أثناء تصفحي موقع لينكد ان، LinkedIn لاحظت غياب صفحة أحد الزملاء، والمعروف لدي بنشاطه المستمر، فأخذت في البحث داخل الموقع عنه، وسرعان ماوجدت ملف عزاء له يعلن وفاته نهاية العام الماضي، شعرت بخسارة كبيرة، خسارة زميل وصديق جمعتنا الكثير من الفعاليات والتطلعات العلمية والإنسانية منذ نحو 15 سنة، رغم البحار والقارات التي تفصلنا، وسرعان ما أخذت في إدراج صفحة باسمي الى ملف العزاء، تحدثت فيها عن هذا العالم الزميل والصديق، وعن فضله في الصحة العالمية وتطلعاته الإنسانية.
إن غاب فضلٌ يوما لصاحبه.. ففضله في العقول لم يغبِ.
وهنا لابد ان استرجع بعضًا مما نشرته عنه سابقا في اكثر من مكان منذ اكثر من عشر سنوات، وقد أرسلت نسخة منه إليه والزملاء في المنطقة العربية.
إنه رونالد لابورت (Ronald E. LaPorte) عالم الوبائيات والرئيس السابق للمركز المشارك لمنظمة الصحة العالمية في جامعة بيتسبرغ الأمريكية.
خلال حياته الحافلة بالإنجازات نشر أكثر من خمسمائة بحث علمي في الصحة العامة وعلم الوبائيات في أشهر المجلات العالمية، كما أشرف على مشروع “السوبركورس” العالمي Supercourse، وهو عبارة عن مجمع هائل للمحاضرات العالمية عالية الجودة تزيد عن خمسة الاف محاضرة قدمها علماء وباحثون من معظم أنحاء العالم في ميادين الصحة العامة والبيئة والوبائيات وغيرها، منها محاضرات بأكثر من ثلاثين لغة. يركّز هذا المشروع على التعريف بأهم المحاضرات العالمية ونشرها مجاناً على نطاق واسع عبر الشابكة (الإنترنت)، وتعزيز تبادل المعارف والخبرات للنهوض بالصحة العامة لاسيما في البلاد النامية.
لم يكتف بذلك بل أطلق في العام (2013) وهو على عتبة التقاعد مشروعاً رائداً يدعى المساعد الكبير في تصميم الأبحاث The SuperHelp desk بالتعاون مع إدارة مكتبة الإسكندرية بهدف مساعدة الباحثين في بلدان العالم النامية وتعزيز قدرتهم على القيام بالبحث العلمي والنشر في المجلات العالمية المحكمة.
نعم.. من الإسكندرية ومكتبتها التي يحبً، أصر أن يطلق هذه المبادرة التي تسعى إلى ردم الهوة بين البلدان المتقدمة والنامية في كتابة وتصميم البحث العلمي ونشره عالمياً، وذلك من خلال شبكة عالمية كبيرة يتطوع فيها الباحثون المخضرمون من العالم في إرشاد وتوجيه الباحثين الراغبين في تصميم أبحاثهم، والمساعدة فيما بعد بنشرها عالمياً الأمر الذي يعزز لديهم مهارات تصميم ونشر البحث العلمي.
منذ عدة سنوات وفي إطار مشروع “السوبركورس” الذي كنت أسهم بتعميمه على زملائي الأطباء، تبادلنا أول رسائلنا الإلكترونية، وقي أول رسالة له بادر قائلاً: أحب أن تخاطبني بـ "رون"، وقد أدهشني أنه يضع في ختام رسائله مع مئات الزملاء في جميع أنحاء العالم كل أسماء فريقه العلمي، وذلك تقديراً لدورهم، وكي يتسنى للجميع التعرف إليهم.
خلال الأعوام الأخيرة، أخذ يختم رسائله الإلكترونية بفقرة تعريف "الصحة" الواردة في ميثاق منظمة الصحة العالمية وهي: "الصحة هي حالة اكتمال السلامة جسدياً وعقلياً واجتماعياً، لامجرد انعدام المرض أو العجز"، ولما سألته عن ذلك، أجاب: لقد أدهشني أن معظم طلاب الطب لديّ لايعرفون ذلك فقررت وضعها دائماً في رسائلي مع الزملاء ليذكروا طلابهم وأقرانهم الأطباء بها في جميع أنحاء العالم "، وتابع قائلاً: للصحة جوانب اجتماعية واقتصادية وبيئية ينبغي أن نأخذها بعين الاعتبار إذا ما أردنا الوصول فعلًا إلى الصحة.
لم تقتصر مسيرة حياته على هذه المحطات العلمية والبحثية المميزة، واتسامها بالريادة في تعزيز الصحة عالمياً من خلال تطوير مهارات العاملين الصحيين ومعارفهم، بل تحلت أيضاً بروح الصداقة والدعابة الجميلتين اللتين تزينان العديد من رسائله، وبعد الأحداث الأخيرة التي ألمّت ببلادنا العربية، ها هو يطمئن على زملائه في أكثر من رسالة تحمل لمسات إنسانية رقيقة.
نعم، إنها ريادة ثالوثها حب العلم والعمل والإنسان.