ما يجمع هذه الخواطر المتفرقة أنها تتعلق بهذه المناسبة التي كانت نقطة فارقة في حياتي، حادت بي عن كل مخططاتي وتصوراتي لمستقبلي، وأدخلتني في تجربة لم تكن تخطر ببالي أبداً !!!
فبعد أن مارست النشاط المناوئ لنظام الانقلاب لعدة سنوات، بدوافع حماسية فطرية، وبطريقة عشوائية تنقصها الرؤية الواضحة للهدف المحدد من معارضة النظام، باستثناء التمرّد التلقائي على الاستبداد وقتما كنت طالباً في كلية الهندسة بجامعة طرابلس؛ واصلت العمل السري من داخل صفوف اتحاد الطلبة في الخارج (فرع المملكة المتحدة) الذي شاركت في تأسيسه بُعيد وصولي إلى مانشستر صيف سنة 1976... ثم تحوّلتُ -بين عشيةٍ وضحاها- إلى المعارضة العلنية كأحد مؤسسي تنظيم "الاتحاد الدستوري الليبي"؛ لألجُ بذلك عالَماً مختلفاً اختلافاً كليّاً عن التجربتين السابقتين، فيما يُشبه الانتقال من صفوف الهواة إلى صفوف المحترفين في عالم الرياضة إن جاز التعبير!!! فالعمل الوطني صار محدّدا بأهداف ثابتة واضحة، والمعارضة العلنية تعني أنه لم يعُد بالإمكان التراجع أو "تغيير الرأي"، وكان لذلك الموقف وللأهداف التي نادينا بها تبعاتٌ وعواقبٌ جسيمة، شكّلت خط سير حياتي على صعيد العلاقات الاجتماعية وكثير غيرها...
وبالعودة اليوم إلى مراجعة واستكشاف تلك التجربة وما كان ينادي به الاتحاد الدستوري يمكن ملاحظة البساطة التامة لذلك الطرح الذي قام على 3 عناصر رئيسية نابعة من رحِم موروث الشعب الليبي ومن صميم مكتسباته الوطنية الصرفة، هي: الدستور، الملك، العلم…
فقد نادى الاتحاد الدستوري بضرورة التمسّك بـ "الشرعية الدستورية" التي قوّضها انقلابيون من الدرك الأسفل في المؤسسة العسكرية الليبية يوم 1 سبتمبر 1969، في انقلاب يحمل جميع مواصفات وسِمات الانقلابات العسكرية التي كانت تنفذها في تلك الحقبة وكالة المخابرات المركزية الأمريكية (CIA) في دول العالم الثالث (أمريكا اللاتينية، وأفريقيا؛ والعالم العربي على وجه الخصوص).
ومنذ البداية فقد ركّز الاتحاد الدستوري على وجوب التصدي الجماعي للانقلاب -الفاقد للشرعية- بتوحيد جهود كافة المعارضين في داخل الوطن وخارجه، ومواجهة الانقلابيين وقوفاً على أرضية صلبة هي أرضية "الشرعية الدستورية" المتمثلة في الدستور الليبي (دستور الاستقلال)، تحت علم الاستقلال، وتجديد البيعة لرمز تلك الشرعية الدستورية وممثلها؛ بطل الاستقلال، ومؤسس الدولة الليبية الحديثة، الملك العادل، والولي الصالح السيد محمد ادريس السنوسي، الذي كان وقتها على قيد الحياة، وفي كامل قواه العقلية (وبرَكَته حاضرة فيّاضة) بالرغم من تقدمه في السن...
لم يتجاوز الاتحاد الدستوري دوره، فلم يدّعِ إنقاذ الوطن ولم ينصّب نفسه ناطقاً باسم الشعب ولا ممثله الوحيد، ولم يقترح في طرحه أي تصوّرٍ لشكل الدولة ونظام الحكم بعد الإطاحة بنظام الطاغية المستبد، الذي بدأت تتضح لنا ملامح نواياه في السير الحثيث بالبلاد نحو هاوية سحيقة لن تكون النجاة منها ولا التحرر من تبعاتها بالأمر الهيّن، حتى وإن انتهى عهده بطريقة أو أخرى، في حالة لم يتمكن الشعب من إسقاطه والإيقاف الفوري لمخططاته الشيطانية؛ واكتفى الاتحاد الدستوري باقتراح إجراء استفتاء شعبي لتقرير شكل الدولة ونظام الحكم عقب إسقاط النظام، الذي ينبغي أن يكون الأولوية القصوى في تلك المرحلة.
ويجدر التنويه إلى أن عمر الانقلاب يوم الإعلان عن تأسيس الاتحاد الدستوري كان 12 سنة فقط.. يعني أنه لم يكن قد ثبّت أقدامه بالكامل بعد، كما أن مشروع الدمار الذي يحمله لم يتغلغل بعد في نفوس الناس ويشوّهها، ولم تتشرّب قلوب وعقول عدة أجيال متتالية بفساده وفُحشه...
في ذلك الوقت ما زال معظم عُقلاء وشخصيات عهد الاستقلال من مجاهدين وأعضاء في مجلسي الشيوخ والنواب، والوزراء، والدبلوماسيين المتمرسين، على قيد الحياة، وكان كثير منهم خارج البلاد، ولم يكن مستحيلاً -في تصورنا في ذلك الوقت- جمعهم في كيان واحد…
كان ذلك الكيان سيحظى بقدر عالٍ من الاحترام والقبول الوطني والدولي، وتمثيل كافة مناطق البلاد وشرائح شعبها، وكان مؤهلاً لأن يحوز على الشرعية الدستورية الكاملة عندما يتم تجديد البيعة للملك (وجبر خاطره -المكسور- لنيل "بركته" التي بسببها فقط سُبِّبت الأسباب، فتهيأت الظروف، وتيسرت الأمور حتى نالت ليبيا استقلالها ضد جميع الموانع المحلية والأطماع الإقليمية والعالمية؛ والتي عندما أبعدت وغابت ودّعت البلاد الأمن والاستقرار، ودخلت في نفق مظلم شديد الانحدار من الفوضى والتخبّط وحكم المزاجية والهوى سرعان ما تحوّل إلى القمع والاستبداد في أبشع صوره.
نعم، لقد كان الملك إدريس بركة من الله تمشي على أرض ليبيا، فوحّدتها واستحثّت بذور الخير في أهلها فأنبتت دولة من صندوق الرمال، واستقلالاً من أشلاء الاستعمار والأطماع وحروب البسوس، وثلاثي الفقر والجهل والتخلف، فكل المعطيات والدلائل كانت تقول إنه لن تكون هناك دولة مستقلة محترمة.. لكن تمكنت بفضل الله تلك البركة من جمع الوطن الممزق لتجعل له دولةً ودستوراً وعلماً...
ولكن ذلك الخطاب-السهل-بعودة الشرعية لم ينزل برداً ولا سلاماً، ولم يلق قبولاً ولا اهتماماً، بل وقع وقعاً عنيفاً على الجميع !!! على النظام بطبيعة الحال، وعلى النشطاء المعارضين وعلى عامة الناس، وأثبتت الأيام أنه كان "السهل الممتنع" !!!
فلم يحظَ إلا بالاستخفاف والاستهزاء من قِبَل السُذّج الذين لا معنى ولا قيمة للوعي الدستوري لديهم، والذين مسحت بروباقاندا النظام وحملات أبواق إعلامه، الملك ادريس من وجدانهم وملأت قلوبهم بالحقد عليه، فانطلت عليهم الحيلة وغاب دوره الحاسم في تحقيق الاستقلال وتأسيس الدولة الليبية عن عقولهم وضمائرهم، حتى صار نسياً منسياً !!!
بينما قوبل بالنفور والعداء من المثقفين والحزبيين الذين كانت تهيمن على عقولهم قناعة أن ما حصل يوم "الفاتح" كان بالفعل ثورة حقيقية، ولكنها حادت عن مسارها!!!
أما الخُبثاء وأصحاب المآرب والأجندات -وعملاؤهم- فقد رأوا فيه خطراً محدقاً على مخططاتهم المدمّرة لليبيا والتي لم يكن انقلاب سبتمبر إلا الحلقة الأولى فيها، فقرروا محاربته بعد أن فشلوا في وأده...
كانت فكرة مشروع الاتحاد الدستوري محاولة صادقة من نفر قليل لإعادة عقارب الساعة إلى ليلة 31 أغسطس 1969، والانطلاق نحو بداية جديدة يُستفاد فيها من درس الانقلاب العسكري، وأخطاء أواخر عهد الاستقلال.. ولكن يبدو أن سريان حُكم قوله تعالى في الحديث القدسي "مَن عادَى لي وَلِيًّا فقَدْ آذَنْتُهُ بالحَرْبِ" كان قد دخل حيّز التنفيذ.. و"لِلَّهِ الْأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْد"...
سأتوقّف عند هذا الحدّ.. فهذه مجرد خاطرة أربعينية بالمناسبة لا أكثر...
رحم الله من سبقونا إلى جوار ربهم من أعضاء الاتحاد المؤسسين، وحفظ الباقين منهم على قيد الحياة.. وحفظ الله بلادنا، وأعاد لها أمنها واستقرارها وازدهارها.. وردّ لأهلها رُشدهم.
* سيتبع الجزء الثاني بعنوان: "البركة .. وما أدراك ما البركة“.
مانشستر، 07 أكتوبر 2021