مقالات

سالم الكبتي

الشعراء الثلاثة... (1) أبوبكر جعودة

أرشيف الكاتب
2022/05/02 على الساعة 14:12

الشعر...

الشعر المكتوب بدم القلب، المتوهج بالنار، حالة خاصة ومنفردة، إنه - باختصار- يعيش دوماً، ويظل يمثل بشموخ أمام البصر، وجزءً من تاريخ الإنسان ونضاله الحافل في هذا العالم.

وطوال النصف الأول من القرن العشرين برزت في ليبيا مجموعة من الشعراء الذين أعطوا أحسن مثل لهذه الحالة الخاصة والتفرد، ووحدتهم ملامح متقاربة وقواسم تكاد تكون مشتركة في حب الوطن والكلمة والفن والجمال، وإذا كانت قد توافقت - إلى حد كبير - تواريخ ميلاد كل منهم وسنوات أعمارهم، فإن تواريخ وفاتهم أيضاً تماثلت وتقاربت في فترة زمنية هي حقبة الأربعينيات من القرن نفسه، فمنهما اثنان ماتا شهيدين، والثالث توفي بصورة عادية، كما أن تجاربهم في الحياة تعددت وتنوعت، مما أعطى هذه القواسم والملامح المشتركة بعداً لا تخطئه عين المتابع أو الباحث، لقد تغنوا بشعرهم غناءً جميلاً لم يعرف الانقطاع وكانوا يجيدون اقتناص اللحظة المناسبة للشعر بمهارة، الشعر العامي البليغ في تعبيراته، الفخم بصوره ومضامينه، كما عانى بعضهم مرارة الهجرة والشوق، وأوجعه عسف الاحتلال الإيطالي لوطنه، وأحس بالغربة المفجعة تدمي أعماقه - وسط أهله ومواطنيه - زمن ذلك الاحتلال، وكل هذا لم يمنعهم من نظم الشعر ومواصلة الغناء.

هؤلاء الشعراء الثلاثة هم: أبوبكر جعوده، وعبد الهادي الشعالية، وعبد الخالق الصابري، الذين ظلوا في تلك الفترة القاسية قطعة من الحياة الثقافية والفنية والاجتماعية في بنغازي الشاهدة على وقع خطاهم وتردد أنفاسهم عبر مجالسها ومناسباتها المختلفة ومقاهيها وأسواقها وشاطئها الطويل، وبالتالي صاروا قطعة من تاريخ الوطن وثقافته بالكامل، وبالقدر الذي تميزن به تجاربهم وعطائهم الفني والأدبي على مدى فترة من الأيام، تواصلت - بطريقة أو بأخرى - تجاربهم وإبداعاتهم في أسرهم وعائلاتهم أيضاً، فيما بعد!

فأبوبكر جعوده كان شقيقه الأصغر (عمر)(1) شاعراً بالعامية وله قصائد كثيرة معروفة لدى متذوقي هذا النوع من الأدب منها ما قاله حين اكتوى بنار الغربة - وأيضاً - خلال الحرب العالمية الثانية في هذا النص:

صابر وطاوي المرض في كنينه

فاقد قرينه، الخاطر مع الياس باقي جرينه

صابر وطاوي المرض في المخافي

فقد من يصافي، عليه موحهم طال والياس لافي

تركهم وما كان في الحـب جافي

وودع الطينه معيشه مع الـذل راهي غبينه

صابر وطاوي المرض نين زاده

وودع بلاده وودع اللي كان باهي قعاده

معيشة مع من يكيدك عناده

سودة وشينة وخصك إن كان هو علم في مدينه

إلى آخر القـصيدة.. وهي طويلة.

وعبد الهادي الشعالية، ابن عم الفنان (علي الشعالية)( 2) - والداهما شقيقان: السنوسي وعبد الله - وهو الذي أدى الأغنية الشعبية لشعراء عديدين منهم عبد الهادي نفسه، وأحمد رفيق، وأبوبكر جعوده.. ونظم بعضها أيضاً واستفاد من التراث الموسيقي للألحان الليبية الصميمة وطور فيها، وأسهم في تكوين فرقة الإذاعة الموسيقية منذ انطلاقها في بنغازي، وكان وراء الدفع بمجموعة من الفنانين وتشجيع بعض العناصر النسائية لخوض هذا المجال وسط ظروف لم تقابل بالترحاب في كثير من الأحيان!

وعبد الخالق الصابري، والد الفنان (عبد السيد الصابري)( 3) أحد رواد فن الغناء الليبي، وأول من تغنى بالأغنية الشهيرة (سافر مازال) التي نظمها الشاعر (عبد الحميد الشاعري).( 4)

هؤلاء الشعراء من ناحية أخرى شكلوا عبر تلك الحقبة البعيدة من التاريخ الثقافي للوطن بشعرهم وأغنياتهم وتجاربهم الفنية صورة واضحة المعالم (لشعر المدينة) الذي أفاد من قاموس التراث الشعبي الضارب في الجذور، وتساوقت مع بقية الشعر المناضل - في الداخل وفي المهجر - في مقاومة العدو الفاشي والانتماء إلى مشاعر الناس بالإفصاح عن أحاسيسهم الإنسانية التي يحلم بها كل فرد، وبما يتصل بمعاني الفرح والشجن، والحب والحنين، واللوعة والشوق.. وغيرها، وفق ما عرفت به مفردات البيئة الاجتماعية وظروفها - في ذلك الزمان - وتفاصيل أيامها المتتابعة.

ربما طغى - الحزن هنا وتأخر الفرح - ربما علت رائحة (شياط نار الغلا) و(صهد العشق) و(مآسي الموح والجوبة) كما يشار على الدوام وبصورة متلازمة، ربما وردت (التشبيهات والصفات) عن (غدر الحبيب) بعبارات جارحة، ربما حدث كل هذا مجتمعاً ودفعة واحدة، لكنها في كل الأحوال ظلت عوامل تعود إلى البيئة ذاتها والظروف والمعاناة التي تطل من خلالها - وفي النهاية تبقى _ رغم كل شيء - إشراقات تمنح المتلقي لحظت دفء وصفاء كبيرين.

هذا (النظم المديني.. أي الذي نشأ ونهض في المدينة، إن صحت النسبة تمييزاً) والذي قاله هؤلاء الثلاثة - وغيرهم - مثل في الواقع - على خصوصية ثقافية (بنغازية) - في تلك الفترة - وأبان عن جو فني وأدبي ازدهر - إلى حد ما - رغم جور الطليان وطول آذان الجواسيس المتربصة في كل اتجاه، فقد وعى هؤلاء الشعراء تماماً مآسي المحتل التي قام بها دون توقف في حق الناس.. أبناء الوطن، مستهدفاً بالطبع - في الدرجة الأولى - إفنائهم وتدمير ذواكرهم، وإزالة كل أثر للهوية الوطنية، وإلحاقهم به إلحاقاً مذلاً.. وإلى الأبد، وصاحب ذلك العطاء الشعري - بالعامية - دور إيجابي عظيم - وإن اختلف - نهض بمسؤوليته نفر آخر من المثقفين في المدينة - وباقي مدن البلاد - على قلتهم، وهم (المعلمون) الذين أدركوا واجبهم حق الإدراك وأفرغوا جهوداً مخلصة برسالتهم في تعبئة جيل من الطلبة وتعليمه وإرشاده في ليالي الاحتلال السود،( 5) إضافةً إلى أدوار مهمة أخرى لا تقل شأناً عنهما، من نفر آخرين من أبناء البلاد، غلبت الوطنية الحقة (التي تعمل ولا تعلن عن نفسها)، رغم الظروف المحدقة وقاموا بها كلٍ بالقدر الذي تيسر له !

كان الشعراء والمعلمون يقومون معاً، رغم تباين الوسيلة واختلاف التجربة (بواجب وطني مقدس) و(برسالة واحدة) في (وقت واحد) أستند إلى الحرف والكلمة والعطاء النبيل، فيما على جانب مقابل أيضاً أخذت المدينة تصحو على مبادرات تحرك بها شباب واعٍ ومخلص من مثل (محمد بوقعيقيص)(6 ) الذي ظل يسوق المجلات العربية القادمة من مصر (الصحف كانت ممنوعة بأمر الرقابة الإيطالية !) في دكانه الخاص ببيع السجائر والكبريت في ميدان الحدادة ما بين سوقي الجريد والظلام، ثم أصبح هذا الدكان مكتبة معروفة مع مرور الزمن يلتقي فيها - آنئذ - بعض مثقفي المدينة أمثال: أحمد رفيق، وأبوبكر جعوده، وعمر فخري المحيشي،( 7) وأحمد مخلوف(8).. وغيرهم.

شكلت الحصيلة الثقافية للدكان (المكتبة) ذخيرة لشباب المدينة وزادت من معرفتهم الفكرية والعلم بما يدور في الخارج من (اتجاهات وأفكار) وساعدتهم في نقلها ولو بصورة مبسطة إلى سكان بنغازي وتبعاً للأحوال السائدة زمن الاحتلال.إضافة إلى صدور جريدة الوطن بتحرير الصحفي الوطني عوض بونخيلة

تلك لمحة سريعة أو (بانوراما) مصغرة لواقع بنغازي الثقافي (المحدود)، ومصادره المتنوعة، وأهم ما يدور في منتدياتها وأسمارها التي تتيح لنا - بالتالي - الوصول إلى معرفة هؤلاء الشعراء ورصد حركتهم وسط - ذلك الواقع - بما توفر لهم من إمكانيات وقدرات.

أبوبكر إبراهيم جعودة:

أولهم المثقف الشاعر الشهيد، ولد في مدينة بنغازي أواخر القرن التاسع عشر عام 1899، ونشأ في بيت الأسرة المطل على بحر الشابي، وبالقرب من الولي (خريبيش)،(9 ) وحيث تجاور ذاك البيت من مكان غير بعيد (الرشدية)،(10 ) وقد حفظ بعض سور القرآن الكريم على يد أحد الفقهاء المغاربة الذين كانت تعمر بهم المدينة وقام بهذه المهمة لأولاد الأسرة، ثم نال قسطاً من التعليم طبقاً للأنظمة الدراسية المتبعة في تلك الأيام.

ضمت الأسرة والده (إبراهيم) العائد بأصوله الكرغلية إلى قبيلة (يـدر)،(11 ) ووالدته ذات الأصول الحبشية (مريم) وشقيقه (عمر) وأخوته من والده (صالح وموسى).

في تلك الأعوام الأخيرة من القرن التاسع عشر، حيث ولد الشاعر.. ستشهد بنغازي سـنوات مـن القحـط وشح الأمـطار، وسـتتـناهى إلى ســمعه عـبارات تـتردد (عـام الدقـيـق)( 12) ثـم (عـام الكبه)( 13) و(حريق سوق الظلام)( 14).. وغيرها مما وعته ذاكرة الشعب وتراثه، على حين تطرق سمعه بين حين وآخر في مربوعة الأسرة حكايات الرجال الكبار عن (عصيان القبائل) في المناطق المجاورة وتمردها المستمر على دفع الضرائب التي ضيقت السلطة التركية عليها الخناق، وفيما يظل يرنو باتصال إلى البحر الممتد أمام البيت الكبير ويستنشق نسيمه مراقباً انكسار أمواجه فوق بعض الصخور، سيدرك - في مرحلة لاحقة - بأن فلول الطليان وصلت إلى الوطن في بوارجها المفزعة بواسطته لتبدأ في قصف أول البيوت المطلة عليه من أجل أن يظل - ذلك الوطن بكامله - وذلك البحر شاطئاً رابعاً للسادة أحفاد الرومان الغزاة !

هنا تبدأ نفسه الشجاعة إحساسها المرير بعسف الطليان فتحمل بداخلها عدم الاستكانة إلى الظلم والهوان، وتستشعر أن وراءها (واجباً) يتعين القيام به، فأنشأ وهو صاحب الموهبة والثقافة في توجيه عامياته الشعرية إلى مواجهتهم منذ وطأت أقدامهم اللعينة الشاطئ الممتد أمام بصره، وعلى طول بلاده، وحالت دون استنشاقه النسيم بحرية، كان يهتف بكلماته المقاتلة وهي لا تقل أهمية وشأناً عن هتاف الرصاص حتى استشهاده على أيديهم بعد ثلاثين عاماً من غزوتهم البلاد في البيت الآخر الذي انتقلت إليه العائلة من بعدُ في شارع الطيرة بالبركة جنوب بنغازي، الطليان بفعلتهم هذه يدركون - بلا شك - دور الشاعر ودور كلماته في ارتفاع حدة الشعور ضدهم، فظلوا يترصدون خطاه إلى أن تمكّنوا منه ومن إخماد صوته دون أن يطفئوا نار شعره الأزلية.

يُعد أبوبكر جعوده نموذجاً لمثقف المدينة تحديداً منذ مطلع سنوات العشرينيات من القرن العشرين - ويُروى عنه أنه كان صاحب فلسفة خاصة في الحياة، ومتنوراً.. سبق عصره في ذلك الوقت، يمتلك رؤية بعيدة لبعض الأمور والموضوعات المثيرة للجدل، وفهم واسع لما يدور في (الزوايا من خبايا !)، وقيل أيضاً إنه كثيراً ما تحدث في منتدياته إلى جلسائه وأصدقائه عن تطور العلم تطوراً كبيراً في المستقبل، مشيراً في هذه الأحاديث والأسمار إلى أشياء سيتم اختراعها وصنعها وستغزو العالم من أقصاه إلى أقصاه، وتنقله إلى آفاق رحبة حدّدها - على سبيل المثال - في جهاز التلفاز قبل أن يُعرف في تلك الآونة البعيدة !

تميزت أيام حياته في بنغازي بعلاقات اجتماعية وثقافية وفنية مع كثير من أبناء جيله، وكذلك في المناطق المجاورة، ثم اجتازت حدود البلاد - كما سيرد - وقد انضوى في نادٍ ثقافي أسسه في بنغازي مع ابن شقيقته (حلّوم) من أصحاب الوعي الوطني، وهو الصحفي (عوض بونخيلة)( 15) هذا النادي في حقيقة الأمر كان نواة أو غطاء لتنظيم وطني يستهدف جمع شتات أبناء المدينة من (المثقفين الواعين) لمواجهة المحتل ومحاربة ثقافته، واحتواه في نشاطاته مع آخرين أمثال: أحمد مخلوف وعمر فخري وساسي بن شتوان( 16).. وغيرهم، وعندما استغولت يد الإرهاب الفاشية اضطر بعضهم إلى الهجرة خارج الوطن، فمضى مخلوف إلى مصر وتوفي هناك، وبونخيلة وبن شتوان إلى تركيا، فيما رحل جعوده إلى بغداد - منارة المجد التليد - والتقى شاعرها الكبير (معروف الرصافي)( 17) الذي كان يتواصل معه - قبل ذلك - من بنغازي بعلاقة فكرية ومراسلات عديدة.(18)

لقد أعجب جعودة بشعر الرصافي ونقله إلى محبّي الشاعر في جلسات الثقافة والفن التي شهدها النادي أو في المرابيع، وعلى شاطئ البحر في ليالي الصيف وزرادي الربيع في الضواحي المجاورة.

في بغداد وبمساعدة من صديقه الرصافي يحصل على عمل في إحدى الشركات النفطية ويشارك في بعض الأعمال الوطنية والمظاهرات ضد الإنجليز الجاثمين على أرض (العراق). ثم يضطر تحت عنف الملاحقة والمطاردة إلى الرحيل سيراً على الأقدام فيما تولت بعض القبائل العربية إخفاءه في مضاربها ويعبر أراضي الشام ليستقر فترة من الأعوام في فلسطين ويتزوج امرأة هناك ويواصل مساهماته الوطنية في المظاهرات الوطنية التي لم تتوقف ضد الانتداب البريطاني.

إن الشاعر والحال هكذا، أدرك تماماً أن الاحتلال في (بغداد) أو (القدس) لا تختلف مصائبه وجراحه المؤلمة عما يفعله الطليان في وطنه (ليبيا) فكلهم سواء بسواء.

خلال إقامته - في العراق وفلسطين - يحن الشاعر إلى الديار وينظم مزيداً من أشعاره العامية الممتلئة بالشوق للوطن والأهل والأصدقاء، ويحلم برؤيته محرراً، ويلقاهم فرحين بالنصر فينشد هناك:

بالسيف الغالي ينهان

الغربة ولا حبس الطليان

يا قلبي اصبر

وروم الفرقة ما تقلقشي

والطير الحر

إن كان حصل ما يتخبلشي

ربي قدر

أنا همي شيء يكدر

نبي نجلا ونخش البر

(نبي نسكن في وطن أمان)

خشيت سريره

سيبت الوطن مع ناسي

شينك تسكيره

يا رب عجل بخلاصي

ودفع الليرة

خير من الحبس وتسكيره

................

ومظّلم دونه بيبان

والملحمة طويلة في حكايتها عن معاناته في غربته، وتعكس أهوالها بصدق، وبالطبع الغالي هنا هو الوطن (ليس غيره) !

وعندما طفحت به عذابات تلك المعاناة المستمرة والبعد عن الوطن، وليس هناك إمكانية لاحتمالها، فارق زوجته (الشامية) التي لم ينجب منها،( 19) وقرر الرجوع إلى بنغازي، وتم ذلك في أواخر سنوات الثلاثينات، وفي طريق عودته مر بابن أخيه (علي صالح جعودة)( 20) المهاجر والمقيم في حمام مريوط بمصر، لقد وصله متعباً بعدما أثقلت الآلام والمواجع كتفيه، ونالت منه المعاناة بشكل لا يوصف، وأقام بضعة أيام كان خلالها موضع اهتمام وعناية باقي المهاجرين من أبناء الوطن، الذين يقدرون شعره وفنه، وكانت أحاديث أسمارهم - لا شك - تدور في سياقها الطبيعي وتحوم حول هم واحد هو (الوطن الأسير) خلف الأسلاك الشائكة، والقهر والعذاب من ذوي الحضارة الرومانية الخالدة !

ويقول محمد موسى جعودة( 21) عن عمه أبي بكر في تلك الأيام: (منذ صغري كنت أسمع - أحياناً - في الأحاديث العائلية التي تدور في البيت بين حين وآخر، أن لي عماً يدعى أبا بكر، هاجر إلى بلاد الشام، وفي أواخر الثلاثينيات - لا أذكر التاريخ بالضبط - وصل إلى المرحوم والدي من يعلمه أن شقيقه أبا بكر قد عاد إلى البلاد وأنه محجوز في الحجر الصحي - الكارنتينا - كما كانت التسمية شائعة في ذلك الزمان، وأنا لا أعرف - الآن - السبب الذي جعل والدي يأخذني معه وحدي ومن دون إخوتي الآخرين لزيارة عمي في الكرنتينا، والتي كانت - آنذاك - بجليانة، وأذكر أني كنت أحمل طعاماً مطهواً في البيت، وهناك - لأول مرة - رأيت المرحوم عمي أبا بكر رأي العين، وكان رحمه الله محدثاً لبقاً لطيفاً بشوشاً أحببته للوهلة الأولى، وهكذا هاجر من البلاد سنوات طويلة مبتعداً عن جور الطليان وبغيهم ليعود - آخر الأمر - إليها من تلقاء نفسه ليلقى حتفه على أيدي الطلائنة أنفسهم في مذبحة شهداء الأسرة في تلك الليلة الرهيبة).(22 )

في تلك السنوات القصيرة التي استقر بها في بنغازي منذ أواخر الثلاثينيات وإلى أبريل 1941 وهي الفاصلة ما بين - عودته واستشهاده - اغتم قلبه ولم يستطع (المجاهرة) بنشاطه الوطني، وكذلك بشعره، ولكنه ظل - رغم كل شيء - وبموهبته الكبيرة المتدفقة( شعراً وحماسة ووطنية)، يلمح إلى مقاصده وغاياته من مثل هذا القول:

أنا اللي عدوي في كنيني ساكن *** ثعبان طاوي ع الجواجي ماكن

أو:

دابينّك في دارهم داريهم *** وأنوي السفر وأصحى تردّ عليهم

وكـذلك:

لا هي مرض لا هو خصص لاغيه *** مليوع لكن ليعتي مغبية

والرموز هنا واضحة وكلها تتجه إلى الطليان واحتلال الوطن، وأحياناً يجاهر مع بدايات الحرب العالمية الثانية، وانغماس إيطاليا مع ألمانيا فيها، ولكن بهدوء وبقليل من التأسي:

يا عين رومي الصبر وانطاعيله *** وصبرك مع الطليان غير الليلة

وأيـضـاً:

ليام دارن والهوى واتاني *** والحب دردر خاطري وشقاني

ومثلما ضاعت وفقدت - للأسف الشديد - أغلب القصائد المبكرة لشاعر الوطن الكبير (أحمد رفيق المهدوي) التي نظمها في سنوات سبقت هجرته الأولى إلى تركيا مابين (1924-1934) وهي التي كان أودعها مخطوطة لدى صديقه الشيخ (موسى البرعصي)( 23) وقام بإخفائها في منزله الكائن بحي سيدي حسين ببنغازي، ثم فقدت جراء الحرب والتنقل والتفتيش المستمر لبيوت من تحوم حولهم الظنون.

ضاعت أيضاً كراسة نادرة لرفيقه الشاعر أبوبكر جعوده التي كان خبأها لدى أحد أقاربه عند هجرته اشتملت على كثير من نظمه ليفقد الوطن بذلك قطعة من تاريخه، وملاحم ممتازة تؤرخ وتوثق لأحداث مهمة مرت بسكان مدينة بنغازي ومعاناتهم زمن الطليان.

إن التغزل في الوطن لم يمنع جعودة - في بعض الأحيان - من تفكر اللحظات القديمة الهانئة، ونظم أبيات من الغزل في عيون (بنات الوطن) يقول في إحداهن:

بيضا وسود عيونها وصغيره

وجمة على ضاوي الجبين غزيرة

عينها عوّاقه

تحول دليل العقل من معلاقه

ظهر صيتها عيل نهار ملاقي

يدير على اللي فارغات دخيره

عينها قتّاله

تحول دليل العقل من معداله

خرخوط لاي عانس ولاي هجالة

صومين والثالث تريد تديره

في ليلة الجمعة السبت الموافق 5/6 أبريل 1941 كانت القصيدة الأخيرة للشاعر الذي استشهد مع أخويه (صالح وموسى) وأبني الأول (إبراهيم وعثمان) استشهدوا وهم يقاومون مجموعة من الطليان المسلحين الذين داهموا منزل الأسرة في شارع الطيره بالبركة بغدر منقطع النظير، وارتكبوا جريمتهم التي لا ينساها التاريخ على مرأى أفرادها من صبية ونساء، فيما ظلت أشعار أبي بكر جعودة الوطنية والعاطفية تنتشر في أفق بنغازي وتشتهر بمرور الأيام، ويتغنى بها الناس على اختلاف أذواقهم، وعندما بدأت إذاعة بنغازي اللاسلكية( 24) سنة 1950 تقريباً بثها لفترة معينة في اليوم، بادر الفنانون أنئذ إلى تلحين ما نظمه الشاعر وشرعوا في التغني به عبر الأثير وفاءً له واعترافاً بقيمته الوطنية والفنية، وليصبح شعره تراثاً يذكره الباحثون عندما يؤرخون للأغنية الليبية.

سالم الكبتي

الهوامش:

1.عمر إبراهيم جعوده، الأخ الشقيق للشاعر أبوبكر جعوده، وهو أصغر أخوته، ولد في بنغازي عام 1905 وبها تعلم، وعمل في وظائف إدارية زمن الاحتلال الإيطالي في (سوسه) بالجبل الأخضر، وأقام مدة مهاجراً في (السودان) في السنوات الأولى من الحرب العالمية الثانية، نظم الشعر العاميّ ومنه: (رفرف كما جنحان نسر إمبلاّ) و(ودي نولع نار بين ضلوعك).. وغيره من النصوص، شغل بعض المناصب العامة في الدولة (ناظراً للزراعة والغابات أيام ولاية برقة، ثم وزيراً للصحة حتى 21/8/1969)، توفي بطرابلس ودفن بهاعام 1983.

(2) علي السنوسي الشعالية، الفنان المعروف، ولد في بنغازي سنة 1919 وتوفي بها سنة 1973.

(3) عبد السيد عبد الخالق الصابري، الفنان والملحن، ولد في بنغازي سنة 1924، ودرس بها ثم ذهب إلى مصر سنة 1941 وأقام بها إلى سنة 1945 وتعلم خلالها العزف على العود، من الرواد الذين التحقوا بالإذاعة الليبية في أيامها الأولى في مجال الغناء، عمل وأقام فترة في إيطاليا، ولحن مجموعة من الأغاني لمطربين عرب، توفي بطرابلس في 22/6/1997.

(4) عبد الحميد محمد الشاعري، كاتب أغانٍ، ولد في العقيلة سنة 1936 تعلم في أحد مساجد بنغازي ثم بالمدارس النظامية، زاول بعض المهن والحرف، ثم شغل وظائف بإدارات المحاكم وبمصلحة التسجيل العقاري إلى تقاعده، عندما بدأت الإذاعة اللاسلكية إرسالها في بنغازي - مطلع الخمسينيات - أدى بعض الأغاني الشعبية بصوته، لكنه لم يستمر واتجه إلى كتابة الأغنية واشتهر بأغنية (سافر مازال) التي غناها أولاً الفنان عبد السيد الصابري سنة 1957، ثم الفنان (سلام قدري)، توفي بطرابلس في 26/10/1998 وبعدها - إحياء لذكراه ونتاجه الشعري - قام أصدقائه ومحبيه بتجميع وطباعة جزء من نصوصه الغنائية (أنظر ديوان - سافر مازال - الصادر في طرابلس 1999).

(5) يظل يحسب للمعلمين الوطنيين في أرجاء الوطن كافةً، الدور الكبير الذي نهضوا بتأسيسه في تلك السنوات من أيام الاحتلال الإيطالي للبلاد، وما بعدها أيضاً، فقد كان له الأثر الجليل في حياة وتكوين أجيال متعاقبة تشربت دروس الوطنية والانتماء للوطن إلى حد الارتواء ! وذلك من خلال الدروس والقصائد والتوجيه الواعي ونشأت هذه الأجيال بفضل تلك الجهود نشأة فكرية ووطنية خصبة، وهذا في مجمله - موضوع مهم - يستاهل من البحاث والدارسون عندنا التحليل والتأريخ له، وتقديم الأطروحات العلمية المتصلة به.

(6) محمد علي بوقعيقيص، من عائلات بنغازي المعروفة ولد بها أواخر القرن التاسع عشر، وتلقى تعليماً بها وعمل على تثقيف نفسه، وفي سنة 1926 افتتح دكاناً في ميدان الحدادة لبيع التبغ وألحق به جزءاً لبيع المحلات التي كان يرسل بها إليه من مصر بواسطة البحر شقيقه (عمر بوقعيقيص) ساهم بطريقته تلك في نشر الثقافة بين شباب المدينة المتعطشين للمعرفة والقراءة، وغدت مكتبة كبيرة استفاد منها الكثيرون، توفي ببنغازي في 19 نوفمبر 1956.

(7) عمر فخري المحيشي، الصحفي المعروف، وصهر الشاعر (أحمد رفيق)، زوج شقيقته عائشة، ولد في بنغازي عام 1899 رأس وأدار صحيفة (بريد برقة) بعد وفاة شقيقه الأكبر (محمد طاهر) سنة 1923، ثم مجلة (ليبيا المصورة)، توفي بقمينس أيام الحرب العالمية الثانية في 8 يناير 1942 ودفن بمقبرة الحزر بها.

(8) أحمد عبد الله مخلوف، من الشباب الوطني المثقف، ولد في بنغازي عام 1899 ومارس نشاطه الوطني بها، ثم هاجر إلى مصر حيث توفي بحمام مريوط سنة 1930، ويقال بأن وراء وفاته (تدبير إيطالي ما) له نظم بالشعر العاميّ، ضاع أغلبه واشتهر بهذا المطلع الذي نسج عليه آخرون من بينهم أبوبكر جعودة: "عمري عليه الوطن ما ننهاكن.. على كيفكن سيلن إن ضاق وعاكن".

(9) هو سيدي (خريبيش نجم) كما يعرف في بنغازي، وأصله من الأشراف، الجد الأكبر لعائلة (نجم)، من الأولياء المعروفين بالمدينة منذ القدم ، وكان ضريحه يقع بربوة عالية في مقبرة تحمل اسمه تطل على بحر الشابي، أقيمت من قديم على بقايا مدينة (برنيق) القديمة شقيقة (بوسبيريدس) الإغريقية.

(10) المدرسة الرشدية، مدرسة أقامتها السلطات التركية لتعليم أبناء المدينة وتوظيفهم فيما بعد في دوائرها في مناصب إدارية ومالية، كانت تقع كما يذكر الرواة مقابل مبنى البريد الرئيسي الحالي في شارع عمر المختار ببنغازي، وقد تخرج فيها كثيرون من ضمنهم: إبراهيم الشويهدي، ومحمد الساقزلي، وإبراهيم سامي الجربي، وأحمد البوري، وعوض سكيليل.. وغيرهم، وهي غير مدرسة العشائر في استامبول التي درس بها ليبيون أيضاً.

(11) من القبائل المعروفة في مدينة مصراته، ولها جذور ممتدة في بعض من المدن الأخرى: بنغازي ودرنة، وطبرق، والزاوية.. وغيرها.

(12) هو عام (1881) الذي تفشت فيه المجاعة الشديدة في مناطق برقة نتيجةً لشح الأمطار ونقص كميات الحبوب، وقد لجأت الحكومة التركية إلى استيراد الدقيق من الخارج لمكافحة تلك المجاعة، أنظر: بنغازي متصرفيلك، محمد مصطفى بازامه، الجزء الثالث، دار الحوار 1994.

(13) الكبة هو الأسم الشعبي للطاعون، الذي أصاب الناس بإصابات قاتلة صحبة مرض الجدري، سنة 1891. تجعلهم يتهالكون سقوطا على الأرض . قال تعالى في سورة الملك: (أفمن يمشي مكبا على وجهه أهدى أم من يمشي سويا على صراط مستقيم).

(14) المقصود به الحريق الأول للسوق المذكور الذي وقع سنة 1906 قبل الغزو الإيطالي بخمس سنوات، وأتى على سائر ما فيه، وهو غير الحريق الذي وقع سنة 1921، وتوافق مع الجدب الذي حصل في السنة ذاتها، وعنه قال (أحمد رفيق) قصيدته المعروفة: (سوق الظلام وزرع هذا العام رُميا من المولى بذات ضرام).

(15) عوض رجب بونخيلة، وأحياناً يعرف باسمه المركب (عوض فؤاد) صحفي وطني من مواليد بنغازي سنة 1898، وتعلم بها وناهض الاحتلال الإيطالي مع مجموعة من رفاقه ولوحقوا جراء ذلك، أسس في بنغازي صحيفة (الوطن) سنة 1920 هي غير (الوطن) التي صدرت لاحقاً في الأربعينيات عن جمعية عمر المختار، وقد أصدر منها بضعة أعداد واضطهد بسببها، فالتجأ إلى التجارة ثم هاجر إلى تركيا، متظاهراً بها، وهناك عاود نشاطه الصحفي والوطني ونشر قضية بلاده ومدافعاً عنها في صحف أجنبية عديدة، كان لهذا النشاط أثره على سمعة إيطاليا فحُكم غيابياً بالإعدام، أقام في أضنة بتركيا إلى وفاته في شهر نوفمبر 1960 وهو شقيق الشاعر الشعبي عبد الرحمن بونخيلة.

(16) ساسي بن محمد ساسي بن شتوان، من أعيان بنغازي وأحد مثقفيها، تقلد بها وظائف مختلفة في أواخر العهد التركي الثاني، وفي بداية الغزو الإيطالي صودرت أملاكه وحُكم عليه بالسجن مع مجموعات أخرى من الليبيين في 13/6/1915، ولمدة ثلاثين عاماً، ونفي إلى إيطاليا، ثم عاد إثر عفو عام واختير عضواً بمجلس الأوقاف في بنغازي سنة 1918.

(17) معروف الرصافي، الشاعر العراقي المعروف، ولد سنة 1875، وتوفي سنة 1945 أصدر أول دواوينه سنة 1911 كان عضواً في المبعوثان العثماني أيام الحكم التركي للعراق، في الفترة ذاتها التي شهدت عضوية آخرين عن ليبيا - الولاية العثمانية - مثل سليمان الباروني، ومحمد فرحات الزاوي، وعمر الكيخيا، ويوسف ين شتوان، له العديد من المؤلفات النثرية والشعرية ومخطوطات بعضها لم يطبع، وإن كان قد تم الكشف عن واحد منها وطبع أخيراً وهو (الشخصية المحمدية) الذي كتبه في الفلوجة سنة 1933 - منشورات دار الجمل، الطبعة الأولى - ألمانيا - 2002.

(18) يؤكد هذه العلاقة الأدبية بين الرصافي وجعودة بعض أفراد أسرة جعودة المقيمين في بنغازي، وقد ضاعت هذه المراسلات التي تؤيد ذلك، الأمل يبقى معلقاً في الكشف عن هذه العلاقة المهمة وتتبعها والإبانة عنها من قبل متخصصين في هذا المجال.

(19) يبدو أيضاً أن الشاعر لم يتزوج في مرحلة لاحقة، وربما اكتفى بالتفرغ لقضية الوطن والشعر معاً، أو لفلسفته في الحياة!

(20) على صالح جعودة مجاهد وعسكري ليبي ضد الاحتلال الإيطالي، ولد في بنغازي سنة 1898 ودرس بها التركية والعربية، وفي سنة 1916 ألتحق بمدرسة مصراته العسكرية ونال قسطاً من التدريب العملي والتعليم النظري في الشؤون العسكرية، شارك في معارك عديدة جرت ضد الإيطاليين في بنغازي وصبراته وغريان وترهونة ومسلاته، وفي سنة 1924 هاجر إلى مصر وأقام في حمام مريوط وأسهم في هجرته في تكوين الجيش السنوسي عام 1940 وصار أحد ضباطه، تقلد وظائف عديدة بعد عودته منها متصرفاً لبنغازي، وناظراً فوزيراً للدفاع، وتوفي بمدينة بنغازي في 31أغسطس 1987.

(21) محمد موسى إبراهيم جعودة، ابن أخ الشاعر، ولد في بنغازي، وتعلم بها، وشغل بعض الوظائف الإدارية في التعليم منها أمين سر إدارة المعارف، ورئيساً لقسم الموظفين، وهو من العناصر ذات الكفاءة في هذا المجال، زاول الرياضة لاعباً في كرة القدم بالنادي الأهلي، توفي سنة 1990، ترك مخطوطاً مهماً رقنه على الآلة الطابعة روى فيه أحداث ليلة الاعتداء على عائلته واستشهاد والده وعميّه أبي بكر وصالح، وابني عمه إبراهيم وعثمان، وكان شاهد عيان على ذلك وهو صبي، والمخطوط يقع في (40) أربعين ورقة، وبأسلوب جميل ومشرق، ولعل أسرته تهتم بأمره وتنشره في كتاب.

(22) (الليلة الرهيبة) - مخطوط- ص4، محمد موسى جعوده، بنغازي، أغسطس، 1986.

(23) موسى بن أحمد أبي شناف البرعصي، فقيه ومحامي، ولد سنة 1870، أتم دراسته بزاوية الجغبوب، وعاد إلى بنغازي وتولى وظيفة إدارية زمن العهد التركي الثاني في ناحية سلوق، واحترف المحاماة الشرعية ابتداءً من سنة 1915، نظم الشعر وتميز بالظرافة، وربطته صداقة وطيدة ومداعبات شعرية مع شاعر الوطن أحمد رفيق، توفي بجردينة جنوب بنغازي سنة 1940، خلال الحرب العالمية الثانية، حيث لجأت أغلب أسر بنغازي إلى المناطق المجاورة والبعيدة على مدى القصف اليومي المستمر لقوات الحلفاء والمحور الذي ألحق خراباً ودماراً كبيرين في المدينة.

(24) كان موقعها تحديداً في معسكر (الريمي) بالبركة التابع للقوات البريطانية في بنغازي في ذلك الوقت.

الصور: 

(1و2) الشاعر أبوبكر جعودة. (3) بنغازي ميدان البلدية عام 1939: من اليمين الشريف الماقني، عمر فخري المحيشي، أبوبكر جعودة، محمد عبدالله الجهمي (والد السيدة خديجة الجهمي)، يوسف الفيلالي وأمامهم الطفلتان/ حميدة وأمينة عمر المحيشي.

كلمات مفاتيح : شعر وشعراء،
لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع