يعد الطعام المحلى في أي مجتمع عاملا هامًا من مكونات هويته.. فالنشاط الإنسانى متعدد الأوجه، وهو يحدد من هم وكيف يعيشون حياتهم.. ويعبَّر عن الهوية الثقافية بواسطة العديد من الممارسات اليومية، كالطقوس الدينية، واللغة، والملابس والطعام والعمارة والفن والأدب.
والطعام التقليدي، بوصفه حاملا لذاكرة جماعية، يوفّر مادة جيّدة للدراسات الاجتماعية والأنثروبولوجية، فالطعام يمثل ما هو أكثر من مجرد مصدر رئيسي للعناصر الغذائية اللازمة لحياة الإنسان، بل الطعام التقليدى هو عنصر أساسي من عناصر ثقافتنا وركيزة هامة لشعورنا بالهوية التي تعرّف على أنها صيغة اجتماعية تتسم بالديناميكية، تتشكل ويعاد تشكيلها وفقًا لأطر اجتماعية، وبيئة محددة تعكس الخبرات المعاشة ضمنها، وتحتوي على التأثيرات الفردية، الثقافية، التاريخية، الاجتماعية والاقتصادية التي تشكل في النهاية خيارات الناس الغذائية، وكحال الممارسات الثقافية الأخرى، تقدم هذه الخيارات صورة عن كيفية تقديمنا لذواتنا وتعبيرنا عنها للآخرين فى هذا العالم.
والعلاقة معقّدة بين الإنسان وما يأكله حيث يتحوّل خلالها الطعام من غريزة إشباع إلى عنصر مؤسس في تكوين الإنسان نفسه وتشكيل عاداته وتقاليده، فالإنسان هو المخلوق الوحيد الذي لم يكتفِ بأكل ما يجده في صورته الخام فقط.. وإنما لجأ لابتكار وإبداع طرق متعددة لطهيه، وكلما تعددت الطرق والوصفات، زادت مهاراته الحرفية وأظن أنه من الأهمية بمكان لو استطاع خلق مقاربة مع القيم الإيجابية فى الحياة حتى تكون المتعة العقلية متوافقة مع الإشباع الغريزى من أجل البقاء.
وبناء على نموذج طبق "المبكبكة" كانت هذه المحاولة في فهم ثنائية الطعام والهوية، أي أوجه التداخل وتبادل الأدوار بين ما هو طبيعي وما هو ثقافي.
"المبكبكة" أكلة ليبية واسم الدلع لها هو "البكبوكى".. ويقول عنها بعض أهل السياسة الظرفاء أنها أكلة "ديمقراطية" حيث تتمثل بها معظم القيم والآليات الديمقراطية ومنها قيمة التعددية، فمكوناتها تختلف حسب نوع المكرونة المستعمل والمتاح من "الاسباغيتى إلى الخرز أو البينا... إلخ…" ومن ناحية أخرى وبنظرة عميقة إلى تعدد طرق تحضيرها.. نجد أن بها تنوعا كبيرا في المحتويات المصاحبة.. فمثلا يمكن أن تكون بـ "القديد"، او بلحم الخروف او صغير الجمل او الدجاج او الأرانب أو السمك أو "السي فوود".. إلخ، مع إمكانية كبيرة ومساحة من الحرية لكي تضيف لها شيئا من البطاطس أو الجزر أوالفول أوالحمص.
وإذا كانت الديمقراطية تدعو إلى مشاركة واسعة من أطياف المجتمع في الشأن العام فإن ذلك يدعونا إلى ملاحظة هذا الأمر مع المبكبكة، إذ من المعلوم أن الاستمتاع بأكل المبكبكة يكون عندما تؤكل فى جماعة وليس بشكل فردي، وهنا تبدو قيمة قبول الآخر والتعايش والمشاركة.
كثيرا ما ينتابنى شعور وتساؤل حول كيف لم يتأثر الليبيون بما تحمله المبكبكة من قيم ديمقراطية، فالتنوع الذي ذكرناه يشابه ما يحدث في المشهد السياسي.. حيث نرى جميع التوجهات وكل أنماط الشخصيات البشرية ابتداء من النزيه و(النص نص) و(البلاعيط والسفاتيل والزوفرية والمردف) ومشتقات ودرجات من كل ما سبق.
وهذا التنوع والتعددية أمر بديهى في الحياة بشكل عام، والأحادية المنغلقة سبب مهم لجعل الحياة قاسية ومملة.. فاعتبروا يا أولي الألباب.
إن التغيرات والتأثيرات السريعة التي أحدثتها العولمة طالت كل مكان وجعلت العالم قرية صغيرة. وبما أن العولمة ليست فقط تجارة مواد ورؤوس أموال وإنما أيضا تجارة أفكار وأذواق، فإنها تمثل التهديد الأساسي للثقافات المحلية لأنها تعمل على خلق “ثقافة كونية موحدة”.. التي أقبلها على المستوى السياسي "الديمقراطية" والاقتصادى "اقتصاد السوق المفتوح" ولكني لا أتفق معها فى محو الهوية الغذائية لمجتمعنا.
وختاما.. مَرْحَى بـ "المبكبكة الحارة الجارية" فى كل وقت وحين.