لو أنّ جيشاً من جيوش أعداء المسلمين جاء هذه الأيام بقضّه وقضيضه غازياً للمدينة المنوّرة ـ على ساكنها أفضل الصلاة وأتم التسليم ـ فهبّ المسلمون فيها يتشاورون على خطة للدفاع عن مدينتهم؛ ثاني الحرمين ودار المهجر والمثوى. فقام فريق من المسلمين وقال: "إنّ هذا الهجوم ليس بأول هجوم من أعداء الله على المدينة، فلقد جاءت قبله الأحزاب لحرب رسول الله صلى الله عليه وسلّم و اجتثاث دينه، فحريّ بنا الإقتداء بسنته والإمتثال لأمره وهو القائل: "تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي كتاب الله وسنتي"، وواجب علينا إتباع هديه في الدفاع عن المدينة، فقد سمع الرسول صلى الله عليه وسلّم اقتراح صاحبه سلمان الذى قال له: "كنّا في أرض فارس إذا أحاط بنا العدو وليست لنا القوة على حربه ولا المقدرة لصده، حفرنا خندقًا نحمي به أنفسنا فلا يصل العدو إلينا". فأخذ الرسول صلى الله عليه وسلّم برأي سلمان وأقرّه، فحفروا خندقاً لم تستطع جيوش الأحزاب اختراقه... ونصر الله المسلمين بالخندق وبجند آخرين.
وأردف هذا الفريق قائلاً: "فالأولى بنا اليوم وفي هذا الموقف الحرج أن نقتدي بفعل الرسول ونتّبع سنته، فنحفر خندقاً كما حفر صلى الله عليه وسلّم وأصحابه خندقاً.. وفي فعلنا هذا سنحقق الفوز والفلاح ومرضاة الله تعالى القائل: "من يطع الرسول فقد أطاع الله"، والقائل: "يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول..."، والقائل: "وما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا..".
فانبرى لهم فريق آخر من المسلمين وردّ عليهم قائلاً: "لقد صدقتم! فلا فلاح لنا إلاّ في إتباع سنّة الرسول صلى الله عليه وسلّم، والإقتداء بفعله واقتفاء أثره، ولقد صدقتم؛ فطاعة الرسول من طاعة الله ومخالفته من مخالفة الله، ولقد صدقتم؛ فلقد حفر الرسول صلى الله عليه وسلّم وأصحابه خندقاً بطول 2000 متراً وعرض 4,50 متراً وعمق 3,50 متراً حول المدينة لحمايتها. ولكن... يا أخوتنا إن اقتراحكم هذا فيه سؤ فهم لسنة الرسول عليه الصلاة والسلام وفيه لبس لمفهوم (الغاية والوسيلة)، فلم تكن غاية الرسول عليه الصلاة والسلام هي حفر الخندق، بل كان هدفه هو حماية المدينة من جيوش الأحزاب بكافة السبل الممكنة والمتاحة لديه، فلما جاءه سلمان الفارسي رضي الله عنه ببدعة جديدة وخطة حديثة لم تعهدها العرب في تخطيط المناورات القتالية والاستراتيجيات العسكرية، أخذ الرسول عليه الصلاة والسلام بها من دون تردد ولم يقل: "إنّ هذه من أفعال المجوس الذين أُمرنا بمخالفتهم وعدم الإقتداء بهم".
ولذا... فإنّ اتباع سنّة الرسول عليه الصلاة والسلام في وضعنا الحالي ليس من الضرورة بحفر خندق كخندق الرسول عليه الصلاة والسلام.. بل إنّ إتباع سنته هو في استحداث بدعة جديدة في فنون القتال كما ابتدع هو عليه الصلاة والسلام بدعته وجاء صاحبه بخطة حديثة في مناورات الحرب والتخطيط، وأتى بما لم يخطر على بال جيش الكافرين، بعد أن بلغت قلوب المسلمين الحناجر وظنوا بالله الظنونَ.
ولذا.. فإنْ استحدثنا اليوم طريقة جديدة واستبدعنا خطة حديثة للدفاع عن المدينة، فقد اتبعنا سنة الرسول واهتدينا بهديه واقتفينا أثره، فلا تتهمونا بترك سنته ونبذ طريقته إذا لم نحفر خندقًا كخندقه.
كلا الفريقين يدّعي إتّباع سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام... فأيهما يا ترى أقرب للسنة؟