مقالات

عطية صالح الأوجلي

التعكيسة.. !!!

أرشيف الكاتب
2022/03/23 على الساعة 22:19

"هيا انعكسوا".. جملة من كلمتين.. ولكنها كانت كافية لاطلاق حماسنا ولتسري في اجسادنا قشعريرة التحرر من قيود يوم دراسي ممل.. وللتمرد على سطوة المدرسين والإدارة.

كنا ندرس في مدرسة "توريللي".. وهي ثكنة عسكرية إيطالية سميت على اسم أحد ضباط الجيش الإيطالي.. احتلها الجيش البريطاني لفترة ثم قام بتسليمها لحكومة المملكة لتحيلها الى مدرستين ابتدائية واعدادية.. وكانت المدرسة تضم مبنى فريد من نوعه لا اعتقد بوجوده في مدارس العالم الاخرى.. كان بها مبنى من الخرسانة المسلحة اسمه "ريفودجو".. أي ملجأ بالايطالية.. حيث كان يحتمي به الجنود اثناء غارات الطيران المعادي. كانت المدرسة تضم عددا من الفصول وغرفة المدير وغرفة للمشرفين تزينها مجموعة من العصي المتعددة الاحجام والاغراض وكرات القدام واللوازم الرياضية.

كان بالمدرسة عدد يسير من الصبية صغار السن والحجم دخلوا المدرسة مبكرا ونالوا تشجيع أهلهم لهم واحبوا القراءة والشعر والحساب والتنافس على الإجابات في الفصل.. ونالوا بذلك عداوة واضطهاد مجموعات أخرى من الطلبة الذين يكبرونهم بالسن والحجم والذين كانوا قد تأخروا كثيرا في الالتحاق بالدراسة.. او تعثروا فيها.

كانت المرحلة الإعدادية بما تمثلها من تغيرات فسيولوجية ونفسية ومن ميل للتمرد وللعدوانية تلقي بظلالها على الجميع.. فكثير من طلاب السنة الأخيرة من الإعدادية قد اخشوشنت ملامحهم وتبدلت أصواتهم وازدادت شراستهم وميلهم للعراك.. بل إن البعض منهم كان لا يختلف في بنيته الجسدية كثيرا عن مدرسيه.

كانت مدرسة توريللي او "النهضة" كما أسمتها وزارة المعارف آنذاك.. تقع بالقرب من شاطيء بحر خلاب وجميل.. وكان يوجه نداء ساحرا للطلاب خصوصا في أواخر العام الدراسي للهروب من الفصول والواجبات الى المياه المنعشة.. والى جو الحرية.. فكان النداء "هيا انعكسوا".... الذي عادة ما يحتكر اطلاقه زعيم أو اثنان من الطلاب.. كنا ننتظره بشعف لان نداء الزعيم يلبيه الجميع.. ولأن الغياب الجماعي سيعفينا من العقوبة على يد الإدارة أو على يد الأهل.

"هيا انعكسوا".. ما أن نسمع هذه الصيحة حتى يحتضن كل منا كتبه ويخبئها في ثيابه.. او يقوم برمي شنطنه من على السور..لنخرج للاستراحة "الفطور" وكأن الأمر عادي.. وما أن يدق جرس انتهاء الاستراحة حتى ينطلق الجميع الى خارج المدرسة كل الى مقصده.. وسط تهديد المشرف الذي اعتقد انه في قرارة نفسه كان اسعد منا بهروبنا من المدرسة.. وبلحظات الصفاء والراحة التي منحناها له.

تنطلق مجموعة من كبار السن نحو البحر او نحو الملاعب الرياضية.. ويرجع البعض الاخر الى بيوتهم.. بينما تذهب ثلاثة أجساد نحيفة وضيئلة الحجم في سعادة وهدوء نحو مكان لن يخطر ببال الطلاب الاخرين او الإدارة.. كما نتجه صوب المكتبة العامة.. سالم الشريف والمرحوم محمد قرقوم وعطية الاوجلي.. نذهب سويا ونحن نتحدث بلهفة واعتزاز عما سنطالعه من قصص او نستعيره من كتب.. كانت هذه الرحلة الخاصة بنا تمنحنا نوع من التميز وحماية الذات في وسط كان يعتمد على عضلات لم نكن نملكها وعلى روح عدوانية لم تتملكنا.

كانت المكتبة العامة بشارع عمر المختار.. والتي ما ان نطل عليها حتى يرحب بنا امين المكتبة الذي كنا من اشهر رواد مكتبته.. قرأنا فيها رويات غالبية الكتاب المصريين مثل نجيب محفوظ والسباعي وعبدالقدوس وعبدالحليم عبدالله وغيرهم..وكتب التاريخ وسير العظماء.. كما طالعنا العديد من الرويات والمسرحيات العالمية.. خصوصا رواية البؤساء لفيكتور هيجو التي قرأتها اكثر من عشر مرات.. وعشت حياة عذابات وتضحيات جان فالجان.. ساهمت تلك القراءات في تشكيل وجداني وصاغت بدايات وعيي بذاتي وبالعالم من حولي.. وهكذا تحولت "التعكيسة".. الى زاد معرفي والى عشق للمعرفة والاطلاع دام عمر بأكمله.. وهو أمر دونما شك لم يكن ليخطر ببالنا او ببال من اطلق صيحة التعكيسة.. في ذاك اليوم.

عطية صالح الأوجلي

20/6/2020

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع