مقالات

سالم الكبتي

معمر القذافي والجامعة الليبية (5-5)

أرشيف الكاتب
2022/02/26 على الساعة 10:32

(لكل نبأ مستقر وسوف تعلمون) صدق الله العظيم 

.. وعلى هامش هذه التداعيات التي نشأت عن مقال القذافي في جريدة الجندي وتراجعه إلى حد واضح إلتقاه صديقه القديم علي أبوزعكوك الذي كان حضر إجتماع مجلس الجامعة وأعضاء هيئة تدريسها في كلية الهندسة في حوار مطول نشرته مجلة قورينا التي يشرف على تحريرها في تلك الأيام أبوزعكوك نفسه. تصدرت الغلاف صورة للقذافي بزيه العسكري وبأهداء منه إلى المجلة وقرائها. صدر العدد في فبراير 1972. شارك في الحوار أيضا عضوين من القيادة كانا حاضرين..وهما إمحمد المقريف وبشير هوادي.

تناول الحوار موضوعات عديدة شملت مشكلة البطالة والعمال والمشاركة في عقود أمتياز شركات النفط العاملة في ليبيا ومجالات الأستكشاف ثم مضى الحوار إلى قضايا مهمة تشغل الرأي العام في الجامعة والشارع الليبي عموما.

كان هناك أخبار تنتشر على الدوام في البلاد بأسرها بأن ثمة تعذيب متواصل للمعتقلين السياسيين في سجن طرابلس المركزي (الحصان الأسود)ونتج عن ذلك التعذيب حالات وفاة وإصابات خطيرة. شكل القذافي هيئة تحقيق للنظر فيما يدور حول تلك المسألة التي فاحت رائحتها وترأسها النقيب المقريف. حققت الهيئة المذكورة في الحالات وإستعانت بلجنة طبية وقدمت تقريرها المصحوب بالصور مع تقارير الأطباء وإفادات المعذبين. وعلى حد قول القذافي جوابا عن سؤال يتعلق بالتعذيب أشار بأنه لحسن الحظ أن الأضرار التي حدثت كانت طفيفة ولم تكن بحجم ما أشيع عنها. ثم فلت بكل كذب وإدعاء من سؤال تحدد في حوادث وفاة في السجن وهل كشف التحقيق عنها. أجاب القذافي :مادعانا للتحقيق أصلا هو ماأشيع عن حوادث موت في السجن وقد تبين من نتيجة التحقيق أن هناك بعض الأفراد الذين ماتوا عند ذويهم لم يموتوا أثناء الأعتقال وهناك من كان كبير السن أو مريضا قبل أن يعتقل ثم مات موتا طبيعيا ولكن لم يثبت التحقيق أن أحدا مات من التعذيب وهناك عدد محدود لحقت بهم بعض الأضرار وهذا شئ يحدث عادة في كل التحقيقات في العالم ولكن في الحقيقة سيشرف الثورة الليبية أن تكون محترمة لكرامة الثورة والأنسان وهكذا سيجعلها تنفرد عن بقية الحركات الثورية في العالم وبأن تطبق قاعدة أن المتهم برئ حتى تثبت إدانته!

ثم أشار بأن مجلس التحقيق عرض تقريره على القذافي وبعد إطلاعه عليه شكلت محكمة للنظر في القضية برئاسة الرائد عبدالمنعم الهوني وبعضوية أثنين من الضباط وهي ستكون محكمة عسكرية خاصة ولن تذاع جلساتها بل ستكون محدودة وموجزة بأعتبار أن التحقيق مستوف وواضح ومفصل ولعل عضوا أو أكثر من مجلس قيادة الثورة سيمثلون أمام المحكمة!!

وفي جواب أخر نجح في التملص منه كالعادة عن سؤال يتعلق بالمؤامرات التي صادفت الثورة ولماذا لاتكشف ولاتذاع جلساتها علنا لتنوير الرأي العام.. قال: لم تحصل في البلد ألا مؤامراتان. الأولى قامت بعد الثورة بشهرين وصدرت فيها أحكامها. والثانية هي مؤامرة عائلة سيف النصر وأفراد من بقايا الأسرة السنوسية من بينهم أحمد الزبير وقد سبق لي أن أعلنت عنها.

وواصلت المحكمة جلساتها وعندما تنتهي ستذاع الأحكام على الشعب!!

الحوار الطويل تطرق إلى إنتخابات مجلس الشعب والدستور الدائم الذي قال حوله القذافي.. في الحقيقة أن تفكيرنا ثوري أصيل وليس تفكيرا تقليديا والعبرة ليست بالدستور الدائم أو الدستور المؤقت أو في عدم وجود الدستور أصلا فبريطانيا تحكم بدون وجود دستور والعالم يصفها بأنها دولة ديمقراطية!!

وتحدث عن الخسارة في تحويل الأرصدة وتجنيس الفلسطنيين في ليبيا وتشجيع الرأسمالية المشروعة واللغة العربية والدين والمدرس الملتزم ومشاكل التعليم ومراجعة القوانين الوضعية على ضوء الشريعة الأسلامية والرقابة على الصحف وتعلل بأن لو كان هناك رقابة لما نشر المقال الذي أهان أعضاء هيئة التدريس الجامعي في جريدة الجندي! وأشار في نهاية الحوار بأنه إعترافا بمكانة الجامعة وبمكانتها في المجتمع الثوري فنحن نهتم كثيرا بها ونتمنى أن تقوم بدورها الفعال ولهذه المكانة الخاصة أعطينها الضوء الأخضر الأن لكي تسير في مسيرتها ونحن نرغب في أن نراها دائما سباقة إلى العمل الجاد وهذه المقابلة الأولى من نوعها في الجمهورية ماهي إلا إعتراف بالمكانة التي تحتلها الجامعة ومجلة الطلبة (قورينا).

والأقوال عند القذافي في كل الأحوال تختلف عن الأفعال. وقد مل الليبيون من الأستماع إلى مايقول مقارنة بما جرى على الواقع المرير. قضايا تحدث لها أصداؤها على الأرض وينكرها القذافي جملة وتفصيلا. لقد مات الكثيرون في السجن نتيجة للتعذيب والتصفيات وأستمر الحال وهو يعلم بما يجري دون أن يرف له جفن. أفعاله ونواياه تخالف مايدور. يمارس الكذب الفاجر على مسمع الدنيا في خطاباته وتصريحاته ثم يتخلص ويتراجع لكي يكسب الوقت ويضرب ضربته في الجامعة أو خارجها. حاول في هذا الحوار أن يهادن الجامعة وطلبتها ويطبطب عليهما من خلال المجلة لكنه لم يفلح. وستبدي الأيام والوقائع الكثير مما يضمره القذافي علانية ودون حياء. وتعزيزا لتناقضات شخصيته وفكره وأكاذيبه أسوق هذا المثل البسيط.. ففي تلك الأيام حضر القذافي أيضا إجتماعا لمجلس الجامعة عقد بعد الأجتماع الأول في مقر إدارة الجامعة في بنغازي. وظلت زوجة النقيب حسين الصديق المعتقل في السجن أيامها دون تهمة (كان القذافي يتعقب شقيقته في الجامعة كما أسلفت ويود التواصل معها والتقدم لزواجها وزجره حسين فكف عن ذلك لكنه أسر الأمر في نفسه بعد سبتمبر). ظلت تنتظره حتى يخرج من القاعة فتقدمت إليه بطلب العفو عنه لأنه لم يرتكب جرما وهو موجود ظلما في السجن. إستلم الطلب ووعدها خيرا وبأنه سيرجع إليها قريبا.. وحسين صديقنا ورفيقنا.. وكلام من هذا الهراء والكذب. ذهبت الزوجة التي تعاني الفقد والوحشة هي وصغارها وكلها إطمئنان على ضوء كلام القذافي. وهنا ظل بعض الأساتذة من أعضاء المجلس يرافقونه إلى السيارة التي سيستقلها توديعا له. حين ركب القذافي. رمى بالطلب بكل صلف.. وقال.. والله ماهو طالعه لو كان تطبق السماء على الوطا. وصلت الكلمات إلى المودعين وشعر أغلبهم بكذب القذافي الصراح. ذلك حدث عام 1972 رغم وعوده للزوجة. وأطلق سراح حسين الصديق بعد معاناة إستمر إلى الثاني من مارس 1988. خرج مع بقية السجناء.

ومع ذلك ظلت الجامعة محور إهتمامه وشغله الشاغل ويتهيأ لضربها في اللحظة المناسبة. حاول الأحتواء لبعض الطلبة وجند مجموعات منه لصالحه يكتبون التقارير ويقومون بالوشاية والترصد. كما إحتوى بعض الشخصيات الضعيفة التي تبحث عن مصالحها من أعضاء هيئة التدريس. وفازوا بالغنيمة في كثير من الأحيان. ظلوا من المرضي عنهم وحصلوا على وظائف في الداخل والخارج لمدد طويلة. كان القذافي يجيد معرفة هذه الشخصيات ويغريها ويضمها إليه لأنه يعرف أنها بلا موقف أو رجولة. ولم يتوقف تدخله المستمر في شؤون الجامعة ومنع زملائه الضباط خاصة الأعضاء من حق إكتسبه في العهد الملكي بمواصلة الدراسة في الجامعة وسمح لذلك لحوارييه وذوي القرابة فقط. كانوا عيونا له أيضا في الجامعة وضد أي حراكا وطني متوقع خلالها.

وفي هذه الأجواء عمل على أن يمتد الأتحاد الأشتراكي في الجامعة وصار من الضروري لديه أن تتشكل الوحدات الأساسية في الكليات لتضم الأساتذة والعاملين والطلبة ويتم العمل السياسي من داخلها حصارا وخنقا لأية محاولات أو مبادرات أخرى. كان ذلك تحديا منه للطلبة على وجه الخصوص الذين يواصلون نضالهم الطويل لأنشاء إتحادهم المستقل. وصرح بأنه على الطلبة أن يهتموا بالتعليم ولايتدخلوا في السياسة وأنه سيسحق كل طالب يشتغل بالسياسة وأنه سيجعل عمداء الكليات من الضباط وهو على إستعداد للأستغناء عن هؤلاء الطلبة ويستورد مكانهم طلبة من مصر أو من الخارج!

والمعارك تستمر بين القذافي والجامعة. لايهنأ باله حتى سقوطها تحت قدميه. إدارة ومناهج وأنظمة ولوائح وطلبة وعاملين وأساتذة. ففي يناير 1973 صدر أمر من نائبه عبدالسلام جلود وكان رئيسا للوزراء بأبعاد ونقل مجموعة من طاقم إدارتها بحجة رجعيتهم وهم :أحمد العنيزي وعوض الشريف وجبريل الزروالي ومحمود شمام والسنوسي العنيزي وفيصل فخري وحل أخرون في مواقعهم. ثم في مارس 1973 شهد مجمع سليمان الضراط في بنغازي مواجهة حادة مع القذافي من قبل مجموعة من الطلبة والأساتذة. حوصر فيها معمر وأحرج وفقد السيطرة على أعصابه أثناء النقاش ولعن دين أمريكا على الهواء!

وبدأ السوس يدب في الطريق إلى الجامعة. إنهار كل شئ بفعل تصرفات القذافي ومن يدور في فلكه في إبريل 1973. خطاب زوارة. خيانته لتعهداته مع زملائه بشأن السلطة وتسليمها للشعب. تشكيل اللجان الشعبية وإعلان الثورة الثقافية التي أحرقت كل شئ. صارت الأدارة في الجامعة والكليات مختلطة وتضم الطالب والأستاذ والموظف والعامل. تجول القذافي في الكليات وناقش الطلبة والأساتذة في الثورة الشعبية وضرورة تحقيقها في الجامعة. إنقلبت الأمور رأسا على عقب. دخلت البلاد كلها في دوامات من الخراب والفوضى. تغيرت الجامعة تماما وصارت جامعتين في طرابلس وبنغازي. صاحب القرار مايزال مجهولا حتى اليوم لكن القذافي غير بعيد عنه. حدث شرخ في أصالة الجامعة ووطنيتها. وسيطر (الثوريون)على الأمور. وتغلغل القذافي داخل المعقل الوطني بعيونه ومخابراته وتلاميذه. وعلقت المشانق في الكليات. وإعتقل الكثير من الطلبة والأساتذة الوطنيين الذين واجهوا وتصدوا لتصرفاته وكوارثه مع من يتفنن في تحريكهم. وأبعد العديد منهم أيضا خارج الجامعة وأضحى الكتاب الأخضر والنظرية (علما)يدرس في الجامعة. مواد فيها رسوب ونجاح وتعقد من أجلهما الندوات ويختار للدراسة العليا حولها (المعيدون) الذين يستوجبون الضحك والسخرية. لم تعد الجامعة جامعة كما كانت. أضحت مهزلة مثل بقية المهازل.

.. ويظل التاريخ ومحكمته هي العادلة.. وهي الميزان الحق.

وفي كل الأحوال فأن الدمار لايخلف في كل الأوقات سوى دمارا مثله يظل الوطن يعاني منه أجيالا طويلة.. والعافية ستناله بالقيراط على دفعات.. وليس بالقنطار دفعة واحدة!!

سالم الكبتي

راجع:
معمر القذافي والجامعة الليبية (1)
معمر القذافي والجامعة الليبية (2)
معمر القذافي والجامعة الليبية (3)
معمر القذافي والجامعة الليبية (4)

 

الصور: (1) و(2 ): جزء من الحوار مع القذافي في مجلة قورينا . فبراير 1972 (3): خبر عن اجتماع يتعلق بالاتحاد الاشتراكي في الجامعة ببنغازي 1973  (4): نموذج لبطاقة عضوية الاتحاد الاشتراكي العربي بوحداته الاساسية التي شكلت في ليبيا ومن بينها الجامعة. (5) و(6): جزء من صفحات نشرة صدرت تغطية لحوار القذافي مع طلبة كلية الطب في بنغازي عقب تشكيل اللجان الشعبية مايو 1973. (7): الاستاذ الدكتور عمر التومي الشيباني رحمه الله أخر روؤساء الجامعة الليبية (1969- 1973).

لا تعليقات على هذا الموضوع
آخر الأخبار
إستفتاء
ما التقييم الذي تسنده لـ"السقيفة الليبية" (بوابة ليبيا المستقبل الثقافية)
جيد جدا
جيد
متوسط
دون المتوسط
ضعيف
كود التحقق :
+
إعادة
لمتابعة ليبيا المستقبل
جميع المقالات والأراء التي تنشر في هذا الموقع تعبر عن رأي أصحابها فقط، ولا تعبر بالضرورة عن رأي إدارة الموقع