانت ترى فيه اما محاولة للهيمنة او مغامرة كان الشعب المصري في غناء عنها... امتد هذا الانقسام بطول الشارع السياسي العربي... فوصل شارعنا وتحديدا مقهى الحاج علي... الذي تجتمع فيه اطراف الجدل كل مساء "للعلب الكارطة" وشرب الشاي والقهوة واحيانا السحلب.
(2)
كان الحاج علي رحمه الله شخصية استثنائية... وتختلف عن الغالبية الساحقة من الليبيين آنذاك... كان كتلة من المزاح والمرح والنشاط... فهو احد الكبار القلائل الذين يمزحون معنا نحن الصغار... كان دائم الصنع للمقالب خصوصا ل'اصحاب الدكاكين'... المشهورين بالافراط في الجدية والعبوس... لم يكن مقهاه يختلف كثيرا عن بقية المقاهي 'العربية' بالمدينة... دكان متوسط الحجم تم تغييره باضافة حوض وقطعة من المرمر... وموقد نار ومجموعة طاولات وكراسي خشبية... في شهور الشتاء كانت تحل بالقهي طنجرة السحلب... وهو التغيير الوحيد الذي يطرأ على روتين المقهى... لم تكن هناك ثلاجة... فكانت القازوزة توضع قي صندوق به 'اسطنبة' ثلج ملفوفة بقطع الخيش... كان الحاج علي يؤدي جميع المهام بالمقهي... فهو الطاهي وعامل النظافة والمحاسب وصاحب المشروع... اما الطلبات الخارجية فقد كان ينقلها شاب ترجع اصوله... الى منطقة العجيلات فكان من الطبيعي جداً ان يناديه الجميع... بالعجيلي.
(3)
كانوا رواد المقهي في غالبيتهم من سكان الحي... وكانوا يختلفون في اوصولهم واعمارهم وحرفهم... لكنهم يجتمعوا في أمرين أثنين، الأول الوله بلعبة الرومينو والثاني إدمان التحليل السياسي... احيانا كانت احاديثهم تنتقل الى شأن اخر كمباراة لكرة القدم بين الأهلي والنجمة..أو الهلال والتحدي ... أو الحديث عن اختراع جديد أو سلعة نزلت بالاسواق ولكنه سرعان ما يعود للسياسة... وينقسم الحاضرون الى فريقين أحدهما "مع" والأخر "ضد"... كان النقاش في السياسة امتدادا للنقاش حول القضايا الأخرى... محاولة لاسكات الخصم بكل ما يمتلكه المرء من مهارات وحيل.... فمن فنون رفع الصوت والغمز واللمز إلى الاهانة والتجريح و"التركيب"... وكان الاستاذ خليفة في مقدمة من اتقنوا هذا الفن... الذي تحول فيما بعد الى تراث... تبنته وباخلاص شديد كل التيارات الفكرية والسياسية والرياضية في بلادنا...!! .. كان الاستاذ خليفة مغرماً بالنقاش ويتباهى بقدرته على الدخول في أي جدل... ومناصرة أي جانب أو أي قضية وكسب المعركة... غير انه في معركة "ثورة اليمن" اخطأ الحساب... فالشخص الذي تناقش معه كان وافدا جديدا على المقهي... وكان أحد رياضي نادي التحدى وفي رياضة الملاكمة تحديدا... فبعد دقائق من النقاش الساخن شهدت "قهوة سيدي علي"... أول معركة دامية في تاريخها... وكانت للأسف من طرف واحد... سالت الدماء من انف الاستاذ خليفة واتسخت بدلته الوحيدة... وبعد ان تدخل اهل الخير تم إخراج المعتدي ومنعه من التردد على المقهي... كما تم منع جميع النقاشات السياسية بالمقهي... وهكذا ساهمت ثورة اليمن في احداث تغيير جذري في مقهى الحاج على... وفي سمعة الأستاذ خليفة.....!!
عطية صالح الأوجلي