عبدالرحمن الكواكبي في كتابه الذي صدر منذ أكثر من مئة عام (طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد) يتطرق الى الجندية والاستبداد العسكري الذي بليت به الأمة ويرى أنها السبب الرئيس لتخلف المجتمع وتفشي الفساد ويرى علاج هذا التخلف والانحطاط والخنوع هو الشورى الدستورية وبلغة العصر الديمقراطية الدستورية فيقول (فأما الجندية فتفسد أخلاق الأمة حيث تعلمها الشراسة والطاعة العمياء والاتكال وتميت النشاط وفكرة الاستقلال وتكلف الأمة الإنفاق الذي لا يطاق) ويقول (بأن المجتمعات التي ترى السلامة هي المغنم فإن هذه المجتمعات تستحق أن تكوى بنار المستبدين. فالأمة التي لا تشعر كلها أو أكثرها بآلام الإستبداد لا تستحق الحرية).
وأذكر هنا حينما كنت في اتحاد عام طلبة ليبيا فرع جامعة طرابلس في 1975 كان شعار (الشعب المسلح) وبرنامج التدريب العسكري الذي فرض على طلاب الجامعة والمجتمع الليبي أحدى القضايا التي تبنى الاتحاد فيها موقفا لإعادة النظر في كيفية تطبيق التدريب العسكري بحيث لا يتعارض مع التحصيل العلمي وضرورة اشراك أعضاء التدريس بالجامعة والاتحاد الطلابي في رسم برنامج للتدريب العسكري بحيث يحقق الفائدة العسكرية ولا يتعارض مع برامج الجامعة التعليمية.
كان للأتحاد العام لطلبة ليبيا فرع جامعة طرابلس وأعضاء هيئة تدريس الجامعة لقاء مع الرائد عبدالسلام اجلود في شهر مارس 1975 أيام قبل بدء الالتحاق بالمعسكرات. بدأ الرائد عبدالسلام اجلود حديثه توبيخا لنا ولدكاترة الجامعة والتهديد بالاعتقال والسجن.. رد عليه الدكتور المهرك والباشمهندس ابرهيم درميش من هيئة التدريس، والرفيق العزيز جمال اهنيد بما لم يكن يتوقع ولا يحب ولا يرضى، ووضح له الموقف الطلابي وأنهم لن يلتحقوا بالمعسكرات إذا لم يعاد النظر في برنامج التدريب العسكري وقام جمال بتسليم بيان الاتحاد العام لطلبة ليبيا الذي كان مطبوعا وجاهزا للرائد جلود الذي اشتاط غضبا وتوعد جمال وباقي الطلبة بأنه سوف يأتي بهم من أذانهم صاغرين..
كما أكد الرائد اجلود في حديثه أن أهم فائدة لديه أن يحقق برنامج التدريب العسكري تعليم المجمتع المدني والطلاب السياق العسكري بحيث يسمعون الأوامر ويقومون بتنفيذها دون نقاش.. وبمعنى أخر فإن الغاية من برنامج التدريب العسكري وشعار (الشعب المسلح) ليس الدفاع عن الوطن بل عسكرة المجتمع لتسهل قيادته وقتل روح المبادرة والنشاط العقلي والفكري في المجتمع تمهيدا لبروز الزعيم الأوحد والمفكر الأممي والصنم الذي تسبح بحمده الجماهير وتخضع لنزواته.. وما التدريب العسكري إلا وسيلة لإرساء دعائم الاستبداد وإفساد المجتمع وترويضه والتحكم فيه والعبث بمستقبله..
في تلك الليلة كانت بيوت الطلبة في سيدي المصري حيث كنت أقضي الليلة مع بعض الاصدقاء تعج بسيارات عسكرية ومخبرين في ملابس مدنية مسلحين باسلحة خفيفة (وغدارات) وكلاشنكوف تبحث من دار إلى أخرى عن أعضاء الاتحاد العام لطلبة ليبيا وقياداته..