هناك صورة مغلوطة عالقة في أذهان الكثيرين حول حدثٍ تاريخيٍ لمدينة بنغازي يكاد أن يتحول إلى حقيقة تاريخية ثابتة بسبب عدم تناوُلَه بالبحث والتمحيص وتوثيق الصحيح منه وفرز ما هو دون ذلك ودحضه.
فالصورة التي تعشعش في أذهان أغلب الناس هي أن مجتمع المدينة كان يضم جاليةً يهودية عريقة ضمن مكوِناته المتعددة، تعايشت بسلام وأخوّة وتراحم مع المجتمع بشكل عام في السراء والضراء، محافظةً على هويّتها ومتمتعةً بكامل خصوصياتها الدينية والاجتماعية بلا تمييز -سلبي أو إيجابي- ولا تفرقة عنصرية أو عرقية... وأنه، فجأةً، وبلا سابق إنذار وتحت ظروف معيّنة، غدَرَ "عرب بنغازي" بهم، فانقلبوا على إخوانهم وجيرانهم اليهود في يوم 5 يونية 1967، واعتدوا عليهم وعلى أرواحهم وممتلكاتهم ضاربين عرض الحائط بأمانةِ نبيّهم (صلى الله عليه وسلم) وبأصول العلاقة التي ربطتهم بإخوانهم على مدى قرون عديدة منذ أن نشأت المدينة وتوسعت وتطوّرت!!
يتوهمون هذه الصورة، ولكنها غير صحيحة بكل تأكيد، في بنغازي تحديدا... وأنا هنا أتحدث فقط عن مدينتي بنغازي، وعن "عربّ لبلاد" كوني عاصرت ذلك الحدث وكنت شاهد عيان على أحداثه منذ بدايتها وحتى نهايتها في ذلك اليوم المشؤوم.
فهناك خلفيّة مهمّة لا يمكن إغفالها عند التعاطي مع هذا الملف الشائك والمؤلم، وينبغي استحضارها لوضع المشهد في نصابه الصحيح واستحضار الظروف والملابسات التي كانت سائدة في تلك اللحظة من الزمان.
فقد طرأ تغيير سكاني في غاية الأهمية أثّر على تركيبة المجتمع البنغازي قبل تلك الأحداث بعامين تحديداً!... ففي صيف سنة 1965 أعلنت الدولة الليبية عزمها على الشروع في تنفيذ "مشروع إدريس للإسكان"، وتشييد 100 ألف وحدة سكنية في مختلف أرجاء المملكة، كان نصيب مدينة بنغازي منها خمسة آلاف وحدة سكنية تم بالفعل العمل على بنائها لتوزيعها على محتاجيها من المواطنين.
وبمجرد أن أُعلن عن ذلك المشروع توافدت أعداد هائلة من سكان القُرى المحيطة بالمدينة عليها وشرعوا في بناء أكواخ من الصفيح في الأراضي الفضاء من حولها -غير آبهين بحقوق مُلاك تلك الأراضي- شكلت حزاماً محيطاً بها وأقاموا فيها بغرض الضغط على الحكومة لاعتبارهم ضمن مستحقي تلك المساكن ... فامتلأت مدينة بنغازي في فترة وجيزة بوافدين لم ينشؤوا فيها ولا يعرفون تقاليدها الموروثة جيلاً بعد جيل، ولا المواثيق -غير المكتوبة- التي تحكم العلاقات بين مكونات مجتمعها المتباينة، ولا يقدّرون خصوصية مكونات مجتمعها المتعدد والمتجانس... وقد كان يهود المدينة بالنسبة لهم مثل بقيّة سكانها القُدامى، سواءً كانت أصولهم عواقير، أم من غرب البلاد أو جنوبها، يملكون -بدون وجه حق في نظرهم- المتاجر والسيارات، ويسكنون البيوت الأنيقة والشقق والفيلات، وكانوا ينظرون إليهم نظرة حسد ويغبطونهم على ما هم فيه من ترف.
وما أن أعطاهم راديو "صوت العرب" والمهزوم جمال عبد الناصر الذريعة حتى تجاوبوا مع تحريضه الظالم، فهاجوا وماجوا لقضاء حاجة كانت كامنة في نفوسهم، فتوجهوا نحو محلات ومتاجر ومساكن اليهود في المدينة وصبّوا جام غضبهم -وحقدهم الدفين- عليهم، وحدث ما حدث في ذلك اليوم الكئيب...
وفي وصف ارتجالي سريع وغير مُنصِف ترسّخ في أذهان الناس أن "عرب بنغازي" غدروا بيهودهم!!!
إلا أن ذلك بعيد كلّ البُعد عن الصحة، فشهود العيان رأوا أعداداً من شخصيات المدينة وأعيانها يدافعون عن جيرانهم اليهود ضد أولئك الغوغاء، معرضين بذلك سلامتهم وأمنهم لخطر تلك القطعان الهائجة... وعلى سبيل المثال -لا الحصر- وقف الوجيه البنغازي الحاج محمد علي الصابري (رحمه الله) مدافعا عن بيت العبادة اليهودي القريب من بيته، وذلك بحسب الشهادة الموثقة لابن جيرانهم روفائيل لوزون، وكذلك دفاع الفنان علي الشعالية (رحمه الله) أمام محل التاجر اليهودي المشهور خاني بدوسا بشارع الاستقلال، موضحاً للجماهير الهائجة أن "خاني راهو ولد بلاد كيفنا" وأن هؤلاء إخواننا وجيراننا ولا علاقة لهم بما يحدث في الحرب في فلسطين! ومن أراد القتال والدفاع عن فلسطين فليذهب إلى الجبهة ويقاتل هناك، وليس بالاعتداء على الأبرياء العُزّل... ولكن مناشداته ونداءاته كانت تقع على آذان صمّاء وعقول عطّلها الحقد والحسد عن التفكير، بالإضافة إلى أن كلمة "ولد بلاد" لم تكن تعني شيئاً عند تلك الشريحة الزاحفة حديثاً إلى مجتمع المدينة.
صحيحٌ أن كثيراً من عرب المدينة (عيال البلاد) الذين عشقوا جمال عبد الناصر لدرجة التقديس، وتشبّعوا بخطاباته النارية وآمنوا بشعاراته الزائفة وصدّقوا وعوده الجوفاء وانتصاراته الوهمية كانوا قد خرجوا إلى الشوارع في مظاهرات غاضبة تنادي بطرد اليهود من البلاد انتقاماً لما كان يفعله الجيش الإسرائيلي بإخوانهم الفلسطينيين، إلا أن تلك الغضبة لم تتحول إلى الاعتداء بالضرب أو حرق البيوت والمتاجر، ولا السلب والنهب، بل كانت مجرّد صراخ مسعور أجوف مثل صراخ وزعيق راديو "صوت العرب".
هناك صورة واضحة في ذاكرتي من ذلك اليوم حيث كنت وصديقي عبد الحق الورفلّي (رحمه الله) واقفين نشاهد تلك الأحداث عندما عرض علينا أحد أولئك السُراق شراء مشروبات كان قد سلبها من محل "بيني" اليهودي الذي بالقرب من ظهر مبنى البريد الرئيسي، فكان جواب عبد الحق الفوري "نحطّ موس في بطني ولا نحطّ فيها بضاعة مسروقة من دكان بيني".
وأتمنى على "عيال بنغازي" اليهود الباقين على قيد الحياة أن يُدلوا بشهاداتهم في هذا الجانب من ذلك اليوم المشهود، ولا مانع عندي من دحضهم لكلامي هذا لو كانت شهادتهم بأنهم رأوا أحدا من "عيال البلاد" الذين يعرفونهم يسلب أو يحرق بيت أو محل يهودي... وأما الفعَلَة فقد كانت وجوهاً غريبة لم يروها في حياتهم قبل ذلك اليوم الدموي... أتمنى ذلك من أجل تصحيح الصورة وتوثيق الحدث من أجل إيجاد أرضية صحيحة للتعايش السلمي بينهم وبين "عرب بنغازي" إن كانوا على أمل حقيقي بإمكانية العودة إلى مدينتهم.
وفي غياب الاهتمام الرسمي والنخبوي والشعبي بهذه الأحداث المهمة في تاريخ المدينة والدولة فإن ما أحاول القيام به هنا ليس تبييضاً لما حدث ذلك اليوم، بل تجميع وتقديم مادة تاريخية -موثوقة- للمؤرخين المنصفين الذين سيكتبون عنه، وذلك استئنافاً لمسعاي الذي بدأته منذ أكثر من 25 سنة عندما تصدّيت لهذا الملفّ الذي كان يكتنفه الغموض، في غياب كامل لأية معلومات صحيحة ومحايدة وموثّقة، أنتجت مناخاً ضبابياً أفرزته الإشاعات والتُهم التي كادت أن تتحول إلى أدلة إدانة... وذلك بتقديمي لكمّ هائلٍ من الوثائق التي تؤرخ لأحداث مفصلية في تاريخ اليهود الليبيين منذ منتصف الأربعينيات من القرن الفائت وقتما بدأت نشاطات المنظمات الصهيونية العالمية المُمَهِّدة لقيام دولة إسرائيل في فلسطين تلقي بظلالها السلبية على الجاليات اليهودية في الدول العربية (ومنها بلادنا ويهودنا)، فأدّت إلى مواجهات دموية عنيفة بينها وبين مجتمعاتها التي عاشت فيها على مدى أزمنة متعاقبة تعدّ بالقرون في بعض الحالات. وقد احتوت تلك الوثائق التي ترجمتها وقدمتها للقارئ على مستندات رسمية للحكومة البريطانية، التي كانت تحكم ليبيا أثناء أحداث 1945 & 1948 الدامية، والتي تم الإفراج عنها من أرشيف الوثائق البريطاني بعد مرور 30 أو 50 سنة عليها، وكذلك تراجم لمراجع أكاديمية وتقارير صحفية معاصرة لها، صارت فيما بعد مرجعاً أساساً للباحثين الذين تناولوا قضية يهود ليبيا وأثْروا الموضوع وزادوه توسعاً حتى عاد اليوم صفحات واضحة من صفحات التاريخ الليبي الحديث، له ما له، وعليه ما عليه....
وفي الختام تجدر الإشارة إلى أن يهود بنغازي لم يكونوا يسكنون في مناطق أو أحياء خاصة بهم (تُسمّى "حارة اليهود" في بعض الدول العربية، و "الغيتو" في الدول الأوروبية)، بل كانوا يسكنون في وسط المدينة جنباً إلى جنب مع بقية "عَرَبْها"، في شارع عمر المختار، وشارع البلدية، وزنقة الدرفيلي، وشارع المهدوي (حيث وُلِدت)، وشارع الشويخات، وغيرها من شوارع "صرّة البلاد"، بدون أي تفرقة ولا تمييز... وهي خاصيّة تميّزت بها مدينة بنغازي ويهودها.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن مصطلح "عربّ بنغازي" أو "عيال البلاد" لم يكن مقتصراً على المعنى اللغوي الذي يعني العرب جنساً، بل يصف "أهل المدينة"، مهما كانت المناطق التي أتوا إليها منها قُبيل تأسيسها، أو الذين اتخذوها مأوىً لاحقاً، من شرق البلاد وغربها وجنوبها، وكذلك تشمل مَن أصولهم غير عربية، مثل اليهود، والكريتلية، والأفارقة، والبربر (الأمازيغ) وغيرهم من مكونات وخيوط نسيج المدينة الفريد والمتميّز.
19/08/2021