ذكرت في مقالي السابق (سابع أكتوبر قبل 40 سنة... نقطة فارقة في حياتي) كلمة "بركة" في أكثر من موضِع عند الحديث عن سيدي ادريس (رحمات الله عليه تترَى)، وأود هنا التوسّع بعض الشيء لتوضيح ما قصدته بها...
فكما هو معروف فإن معنى "البركة" في المعاجم هو "الزيادة" و"النماء" و"الكثرة" و"الوفرة".. الخ... كما ورد في كتاب الله العزيز في عدة آيات منها: "سُبْحَانَ ٱلَّذِى أَسْرَىٰ بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَىٰ ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَا ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ.." [الإسراء:1] & "وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطاً إِلَى ٱلأَرْضِ ٱلَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ" [الأنبياء:71] & "وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَىٰ إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ" [الصافات:113]، وغيرها...
وكذلك فقد وردت البركة بمعنىً آخر، هو ما قصدته، والذي ورد في آيات مثل "إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ" [آل عمران: 96] & "إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ" [الدخان:3] & "وَهَـذَا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ" [الأنبياء:50]، ثم وصف الله لسيدنا المسيح على لسانه: "وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِٱلصَّلاَةِ وَٱلزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً" [مريم:31] وغيرها من الآيات الكريمة...
فالبيت العتيق مباركٌ، والليلة التي أُنزل فيها القرءان مباركةٌ، والذكرُ الذي أُنزل مباركٌ... والمعنى الأقرب لما أحاول الوصول إليه هنا هو في كون سيدنا المسيح عليه السلام مباركٌ -أين ما كان-!!! بمعني أن البركة ملازمة له، وأنها تحلُّ أينما حلّ!!.
فكيف السبيل إلى شرح هذا المعنى -الغيبي- بألفاظٍ، وكلماتٍ، وجُملٍ، وعبارات؟
اجتهد بعض سادتنا المفسرون بالقول بأن كلمة "مباركاً" تعني نفّاعاً ومعلماً للخير، وهو معنى يفقد شيئاً من مصداقيته عندما نطبقه على "البيت" وعلى "الليلة".. ولن أحاول سدّ هذا الفراغ بشرح لغوي لست مؤهلاً له، ولكنني سأستحضر -كمثلٍ قريبٍ- عاصرناه جميعاً، للتدليل عليها وتقريب معناها، وهو النجاحات الباهرة التي كلّلت مساعي الخير في الأيام الأولى من انتفاضة فبراير المجيدة، وما حاذاها من "بركة" يكاد يراها الناس بعيونهم ويلمسونها بأناملهم من شدة وضوحها وفعاليتها، غلّبت الخير الكامن في نفوس الناس وطَمَست شرورهم، فتألفت قلوبهم واقتربت وصاروا يتعاملون فيما بينهم بحبّ واحترام و-إيثار- لا نراه إلا في أرقى المجتمعات وأكثرها تحضّرا... وأجّجت روح التحدي والصمود في نفوس الثوّار والمواطنين، وأخمدت روح السلبية واللامبالاة والخنوع التي كانوا مستسلمين لها والتي تولّدت فيهم على مدى عقود طويلة من القمع والترهيب والتركيع الذي كان يُمارسُ عليهم؛ فهَبّوا وتعاضدوا وتراصّوا، وسقطت الخلافات والمنافسات إلا في التسابق لما يعجّل بالتخلّص من الجلاد ونظامه وأدواته القمعية.. وتيسرت أمور الثورة ضد الطاغية المجرم ومُني القذافي بالخذلان من أقرب المقربين إليه وفشلت مساعيه وخططه رغم إحكامها!
وجعلت (هذه البركة) الأسباب المحلية والدولية تتسابق من أجل إنجاحها، فصارت نتائج القرارات، حتى الخاطئة، تنقلب لصالحها وتصطف لدعمها... والأمثلة على ذلك أكثر من أن تُحصى، لعلّ واحداً من أوضحها -على سبيل المثال لا الحصر- كان عندما خرجت تلك المرأة على النظام (في ملابسات غامضة) واتهمت عناصره بالاعتداء عليها واغتصابها... الخ... فيما كان وقتها يشبه التمثيلية المبتذلة ذات الميزانية الرخيصة والإخراج الرديء.. ولكن ذلك الحدث تحوّل إلى قنبلة إعلامية تلقفتها وسائل الإعلام العالمية، عندما تصادف وجود مراسلة سكاي نيوز ضمن جمهرة الصحافيين في تلك اللحظة فتحمّست للقضية وحوّلتها إلى قضية حقوق إنسان، فزادت زخماً مهماً على الصعيد الإعلامي في تلك المرحلة الحساسة، فوضعت مزيداً من الضغوط على النظام وأصدقائه في وقت كان يترنح فيه...
يصعب شرح هذا المعنى (الغيبي) لمن لا يعترف به، ولكن لا يمكن إغفال تأثيرها، خاصة عندما تُقارن تلك الأوضاع، أو ذلك المناخ، بالمناخ الذي ساد لاحقاً عندما "رُفعت" البركة فطفح الشر الكامن في نفوس الناس مثل طفح مياه الصرف، فتغوّلت الأطماع، وتنافرت القلوب والعقول وبعثت حروب البسوس من جديد وسيطرت الأجندات، وساد الغش والفساد، وسالت الدماء، وتقطعت الأرحام حتى صارت البلاد على شفا نهاية مأساوية لا عودة منها إلا بكرامة وبركة ربانية...
راجع: سابع أكتوبر قبل 40 سنة... نقطة فارقة في حياتي (1 من 2)