مقالات

د. سعدون السويح

الحافلة الأخيرة لم ترحل

أرشيف الكاتب
2022/07/29 على الساعة 14:44

يفتأ صديقنا العزيز د. الصديق نصر يميط اللثام عن إبداعات كتاب وشعراء ليبيين ما كنا لنكتشفهم أو نقف على حصاد أقلامهم لولا تعريفه بهم وكتابته عنهم، وبخاصة فى "ليبيا المستقبل" التي وصفها فأحسن الوصف بأنها "منبر لا منبر لهم"، فعلى صفحات هذا الموقع كتب عن الشاعر الليبي المغترب الأستاد مصطفى العربي وديوانية "الورد الأبيض" و"ليس معي إلا الحب" أولهذا الشاعر دواوين أخرى لم تطبع، وأعتقد أنه سيتبوأ بجدارة مكاناً مرموقاً فى خارطة الشعر الليبي، فهو يمتلك ناصية اللغة والصورة الشعرية، ويتمتع بنفس طويل فى قصائده العمودية، وعلّني أفرد مقالة أخرى للحديث عنه وتسليط مزيد من الضوء على تجربته الشعرية.

ويعود الفضل أيضاً إلى د. صديق فى تعريفنا بالقاص الليبي الراحل عبدالحفيظ الزياني الذي أسعدنا بنشر أربع قصص صغيرة له، فى هذا الموقع، مع التوطئة لها بمقدمات نقدية، وهي "السوريلا؛ و"الحافلة الأخيرة" و"بين الأذان والإقامة" و"أضغاث أحلام"، وجميعها من مجموعته المخطوطة (حكايات حزينة.. ربيب الصحراء يتذكر) التي يحتفظ بها، لحسن حظ القراء والنقاد، د. صديق، وقد أختار منها القصص الأربع التي أشرنا إليها للنشر فى ليبيا المستقبل، فأحسن بذلك صنعاً ونرجو أن تتاح له، بعون من المهتمين بالأدب الليبي، فرصة نشرها لتكون تحية للكاتب بعد رحيله، وليس ذلك بدعاً من الأمر، فلولا نهوض ماكس برود، صديق الروائي فرانز كافكا (1883-1924)، بنشر أعماله بعد موته، مخالفاً لوصيته بأن تحرق كتاباته، لما وصلتنا تلك الروائع من أدب كافكا  مثل"المحاكمة"و"القلعة"التي مهدت لحداثة الرواية الأوروبية، وفى القرن التاسع عشر، نهضت أخت الشاعرة الأمريكية إميلي دكنسون (1830-1886) بنشر شتات قصائد أختها التي لم ينشر منها إلا عدد قليل فى حياتها، فأثرت بذلك الصنيع الأدب الأمريكي والعالمي.

ومن الأعمال الشهيرة ذائعة الصيت التي نٌشرت بعد موت مؤلفها كتاب "الأمير" الذي كان رسالة فى فن الحكم أعدها الفيلسوف الإيطالي نيكولا ميكافيلي، وقد صدر الكتاب عام 1532، وكان ذلك بعد خمس سنوات من وفاة مؤلفه صاحب المقولة الشهيرة "الغاية تبرر الوسيلة" والتي ربما كان لها تأثيرها على الفلسفة البراغماتية أو الذرائعية فيما تلاها من القرون، بل وأتخدت منها أعتى الدكتاتوريات مبرراً لقمع الشعوب بحجة تحقيق المصلحة العليا للدولة. وفى هذه المقالة القصيرة أود أن أتوقف قليلاً فى محطة "الحافلة الأخيرة"، هذه القصة القصيرة التي شدتني فعلاً براعة بنائها القصصي، ولغتها، واتكاؤها على مفهوم "تيار الوعي"، وملامستها للواقعية السحرية، كما أشار د. صديق، التي تتلاشى أو تتداخـل فيها الفواصل بين "الواقعي" و"المتخيل".

ترتكز هذه القصة على تماهي السارد، أو بالأحرى بطل القصة إذ يستخدم السارد صيغة ضمير الغائب، مع أحداث فلم "دكتور زيفاجو"، المأخود عن رواية تحمل نفس الاسم للروائي الروسي لويس باسترناك، وأخرجه بإقتدار فني كبير وحس أدبي مدهش المخرج ديفيد لين، وقام فيه بدور البطولة، أي دور زيفاجو، الممثل القدير الراحل عمر الشريف أمام الحسناء جولي كريستي، وكنت قد شاهدت هذا الفلم لأول مرة، تلتها مرات أخرى، فى سينما الودان فى طرابلس.*

يـستخدم القاص بمقدرة فائقة تقنية "تيار الوعي"، وهي ترجمة للمصطلح stream of consciousness باللغة الإنجليزية، ويعود استخدامه الأول إلى الفيلسوف وعالم النفس الأمريكي ويليام جيمس William James فى أواخر القرن التاسع عشر، الذي ذهب إلى أن الوعي الإنساني نفسه هو عملية تطور وتشكل لاتتوقف، ومن ثم فإن الشخصية ليست مفهوماً ثابتاً لايتغير، وتيار الوعي بالمفهوم النفسي هو ذلك الانسياب المتواصل للأفكار داخل الذهن وتداعي الخواطر دون ترابط منطقي، فكأنها تيار دافق دائم الجريان.

وصار تيار الوعي فيما بعد تقنية سردية استخدمها روائيون كبار فى القرن العشرين أمثال جيمس جويس الأيرلندي، وخاصة فى روايته الطليعية الشهيرة "يوليسيوس"، والروائية البريطانية فرجينيا وولف، وآخرون.

يخرج بطل قصة الحافلة الأخيرة من قاعة السينما ليتدثر بمعطفه يتقي به المطر ولفح الريح  وأحداث الفلم عالقة بتيار وعيه، يتجه نحو المحطة.. يسأل عن الحافلة فيعرف أنها ستصل بعد قليل يذرع الشارع يتحدث مع صديق له يمر مصادفة بسيارته، ثم يمضي دون أن يدعوه للركوب.. تفوته الحافلة.. تغادر على مهل وصوت محركها ومفاصلها المعدنية غارق فى ضجيج الريح وصخب زخات المطر، يستمر فى المشي، ويتماهى مع د. زيفاجو وأحداث الفلم، فهو لم يعد يسمع سوى صوت وعيه.. تتلاشى المسافة بين الواقع والفانتازيا.. تلح عليه مناظر الثلج السيبيري التي رآها فى الفلم.. يخيل إليه أن ندف الجليد بدأت تتراكم على الطريق.. ينحني فيرى نفسه يرتدي حِذاءً تقيلاً فى قدميه، شالا حول رقبته، قبعة جلدية مبطنة على راسه، ويلاحظ "نمو فرو ابيض على أكتاف معطفه“ ويصير الطريق أكثر بياضاً.

وبمقدرة سردية فائقة، يجعلنا القاص نحس أن بطل قصته قد تحول فعلاً إلى د. زيفاجو.. تقفز إلى ذهنه عبارات كاملة من حوار الفلم.. وتصل الفانتازيا أو الواقعية السحرية مداها فى مشهد مدهش ترسمه ريشة فنان بارع، ها هو ذا يلمح عن بعد "كتلة بيضاء مبهمة منتصبة على حافلة الطريق.. فيجدها رجلا من ثلج يعتمر قبعة من قش.. عيناه حبتا طماطم حمراوان وأنفه جزرة صفراء متغضنة يمسك بيده مقشة قديمة، وفجأة تنطق هذه الكتلة الصامتة، وتطلب من بطل القصة فى صوت خفيض واضح "ولع لي من فضلك".

إنه مشهد رائع حقاً تبلغ فيه الفانتازيا قمتها، لتترك القارئ فى حالة إندهاش وانبهار، وبنفس المقدرة الفنية المدهشة التي ينقلنا فيها الكاتب لنحلق معه فى ذرى الخيال، ونتماهى نحن أيضاً مع تيار وعيه، يردنا فى آخر القصة بما يشبه الصدمة إلى الواقع، فقد ذاب رجل الثلج، وتلاشت مشاهد وأصداء د. زيفاجو، إذ يدخل بطل القصة بيته، ويخلع نعليه، ويرى وسط الغرفة "سفرة مغطاة بمنشفة يد".. وبعد أن يرفعها يجد تحتها "صحن بطاطس باردة مع بانينة خبــز وكوب من الماءْ". يحس القارئ، أو هذا ما أحسست به أنا على الأقل، بحزن شديد إزاء هذه العودة إلى العادي.. يتألم فقد ذاب رجل الثلج، واختفى د. زيفاجو، وبقيت "كسرة الخبز وكوب الماءْ".

هل يقول لنا القاص عبدالحفيظ الزياني إن الحياة بدون رؤية فنية تغدو واقعاً صلداً لا شعر ولا بهجة فيه، مجرد بحث عن "كسرة خبز وكوب ماءْ"؟

ربما كان ذلك، وربما أراد القاص أن ينقل معاني أخرى، لكننا بلا شك أمام عمل ممتع فنياً وذهنياً ولغوياً، ولعل لي عودة إلى قصصه الجميلة الأخرى، فالحافلة الأخيرة لم ترحل، ومازال عبدالحفيظ الزياني معنا بفكره وفنه ورؤاه، ولعله الأن فى ضفة الوجود الأخرى يحس أنه قد تحرر وعادت نفسه مطمئنة إلى ملكوت ربها.

* كانت مدينة طرابلس حتى أواخر سبعينيات القرن الماضي توجد بها دور جميلة للسينما مثل "الغزالة" و"اللوكس" و"الودان" و"الحمراء" و"الأوديون"، وغيرها.. وكنت وثلة من الأصدقاء رفاق الجامعة فى أواسط وأواخر ستينيات القرن الماضي نذهب أيام الخميس لنشاهد فى سينما "لوكس بشارع الوادي (عمرو بن العاص) أجمل الأفلام وأرقاها مثل "سيدتي الجميلة" و"صوت الموسيقى" و"زوربا اليوناني" و"أنا كارنينا".. وحين يرتفع الستار المخملي، تنقلنا الشاشة الفضية إلى عوالم من السحر والبهجة ذكرتني بها قصة "الحافلة الأخيرة". وفى زيارة اخيرة لي لطرابلس، وقفت طويلاً أمام أطلال سينما لوكس.. ومسحت آثار دمعة ساخنة، وشفتاي تمتمان!. بحثت عن مدينتى فلم أجد سوى أطلالها فى الذاكرة!

د. سعدون إسماعيل السويح

طالع:

مقالات الدكتور/ الصديق نصر

- قصص عبدالحفيظ الزياني

الشاعر مصطفى محمد العربي

 

 

الصديق بشير نصر | 29/07/2022 على الساعة 20:31
ما أحوج الأديب والمفكر إلى قارئ !!
تعتريني وأنا أقرأ هذه المقالة غبطتان : الأولى إنصاف القاص المبدع المرحوم عبد الحفيظ الزياني ، والثانية إطلالة صديقنا الأديب الشاعر الناقد د . سعدون السويح علينا من منبر ( ليبيا المستقبل ) بعد انقطاع . إن كل عمل أدبي خليق بأن يتصدى إليه النقاد ، فيميطون اللثام عن طواياه ودخائله التي قد لا يتفطن إليها القارئ العادي ، فيظهر محاسنه ومواطن الروعة التي تكتنفه ، فيبتهج بذلك صاحب النص لأنه وقع على قارئ حصيف صاحب عين لاقطة وحس مرهف . مقالة د . سعدون السويح لم تفاجئني لأنني أعلم تمام العلم مقدرة كاتبها على فهم النص وسبر أغواره واستكناه أسراره الدفينة . هنيئاً لنا بعودة د . سعدون ناقدا من على منبر ( ليبيا المستقبل ) منبر من لا منبر له ، وهنيئاً لصديقنا المرحوم القاص الفنان عبد الحفيظ الزياني أن وجد قارئا منصفاً ، وإن جاء هذا الإنصاف متأخراً من بعض قارئيه . ولعلنا جميعا نتعاون على نشر آثار هذا الفاضل ، فنكون بذلك أسدينا خدمة للأدب الليبي والثقافة الليبية ، فلا تكون أعمالُ المبدعين صرخاتٍ تنبعث من جوف وادٍ سحيقٍ لا ترددها إلا جنباتُه . شكرا د . سعدون ، ومزيداً من العطاء والتألق .
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع