مقدمة:
تميز تأسيس الدولة الليبية المعاصرة بخصائص منها: ان التوافق والتراضي الشعبي والسلمي المصاغ دستورياً هو المؤسس للدولة الوطنية، وليس العكس. وبالمثل نظام الحكم الملكي الدستوري تم تحديده والتوافق عليه، ولم يتم بالمغالبة والاستقواء والفرض والاكراه. كما ان الجيش الليبي تكونت نواته عبر الجيش السنوسي في 9 اغسطس 1940 من المهاجرين الليبيين في مصر للمساهمة في تحرير ليبيا من إيطاليا اثناء الحرب العالمية الثانية، ليتأسس الجيش الملكي الليبي في 9 اغسطس 1952.
الان، وبعد ثورة فبراير 2011 التي حررت وخلصت ليبيا من ديكتاتورية حاكم عسكري عشائري لمدة 42 سنة، والذي اغتصب السلطة والدولة والوطن عبر انقلاب عسكري في سبتمبر 1969. بدل وغير فيها الديكتاتور القذافي الوانه، إلا انه احتفظ دائما بوظيفة وصفة "القائد الاعلى للقوات المسلحة"، ورتبة "عقيد"، وادار خلالها القوات المسلحة عبر "اللجنة العامة المؤقتة للدفاع" خارج إطار هياكل ما يسميه "سلطة الشعب"، وتحت قيادة رفيقه الضابط (عقيد/ عميد/ لواء/ فريق) ابوبكر يونس.
وفي اثناء ذلك ورّط القذافي الجيش الليبي في مغامرات ومقامرات فاشلة في الداخل والخارج، وكانت نتائجها كارثية على الوطن والجيش، ولكنها أشبعت نزواته وعكست اختلاله. إلا ان ابطال الجيش حاولوا مراراً التصحيح وانقاذ الوطن، ولم يتوقفواً رغم التضحيات البطولية ورغم شراسة وسادية الديكتاتور. لينتقم الديكتاتور من الجيش بتفريغه المتعمد من هيبته ودوره، بتأسيس كتائب أمنية وثورية، موازية وخارجية، سيطرت واستحوذت على كل مهام وادوار الجيش وميزانياته، مع حصر واحتكار قيادة هذه الكتائب القذافية في دائرة أقاربه ومقربيه فقط.
بعد الثورة، ورغم انخراط وانضمام ضباط وجنود من الجيش في الثورة من لحظات انطلاقها الاولى، وفي كل الجبهات والمستويات، مشاركة وعطاء وتضحيات، إلا انه برزت "ظاهرة" محاولة فصل الجيش عن الثورة، وفصل الثوار والجيش عن بعضهما، وبل جعلهما على طرفين متنافرين.
من غير الواضح كيف زرعت البذرة، والتي أدت إلى زراعة الشكوك بين الثوار والجيش، رغم علم الجميع بالتحام الجيش مع الثوار اثناء الثورة، مع استثناء الكتائب الامنية والثورية. وكيف تضخمت الشكوك، مع العلم ان الجيش الليبي لم يكن ابداً مثل جيش العراق البعثي، ومع العلم بتجربة الاثار والعواقب التدميرية لقرار الغاء وحل الجيش العراقي.
لا توجد في التاريخ دولة بدون جيش، والذي مهمته الحرب والحماية والدفاع عن الاوطان وتنفيذ سياسات الدول. ففي كل الدول المعاصرة هناك مؤسسة عسكرية احترافية، وفق أصول وعقيدة عسكرية تتبع وتلتزم بسلطة وأوامر السلطة السياسية العليا.
إلا ان واقع العالم الثالث، وفي تجارب كثيرة معروفة، ومنها ليبيا القذافية، يقول بان الجيش يتدخل وبل يسيطر على العمل السياسي، اما مباشرة بانقلاب وحكم عسكري، او غير مباشرة بالسيطرة على الدولة ومقدراتها من وراء ستار.
وبالمثل، ففي الدول المعاصرة، تحتكر الدولة استخدام العنف والسلاح عبر مؤسساتها العسكرية والأمنية ضمن الشروط والاعراف المعروفة. وبالتالي يصعب فهم وجود دولة مدنية تتوزع فيها مسؤولية الامن والدفاع وحمل السلام خارج مؤسستي الجيش والبوليس. اي ان الجيش والبوليس لا يستطيعان العمل المسئول دون تقيدهما بالسلطة السياسية، ودون تقييد حمل السلاح واستخدامه بهما وفيهما. كما انه من حق افراد الجيش والشرطة، بصفتهم مواطنين ان يحافظوا على حقوقهم المهنية والمعيشية، مقابل محاولات تهميشهم وإهمالهم.
في حين ان بعض فصائل الثوار المدنية والتي حملت السلاح اثناء الثورة تخشى ان يعود الحكم العسكري، وتخشى ان يتم عزلها وتحييدها. وقد يكون ايضاً امتناع وخوف بعض قيادات التنظيمات المسلحة من فقد امتيازات كسبتها، اذا تم تجريدها من سلاحها. اضافة الى وجود تخوفات قبلية واجتماعية من عدم قدرتها لحماية ذاتها من جيرانها وخصومها القبلييين.
وهكذا وربما، كان ولا زال هذا من الاسباب الرئيسية للتخوف المتبادل بين التنظيمات المسلحة والجيش. هذه التخوف تحول في احيان كثيرة إلى تنافر وبل تصادم انعكس حتى على وحدة الجيش، وبالتالي وحدة الوطن.
للاسف، عدم الفهم والتفهم واستمراره، المستفيد الاكبر منه منظمات التطرف الإرهابية وعصابات الاجرام المنظم، والتي تستفيد من تفاقم هذا الوضع، وبل انها تتوسع قوة وسيطرة على الدولة الليبية وجغرافيتها ومؤسساتها. وكذلك يجب عدم اهمال تشجيع اطراف خارجية لتجزئة الوطن وتقسيم الجيش بتإجيج الشكوك ودعم الصراع الليبي الليبي.
عاجلا قبل آجلاً، والخلاصة المهمة المعروفة والتي لا بديل عنها ولها، ان لا يمكن الدفاع عن الوطن وحدته وحماية امن المواطن وسلامته، وايضاً هزيمة الارهاب والاجرام بدون جيش وطني محترف وجهاز شرطة مهني. واي استطالة للوضع الراهن سيكون الجميع الليبي خاسراً، والمستفيد هم الارهاب والاجرام وتجار الحروب.
وبداية الحل تمر عبر التوافق والالتفاف والالتزام الشعبي على تأسيس دولة ليبية مدنية ديمقراطية، غير مؤدلجة، وتسمح بتنوع الأيديولوجيات الفكرية طالما التزمت بالشرط الوطني والمدني والديمقراطي للدولة. دولة مدنية لها جيش وشرطة.
ابراهيم قراده/ ادرار نفوسه
[email protected]